أستعمل مفرد "اللغة" عنوة لتبسيط مسألة تفسير الواقع من طرف المسلم المتحرر. هكذا أقول مثلا إن اللغة منهاج للعبادة. هكذا يمكن القول أيضا إنّ اللغة منهاج للتحرر. لكن في الحقيقة ما أقصده باللغة أنها أداة وفكر، لكنها أيضا، كما قدمت أعلاه، عقل نفهم بواسطته ونحكم بواسطته ونختار بواسطته. واللغة عقل لأنها متناظرة ومتطابقة مع الدين. عندئذ لا مناص من أن يكون حديثنا عن اللغة حديثا عن علوم التربية وعن الألسنيات. ومن ثمة نفهم أن تلكم العلوم ستكون ضالعة أيضا بصفة غير مباشرة في تفسير الظواهر الدينية والواقعية. فالتربية تشتمل على اللغة كما تشتمل على الدين.
في هذا السياق أقدّم اللغة كمصدر لنموذجٍ تفسيري للواقع الموجود، وكنموذج تأليفي للواقع الذي نريد. والنموذج هو نفسه أصلٌ لا ينضب لنماذج تتكيف مع مختلف المواضيع الفكرية ومع أية مشكلة بحاجة للدرس والحل. والنموذج اللغوي يصلح كمنهجية لتوحيد الشعب حول أبجديات فكرية وإيديولوجية، ولبناء أرضية للعمل المشترك الذي نريده مُوحِّدا بقدر ما نلحّ على كونه سانحا للاختلاف ولقبول الرأي المخالف.
من شأن النموذج اللغوي أن يعلمنا الحرية، في الإرادة وفي التعبير، كما في الإنجاز. ويعلمنا المبادرة و الانتفاع من الخطأ وطرق تصحيح هذا الخطأ. كما يعلمنا أساليب التفكير وأساليب الحوار وكيفية أخذ القرار. ويعلمنا كل ما نحتاجه للتعامل التعددي والديمقراطي من منطلقات أصيلة ومن بنى الشخصية والمجتمع.
كما أنّ هذا النموذج هام للتصميم وللتخطيط. فلا يكفي أن تتوفر الأفكار وحتى المشاريع لمّا نكون مفتقرين إلى المنهاج السليم الضامن للسرعة في الإنجاز وللجدوى من الإنجاز. ويُعلمنا النموذج اللغوي تطويع إرادتنا إلى غاية مشتركة بين كافة الأطراف المعنية بمشروع أو ببرنامج أو بعملية. ومع توفر الغاية يُسهّل لنا النموذج اختيارَ الأهداف الجانبية المزمع تحقيقها والأغراض المزمع تنفيذها والوسائل المسخرة لبلوغ الغاية النهائية.
والنموذج اللغوي هو الاجتهاد الثالث. فما معنى أن يكون الاجتهاد ثالثا ولماذا؟ لمّا يحتار المسلم في الاجتهاد بنفسه بخصوص مسألة حياتية تهم علاقته بالدين، إما أن يجرب حلا لا يتناقض مع الدين، و ذلك اجتهاد أول؛ وإما أن يتوجه إلى مَن له صلاحية الاجتهاد فيحاول المجتهد، الذي عرفناه تقليديا على أنه المفتي أو الفقيه أو الإمام، تلبية رغبة المسلم. وذلك اجتهاد ثانٍ. أما الاجتهاد الثالث فهو تلبية لشروط المشكلة الدينية المعاصرة. وهو الذي يحتاجه المسلم الحائر لكي يحاول فهمَ ما لم يصدر فيه لا تفسير و لا اجتهاد.
لنضرب مَثلَ الشخص الذي يتفوه ببذيء الكلام. هذا الشخص يحاول الاجتهاد بنفسه فيكبح جماح نفسه تارة ويستغفر طورا لكن دون جدوى. يلتجأ عندئذ إلى الاجتهاد الثاني وذلك بأن يسأل إماما مثلا عما عساه أن يفعل لكي ينقطع عن العادة السيئة. فيقول له هذا الأخير إن ذلك يدخل في باب "حفظ اللسان" وما عليه إلا أن يتقي الله ويمتنع عن التفوه بمثل ذلك الكلام وأن يكثر من الصلاة وأن يتصدق ليكفر عن ذنبه. لكن الذي نعاينه للأسف الشديد إنما هي مؤشرات على تعطل المنهاج القرآني، لا علامات دالة على استدامة فعاليته. لذلك ارتأينا أن المسلمين في هذا العصر لم يعد يكفيهم لا الاجتهاد الأول ولا الثاني. ومثال الكلام البذيء شاهد على التخلف المنهجي في مجتمع مثل مجتمع تونس وغيرها، حيث إننا شاهدون على تفاقم السلوك اللفظي المُشين، من بين سلوكيات مشينة أخرى.
فالاجتهاد الثالث عبارة على منهجية لدرسٍ ذاتي يهدف إلى تفعيل المنهاج القرآني المعطَّل. إنه منوال يدل المسلمين على إيجاد حل أو حلول لمجابهة مشكلات أو ظواهر استعصت عن الفهمين الأول والثاني. كيف ذلك؟ إنّ المبدأ بسيط وسهل التطبيق. فقط يستوجب الدربة والعادة. بالفعل صار من الصعب جدا أن يقنع فقيهٌ أو إمامٌ الشخصَ الآثم بالتوقف عن ارتكاب الإثم. وهنا يتدخل مبدأ "الكلام إسلام" ليوسّع آفاق الشخص الآثم والفقيه معا. إنّ العقل اللغوي، وهو نتاج دمج الدين باللغة، بطريقة التناظر أحيانا وبطرقة التطابق أحيانا أخرى، سوف يمنح المأموم والإمام فرصة توسيع آفاقهما الاجتهادية. ويحصل ذلك لمّا يعي كلاهما أنّ هنالك سبل عديدة ومساحات متعددة يشترك فيها الدين واللغة لم يقع سلكها من قبل. عندئذ سوف يكون كلاهما فاهما، وكل المجتمع فاهما، أنّ ما يُقال من كلام له نفوذ مُكمّل لِما يُتَعلّم من السلوك الذي لا يزال الإرشاد والدعوة قادرَين على تبليغه .
طبعا سيقال إن" الدعوة والإرشاد يتمّان بواسطة الكلام وإنّ الاجتهاد الثالث لأمرٌ بديهيّ لا يستدعي كل هذا الشرح. كلا، فإنّ كلام الدعوة والإرشاد المقصود به إرشاد مَن هم مقتنعون بدينهم لم يعُد يفي بغاية الإرشاد. وها نحن أمام مشكلة تقع تحت طائلة ما يُعرف باسم الخطاب الديني. أعني الخطاب الذي يسهّل ويجسم التفاعل بين المسلم ودينه. والخطاب الديني هو التجسيد الفعلي لنموذجٍ من التديّن لدى الفرد والمجتمع. فالخطاب الديني بقي على حاله ولم تدخله مكونات الحداثة واللوازم العاطفية والعقلية للعصر الحديث.
والمنهاج اللغوي هو الذي من المفترض أن يسمح بشحن الفكر الديني الإنساني بالآليات والتقنيات والأساليب والطرق التي ستسمح بتغيير العقل، من عقل منشطر بين عقل عقدي من جهة وعقل سياسي من جهة أخرى، إلى عقل متحد، يمزج بين الدين والسياسة متى توَجّب المزج ويفصل بينهما متى توَجّب الفصل. وهذا هو التناظر(المزج النسبي) والتطابق (المزج). وهذا ما يعبر عنه بعضهم بالقول إنّ الإسلام لا يفصل ولا يمزج بين الدين والسياسة وإنما يسمح للسياسة بأن تكون نتاجا فقهيا متعددا ومختلفا ينجرّعن العقيدة الواحدة (محمد عمارة). وهذا ما عبّر عنه البعض الآخر بالقول بمبدأ "الفصل والوصل" في السياسة (محمد عابد الجابري).
ومن جهة أخرى فالذي نشهده اليوم من دعوات للفصل بين الدين والسياسة يُعتبر واحدا من أهم أعراض المشكلة التواصلية لا حلا لها. ليس الفصل حلا، إذ إنك لمّا ترى المسلمين يفصلون بين السجلَّين فهُم يفعلون ذلك قسرا وفي غياب المنهاج القويم الذي سيسمح بالتطابق (إن بالمزج النسبي، أم بالمزج، متى لزم الأمر). وإن رأيتهم يمزجون (وهُم أتباع الإسلام السياسي والحَرفي والأصولي والسلفي) فهُم يفعلون ذلك قسرا أيضا، وكانت النتيجة في كلتا الحالتين، الخاطئتين، الفُصام والانفصام. كان الفُصام هو السائد لمّا يعتقد صاحبُ سياسةٍ ما أنه مُحقّ في دمجه الدين بالسياسة جزافا وبصفة مباشرة. وكان الانفصام هو السائد لمّا ترى الأمة منقسمة إلى مَن يعمل بالسياسة منفردة عن الوازع الديني (العلمانيون) وترى مَن يعمل بالدين فقط للدعوة والتبليغ العقيمين. مع العلم أنّ العقم يُعزى إلى جمود الخطاب الديني وتكراره لنفسه (الخطاب الديني الرسمي، الذي اعتبره كنائسي أكثر منه إسلامي بالمعنى النبيل، كما سنرى لاحقا).
ما هو إذن الأسلوب الذي سيتمكن بفضله المنهاج اللغوي من تطوير الخطاب الديني؟ ثم مادامت المسألة متعلقة بنقصان في الكلام الديني، من ناحية الجودة و من ناحية الفعالية، كيف يكون الكلام منهاجا لضخ الكلام الديني، الدعوي والإرشادي وتباعا السياسي، بالمنهجيات التي تخوّل للمسلم ولعالم الدين، و للمأموم وللإمام، وللمسلمين كافة، أن يتجاوزوا الاحتقان في الخطاب وفي التدين وفي علاقة سياساتهم بالدين؟ لا بدّ من تكريس مبدأ قديمٍ جديد، ألا وهو تعدد الاختصاصات. فشخصية الحكيم في التاريخ الإسلامي كانت تجمع بين شخصيات مختلفة ومتعددة في الآن ذاته. كان الحكيم طبيبا وجراحا ولغويا وفقيها وما إلى ذلك من الاختصاصات العلمية. والطريقة الحديثة التي يمكن إتباعها اليوم لتحقيق التعددية في الفكر الإسلامي هي الاجتهاد الثالث. وهو بالتالي منهاج إسلامي لأنه، فضلا عن تحريره للمنهاج القرآني المعطَّل، يهدف إلى استرداد صفة إسلامية: تعدد الاختصاصات وما ستُفرزه من تعددية فكرية وسياسية.
وفي هذه المرحلة يكون الاجتهاد الثالث صمام الأمان الذي سيسمح للمؤمن بأن يتدخل في مجال السياسة الخاصة والعامة لا فقط بأحد المفصلين، إن الديني أم العلمي، كما هو الوضع الآن في الحالة الفُصامية و الانفصامية، وإنما بالاثنين معًا. واللغة هي المنهاج العلوي لأنّ اللغة هي الخزان الأكبر والأوسع الذي تجتمع فيه المكونات التابعة لكل اختصاص. فالصيدلي المؤمن سيقول كلاما في السياسة ينبثق عن عقيدته وسيكون كلامه حلقة من حلقات السلسلة السياسية الإسلامية. وخبير القانون المؤمن سيكون له كلام يختلف عن كلام الصيدلي لكنه يمثل حلقة أخرى مكملة للسلسلة. والمهندس المؤمن سيكون له كلام غير كلام الصيدلي وكلام خبير القانون لكنه يمثل حلقة موالية مكملة للسلسلة. وهكذا دواليك إلى أن تكتمل السلسة وتظفر بالشرعية. وشرعيتها ذات وجهين في الآن ذاته، وجهٍ يتصل بالعلم الخصوصي بصفة شبه مسترسلة، ووجهٍ سياسي شرعي طالما أنه يتصل بالعقيدة تارة وينفصل عنها طورا متى لزم الأمر.
إذن سواء في باب السلوك الخاص أو في باب السلوك العام، وسواء في باب السياسة الخاصة أو في باب السياسة العامة للمسلمين، نلاحظ أنّ المجتمع العربي الإسلامي لم يصبح حداثيا إلى حد الآن لأن مثل ذلك البُعد الثالث في التدبر ينقصه. وللحوصلة نقول إنّ الفرد والمجتمع إلى حد اليوم فاهمان للدين ومقتنعان به (البعد الأول؛ الاجتهاد الأول) ويزدادن فهمًا على فَهمٍ عن طريق المفسر الديني والداعية (الاجتهاد الثاني). لكن الفائض من الفهم، لمّا يُردف بقلة التطبيق أو باستحالة التطبيق كما هو الشأن اليوم ومنذ قرون، يتسبب في تعطيل المسار الاجتهادي. فليس للفرد ولا للمجتمع بعدٌ ثالث يُفسَّر بواسطته الوجود والواقع بالتنسيق وبالتراكم مع الفهم الأول والفهم الثاني. بل عادة ما يكون الإفراز من الفهم الثاني أقرب إلى السذاجة منه إلى شحذ الذكاء وتطوير التمكين الديني والسياسي. هكذا يزاول الشخص ذو السلوك اللفظي (الذي ذكرناه كمثال أنفا) التفوه بعبارات نابية ، ويبقى السارق يسرق رغم علمه أن السرقة حرام والسكير يشرب الخمر رغم علمه أن الخمر حرام والنصاب يحتال رغم علمه أن الاحتيال حرام والزاني يزنى رغم يقينه أن الزنا حرام. بالموازاة مع ذلك يبقى العميل عميلا والخائن خائنا والمستبد مستبدا والقابل للاستعمار مستعمَرا. يبقي كلاهم عاجزا عن تغيير سلوكه، من صاحب سلوك سالب ونادم ومتألم إلى صاحب سلوك موجب وراضٍ ومطمئن. ويبقى المجتمع المسلم عاجزا عن النهوض.
كما تبقى قضايا العرب والمسلمين عالقة بلا حلول. وتبقى فلسطين محتلة وأفغانستان مستعمرة والعراق مشتت وليبيا ساحة وغى لحرب الإخوة بمحض إرادة الآخر القوي الجبار المتسلط. ونضلّ أمة لا تصنع ما تأكل وما تلبس وبمَ تترفه. ونمكث رازحين تحت نير العبودية المستحدثة، التداين والاقتراض بمقتضى مشيئة أسياد العَولمة. ذلك أنّ السبيل إلى الطريق الثالثة معطلة. والطريق معطلة لأنها مسدودة بعديد العُقد وبشتى أصناف العراقيل.
في نهاية المطاف، وفضلا عن الإضافة التي نرجو أن ينطوي عليها النموذج اللغوي، الاجتهاد الثالث، من المنظور الديني و الفكري والسياسي، في زمنٍ يتسم بوفرة الإمكانيات لكن بندرة المناهج، ما من شك في أنّ هذا المنهاج سيسمح بارتقاء الأداء اللغوي نفسه. فلمّا تتسع بوتقة اللغة الدينية والفكر الديني باتساع اللغة وفكرها وذلك بفضل تعدد واختلاف السجلات اللغوية الناتجة عن الإضافة العلمية للفكر الديني، سوف تتولد قاعدة جديدة: قل لي ما هي مؤهلاتك اللغوية، أقول لك إلى أي مدى أنت فالح في التدين. وما دامت بلادنا تمر بمرحلة الانتقال الديمقراطي، يجدر التساؤل هل من تحولات ديمقراطية بغير مؤهلات لغوية؟
محمد الحمّار
الاجتهاد الثالث
كانت هذه الحلقة (5) من كتاب "إستراتيجيا النهوض بعد الثورة"
|