للحداثة فتنتها..كما للتقليد فتنته..وفي كلّ الأحوال فإنّ الصراع بين الحداثة والتقليد هو في أصل الرؤية المتجدّدة للعالم..ولكن في أصل هذه الرؤية دائما يوجد النّص..والنّص هنا لم يعد ذلك المكتوب الذي يتيح لنا احتواء الوثيقة..اليوم في المنظور اللساني باتت الممارسة الشفهية هي الأخرى منتجة للنصوص..النّص هنا بات أوسع معنى من المكتوب..عملت الأنتربولوجيا الحديثة على تقصّي النصوص الضميرة في طقوسيات شفهية ومعتقدات أسطورية وظواهر عمران بشري طاعن في البدائية..لا شيء يخرج عن النّص..فهذا الأخير هو الأرضية الأولى لانطلاق عملية التفكير..هناك لا شك تدركون أنّني أعود إلى باختين..ولكن الشيء الأهم عند باختين هو أهمية التأويل والتناص..بما أنّ الكلمات عبرت منذ القديم عن كل شيء، فليس من مخرج للمعنى إلاّ أن يبني نفسه على محاورة النّص وتجربة التأويل..ومع أنّ الثورات التي عرفتها فلسفات اللغة والسيميائيات وما في حكمها قد قرّبت أكثر جدل الفكر واللغة بشكل أكثر جذرية إلاّ أنّ هذا همّ قديم ولكنه همّ تعرّض لقمع الموقف التقليدي للسلطة التي تبني أيديولوجيتها على وجه من وجوه تأويل الحقيقة..التّضحية بالنّص ليست حلاّ حينما يبلغ التّأويل منحدر التّفاهة..لن نذيب كل أشياء الكون، فقط لأنّ العقل الذي يفكّر في الأشياء يحول دون تقدّم عملية التأويل التي لها صلة بالتربية والحياة..في عصرنا كسائر العصور هناك حجز بل احتجاز للنصوص..وهناك احتكار للتأويل..وهناك أحياز للمعنى وسلطات محددة للمعرفة..وأمّا توزيع نفوذ المعنى وسلطات المعرفة فهو الواقع الجديد الذي يدفع باتجاه الثورة ضدّ التقليد..مع أنّ الحداثة هي الأخرى قد أصابها من عوائد التقليد ما أصابها حين حاولت أن ترسي مقولاتها النهائية مما أثار حفيظة نقّادها الذين بلغوا بها مبلغ ما بعدها إمعانا في تنويع إمكاناتها وتكريس قدرتها على التطور الدّائم..الإجهاز على المعنى هو ما يسم اليوم خطط التقليد في قمع النّص واستنطاقه وإقحامه في لعبة التّناص..هنا أتحدّث عن البنيات القارة للنصوص بصفة عامة..ولا شيء يشذّ في هذا البناء غير ما يتعلّق بجودة النّص وعمق الدّلالة وهندسة المعنى..يحدث هذا حتى بين مختلف النصوص الإبداعية..ينبهر باختين حدّ الإمتاع والمؤانسة بنص دوستويفسكي..وهنا أحبّ أن ألفت إلى النّص الديني عموما والنص القرآني خصوصا..ذلك لأنّ خصوصية النص القرآني في الثقافة العربية والإسلامية لا تقتصر على المحتوى فحسب، بل بخلاف سائر النصوص الدّينية تكمن خصوصيته أيضا في الشّكل الفنّي..يهتمّ التّأويل بالشكل والمحتوى ويسعى عبر أوالياته لخلق منتهى التناص بين الفكر واللغة..بين اللغة والحقيقة والعالم..كل شيء يذاب في أتون القراءة..الكلمات والأشياء..وتبدو هنا معضلة النّص الديني في تجربة الكلام الإسلامي في حالة صراع مستمر..فلا زالت هناك استمرارية لسلطة التأويل الأوحد..ولا زلنا أمام تحدي أورتذكسية التفسير النّهائي ممن يعيد إثارة محنة التراث الآخر وإمكانياته المعطّلة في تفجير النّص والدخول معه في علاقة تناص حلاّقة من شأنها أن تزحزح بنية العقل العربي..لا زال الخوف من المعنى الآخر..الآخر الذي يبدو غرائبيا..ومعه تبرد أنفاسنا وتتحجّر نظراتنا.. ومع تراكم التقليد ورتابته أصبح العقل العربي والإسلامي عموما أمام حالة من فقدان الجذب (l extase)..الرتابة التي تساهم في قتل المعنى وتحنيط النّصوص وبالتالي موت الحياة والاستقالة العقلية..فالعالم بخلاف الإنسان لا يتحمّل أضرار الأيديولوجيا وجنونها..فحينما تحاول الأيديولوجيا أن تلعب في المساحات الأخرى التي لا تدخل في اختصاصها يكون ذلك إعلانا مبكّرا لخراب العمران..ومن دلك على سبيل المثال أن تتكفّل الأيديولوجيا في فرض رقابة على النّص والحؤول دون زحزحته عن أسباب نزوله لتفتح له مجالا للتناص..الزحزحة هنا ليس انزياحا مفتعلا للنص، بل هو تحرر..يحصل هذا في الطبيعة في مثال عالم الإيونات..يحصل في كل ما هو طائر ومتحول من مدار إلى مدار آخر في عملية تشكّل عالم الأشياء..وكذا يحدث في الإبداع المستمر للجمل حسب النظرية التوليدية لتشومسكي..يحصل في العملية التأويلية التي تقوم على المجازات والاستعارات..حرّاس السّيّاق مثلهم مثل حراس المعبد لا يفعلون أكثر من تكريس حالة النّفاق في اللغة والمعنى..التخلّف اليوم ضارب الإطناب في مستوى تدبير النصوص..ولازال الجمود يهيمن على مقدّمات التفسير وعلوم الآلة التي ألحقت بسائر المتون وتقنية الأراجيز..كان المطلوب حتى اليوم هو تنشيط الحافظة بدل الدّراية..بل الدراية نفسها عادت لتتواطأ مع ملكة الحفظ..تحوّلت الدراية إلى رواية..وازداد الوضع تعقيدا..وحينما تتعقّد مقدّمات العلم هذا يعني أن العلم أصبح جهلا..ففي مثل هذه الحالات يصبح الأنوار شكلا آخر من الخداع..ذلك لأنّ متعة الأنوار لا تتحقق إلاّ بعد أن نأتيها من العتمة..والجهل المركّب هو ضرب من العلم..هكذا حسبه الكثيرون لأنّ حكمه كاشف وهو ضرب من الوجدان..ولكنه وجدان زائف..أي أنوار زائفة..الأنوار الزائفة تشوّش على الحقيقة..لذا كان لا بدّ من العودة إلى الجهل البسيط..لأنه العتمة..مثل الإنسان وهو يخرج من ظلمات الأحشاء لا يعلم شيئا..ولكن إذا ما جاءه العلم عن طريق الجهل المركّب، فهو لازال في مدارات الأنوار الزّائفة..ولا مخرج إلاّ بخرق الجهل المركب وإعادة الكائن إلى أصل العتمة التي منها يكون الانطلاق منطقيّا إلى الأنوار الحقيقية..والتأويل الأمثل للنصوص هوأبسط من كلّ تلك المقدّمات..والتّأويل يبدأ من العتمة..من المتشابه ليصل إلى المحكم عبر عملية تحرير اللفظ من سياقه ليعانق معناه في سياق أحكم..إنّ اللّفظ عبر التّأويل والتناص يلاحق ويتتبع أثر معناه الهارب..استنباط المعنى أو استيحاؤه يتم من داخل المخزون الهائل للمعنى الكامن في النّص..نحن في حاجة إلى تناص..أن نعيد الصّلة بكل نصوصنا ونصوص غيرنا..لأنه مع كل قراءة ينهض فكر جديد يتموضع في البنية العميقة للغة نفسها..وللتذكير فإنّ هذا من أهم ميزات لسانيات باختين بل المدرسة الروسية التي تأثّرت بمنحاه..إنها ناظرة في النصوص، لأنه من دون نص لا توجد أصلا إمكانية للتفكير..إن كان هناك قيمة مضافة للحداثة فهي الرغبة في المغامرة..هي الرغبة في غزو المسالك الممنوعة في الطبيعة والنصوص..وهذا هو قوام الحرّية.. إنّ الله لا يخشى حتى أن يشرك به..وبالتأكيد لن يخشى من المعنى المتجدد للنصوص..لأنّه لهذا خلق النصوص..أو استحدثها..علما أنّ القائلين بخلق القرآن هم أكثر انحيازا للمجازات والتأويل بينما ذهب القائلون بحدوثه إلى تحنيط النّص منذ الكلام الأوّل حتى الكلام الأخير..كان أحرى أن يكون العكس..فلم الحديث عن محنة ابن حنبل إذن؟ كيف يشبع العلماء من نصّ محنّط بينما جاء في الرواية: ولا يشبع منه العلماء؟ كيف يقرن شيء بالشمس التي تطلع على الناس كل يوم بالنور والدفئ ثم نخضعه للرتابة والجمود ونرهنه بعلوم آلة تآكلت وفقدت جاذبيتها؟ أم على قلوب أقفالها..أم هي العقول التي تحجّرت حتى عادت كالحجارة أو أشدّ قسوة؟ أم هي سيرة أكثرهم لا يعقلون؟ أم هي سيرة إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؟ أم هي قصة يعلمون ظاهرا من الحياة الدّنبا؟ أم هي لعنة الهروب من الباطن والكفر بالمجاز والإشفاق من أمانة التأويل؟ أم هي الرغبة ـ رغبة إبليس القديمة نفسها ـ في تبنّي خدعة القياس مع الفارق وهو آلية الحمقى في كلّ العصور؟ أم هو غياب الشجاعة من أجل الوجود والمعرفة والاكتفاء بالرتابة وعدم الرغبة في الخروج والسّفر والتخارج النوعي؟ كم ينبغي أن ننحطّ حضاريا وكم يتعين علينا أن نتحجّر فكريّا وكم ينبغي لنا أن نملأ الحياة خرابا وموتا وظلامية حتّى ندرك أن المخرج من سطوة اللصوص هي انفتاح مختلف على النصوص..ولكن هذه المرة وفي كل مرة بالتأويل..تأويل نصوصنا وتأويل شخوصنا وتأويل لصوصنا وتأويل فصوصنا..لا شيئ يشذّ على التأويل حتى التأويل نفسه..وهذا هو طريق العلم..طريق الراسخين في العلم..ألا هل بلّغت.... |