• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الشهيد الذي يُعيل قاتليه...! .
                          • الكاتب : وليد كريم الناصري .

الشهيد الذي يُعيل قاتليه...!

 ليوم ميلاده، بوح وأجراس وذكر، على شجرة السدر، صخب أصوات العصافير، تملأ زقزقتها زوايا بيتهم، وكان جالساً ينثر بقايا الخبز بيديه فتاتاً، فتطمأن له الطيور وتلتف على يديه ومن حوله، وترفرف من شدة الجوع، وكأنه أبيها جاء ليطعمها، كنت صغيراً وقتها، يضع تلك العصافير على يدي الناعمتين الصغيرتين، فأخاف وأهرع باكياً، وضحاكاته وصدى قهقهته تلاحقني، فتملأ مسامعي وكأنها أصوات الرياح، تتكسر بين كهوف مسامعي، وأزداد صراخاً، فيركض ليمسكني ويحملني على كتفه، وهو يضحك ويقول:" لا تخف الطيور، هي من تخاف البشر وعبثه بها" هذا كل ما رأيته وأذكره عن الشهيد المغدور "جسام محمدي".

لم يكن للشهيد سوى ذنبان، أعطى حياته ثمناً لهما، وهو بعمر ستة عشر سنة..! كان شديد العداء للبعث وصدام في قلبه، وينتقدهم بالخفاء، فكان يرى صدام مجرم وإعانته على إجرامه حرام، أما ذنبه الأخر إن عمه من رجال البعث، ووالدته تخاف البعث وعمه، وكان والده منشغل في الخدمة العسكرية، شاب أبيض نحيل الجسم والبنية، سكن مع عائلته على نهر الفرات، ما بين مدينة سوق الشيوخ وناحية الفضلية، من سوء حضه لم يكن مرحب فيه بين أهله، خاصة بعدما ترك المدرسة.

دُعي بالإكراه والإجبار، على أن يلتحق بصفوف الجيش العراقي، ولكنه من أشد المعارضين لذلك، خاصة وأن عمره وجسمه لا يساعدان على ذلك، فترك الخدمة العسكرية، وهرب مع صديق له من جيرانه، من حسن حظ صديقه، أنه لم يكن له عم بعثي، ولا أُم تخاف البعث، حفرت والدته حفرة كبيرة تحت الأرض، وخبأتها بسعف النخيل، ولطالما تنزل ولدها فيها، و تجلس هي فوق تلك الحفرة، عندما يأتي أزلام البعث الصدامي ليبحثوا عنه، ولكن "جسام" كان يخرج على وجهته، يتخفى بين البساتين والنخيل، وعمه ووالدته تلاحقه ليسلموه للحكومة، فيهرب منهم، ويذهب الى صديق له من أقاربه، يخفيه عن أزلام البعث.

يرى عمه البعثي بأنه لا يحضى بالترقية والمكافآت، إلا اذا ما سلم أبن أخيه للحكومة، فيخرج العم يوميا ممتعظ من بيت إبن أخيه، وجاء يوماً وجلس وقت طويل يحدث والدة "جسام" ويروعها ويخيفها ويقنعها بتسليم ولدها لحزب البعث، مع التهديد والوعيد إقتنعت تلك الام المسكينة بتسليم ولدها، وراحت تبحث عنه حتى أحضرته للبيت، بعد بكاء وعويل أمامه، وتكفل عمه البعثي بأن يعيده للجيش، دون أي أذى يلحق به أو عائلته، وكان "جسام" كارهاً لذلك، لولا دموع والدته، وتقبيلها لقدميه، وطلبها بان يسلم نفسه.

راح المسكين يحزم أمتعته، وعمه ووالدته تنتظره على أحر من الجمر، خوفا من أن يغير رأيه، وبعدما جهز نفسه، نظر بوجوه إخوته الصغار وأخواته، ودموعه تسيل على وجهه، وكأنه رأى رسل الموت بحقيبته، وهو يقول لهم وداعاً إخوتي، وأخذ يحتضنهم ويشمهم واحد تلو الأخر، ثم قال: أبلغوا سلامي لوالدي، ونظر الى والدته وقبلها في رأسها وودعها، ونظر بوجه عمه، وقال له ستكون أنت سبب كل أذى يلحق بي وبأهلي، وذهبا معه وسلماه الى مركز الشرطة، ورجع عمه فرحاً وقد رحل خوفه، وتنفس الصعداء، وبدأ يفكر بنوع المكافئة والترقية التي ستقدم له، ثمن تسليمه إبن أخيه.

حُبس "جسام" في السجن، لإسبوعين فقط، لم يحاكم، ولم توجه له تهمة، سوى إنه متغيب عن الخدمة العسكرية، لشهر أو أقل لا أكثر، ورحلت جميع الطيور من شجرة السدر، لأنها لم تعد تجد من يعطيها فتات الخبز، حتى صبيحة يوم مشمس، عادت الطيور جميعها، وبدأ جمعها مكتضاً، وزقزقتها تملأ المكان، وكأنها تنصب مأتم عزاء، طرق الباب أحد البعثيين، وقال لهم إذهبوا الى نهاية بستانكم، ستجدون ولدكم، قد أعدمه البعثيين رمياً بالرصاص، ولازال جسده مصلوب على جذع النخلة، هرع إخوته ووالدته وعمه البعثي، فوجدوا المسكين مصلوب مقتول على جذع نخلة، ورأسه مغطى بقطعة قماش سوداء.

رحل "جسام" ضحية عمه والبعث، ولم يطل الزمن، حتى أُخرج عمه من الحزب، وعُميت عيناه، وبقي جليس الدار، لا يقوى على المشي والخروج بعيدا، وإفتجع بموت ولده فيما بعد، وراح والد "جسام" ووالدته يطالبون حكومة العراق الجديد، بحقوق ولدهم، فإدرج ضمن الشهداء، وكلما استلموا تلك الحقوق الشهرية، يجلسون ليتقاسمونها فيما بينهم، فيلبسون ويأكلون ويشربون، ويتفاخرون بأن لهم شهيد يقربهم الى الله، وما فكروا لحظة واحدة بأنهم هم من قتله وقطع نسله وهو ابن ستة عشر سنة، وبقي عمه البعثي يصارع المرض والعمى والفقر، طيلة تلك السنوات، وبقي الشهيد "جاسم" مظلومية أهله، وأعمامه والبعث، وراح الشهيد في دائرة الرجل، الذي قتلوه أهله، ليتقاسموا الكنز الذي تحت جثته.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=87153
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 12 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28