• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : بين صوم تكتيكي وصوم استراتيجي .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

بين صوم تكتيكي وصوم استراتيجي

حواسنا هي وسيلتنا للعلاقة مع الوجود المادي من حولنا..وهي مداخله إلى نفوسنا..وهي التي قد ترقى بأرواحنا إن هي استجابت لصوت العقل وقد تهوى بنا إن هي صارت مطيّة لشهوات شأنها التّوحّش والعطاش..حتى في تجربة البحث عن المعرفة لا تترك الحواس لحالها فلا بدّ لها من ناظم ولا بد من حسّ مشترك..فماذا يعني يا ترى أن تصوم أيّها الغافل مثلي إن كان صومك لن يتعدّى انقطاعا عن المشرب والمأكل ومثله تفعله كائنات تصوم بالأيام وصالا؟ ما قيمة هذا الانقطاع من حيث قيمته المعنوية والروحية إنّ كان الانقطاع مادّيا صرفا لا معنويا يصاحب الصوم الأوّل؟ لن يستقيم صوم صائم إن لم يكن صوما معنويا ليس الانقطاع فيه عن استهلاك الماديات سوى مدخلا ضروريا من شأنه أن يعزّز الوحدة المادية والروحية للإنسان..ففي الشرق والغرب جماعات لا تصوم، لأنها ترتوي من دماء النّاس..وفي عرصاتنا الضّائعة أقوام يأكلون لحوم بعضهم البعض كالكانيبال..يخرج الغافل من شهر الصيام برياضة بليدة من اعادة توزيع وجبات في تحايل على الكرونولوجيا بينما المعنوية تثقل والعقل مأخوذ بالشهوات..وحتى الطقوس الدينية في العموم تكاد تكون سطحية لا تغمر الروح ولا تستقر فيما خلف الحواس..فالطقسنة تعني افتقاد العمق الروحي والمعنوي..شهر الصيام هو مناسبة لتغيير العادات السّيئة وإخضاع المكلف لأنماط من السلوك والحياة يكسر من خلاله تبلّد الأحاسيس ويمنحه فرصة أن يتجاوز حيوانيته ويخوض مرانا في الصبر والجلد..إنها ليست محاولة لقمع شهوات الجسد، بل لمنحه راحة بيولوجية ومعنوية تجعله يستأنف الحياة باقتدار مختلف وتدبير جديد..فلسفة الصيام وأسراره تتعدّى فعل الانقطاع..ليس شهر مجاعة بل شهر ترقّي..تفقد كل فريضة قيمتها حين تفقد وظيفتها وغايتها في سلوك المكلّف..ولو أدرك المكلف تلك القيمة الثاوية في صلب التكليف لمارسها بمتعة الإشراق وتحصّل منها فوائد معنوية لا تحصى..آلاف الأيام من العلف من شأنها أن تحوّل هذا الكائن إلى بقر..وقد يكون الصوم هو كسر العادة وانتصار على محاولة أنسنة البافلوفية، لكائن يقاوم بوعي الضغوط الطبيعية التي تمارس على رغباته..كل خلية في الكائن تتمرّد على الثّقالة وعلى الأنماط التاريخية للاستهلاك..هي حالة تربوية للتحكّم في كل شيء مادي ومعنوي في الإنسان من إنزيماته إلى رغباته النفسية..لا بدّ من قهر التوحش الساكن في أحشائنا..وهنا تحضر كل مفاعيل الصوم في الحياة الخاصة والعامة للإنسان..الصوم منعطف تربوي كبير، فلا تجعلوا انزيماتكم تتحكم في معنوياتكم..هي رياضة كل يستفيد منها بقدر خبرته في السلوك..أوّلها انقطاع ساذج عن الطّعام ومنتهاها الصوم عن الشّرور.. والغبي من لم يخرج من حدذ السذاجة إلى حدّ العمق في الرياضة ..أيها السالك في دروب الكمالات، فلا يتحصّل أدناها إلا بإنهاك الجسد برياضة مادية لن تكون سوى شرط مقدمي لرياضة أخرى معنوية..هذا الجسد نعمة كبرى توصلك ببعد من أبعاد العالم ولكنها أيضا حجاب..إن الصوم هو في نهاية المطاف شكل من التدبير المعنوي للجسد..وخلق شروط التّماس مع حضيرة الأنس المعنوية التي لا ندخلها مثقلين..لا تقهر جسدك المادي إن كنت لن تخضع جسدك المعنوي لرياضة أشدّ منه وأبقى..فإن لم تفعل وأفعل فلن يكون حضّك من الصيام سوى الجوع والعطش..واعلم أنّ الصوم ضرب من الصلاة أيضا كما الصلاة ضرب من الصوم..ففي كل ركن من هذه الأركان تحضر سائر أبعادها الأخرى.. صوموا كما تصلّوا .. ولنجعل من ذلك مطيّة سفر روحي قدر المستطاع..



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=79489
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 06 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 3