• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : المرتكزات الجماليَّة في قصائد يحيى السماوي النثريَّة * .
                          • الكاتب : عصام شرتح .

المرتكزات الجماليَّة في قصائد يحيى السماوي النثريَّة *

إنَّ ثمة مرتكزات فنية لكل تجربة إبداعيَّة؛ منها ما يتعلق باللغة، ومنها ما يتعلق بالشكل الفنّيّ؛ ومنها ما يتعلق ببنية العمل الإبداعي من الداخل؛ من حركة المعنى/ وتفاعل المدلولات؛ وإنْ قارئ قصيدة النثر – تحديداً- يغامر في فضاء نصّيّ مشعرن بين لغة الإيضاح والتفصيل والتمطيط/ ولغة الاختزال/ والإيجاز؛ ولابُدَّ لتحقق قصيدة النثر دورها الفني/ ومقوّماتها الجماليَّة من شروط جماليَّة؛ حدَّدها الناقد رحمن غركان بقوله: "إنَّ قصيدة النثر التي تستحق أنْ يُطْلَق عليها هذا المصطلح لابُدَّ أن تتوافر لها الشروط الجماليَّة الآتية:

1- ينبغي أنْ تكون وحدة عضويَّة مستقلّة؛ بحيث تقوم عالماً مكتملاً يتمثل في تنسيق جماليّ متميِّز.
2- يتعيَّن أن تكون وظيفتها الأساسيَّة شعريَّة؛ بأنْ لا تكون بنيتها اعتباطيَّة أو  مجانيَّة؛  تعتمد فكرة للأزمنة فلا تتطوَّر نحو هدف محدد؛ ولا تعرض سلسلة أفعال أو أفكار منظمة؛ وإنْ استخدمت وسائل سرديَّة أو وصفية.
3- على قصيدة النثر أنْ تتميَّز بالتكثيف وتتلافى الاستطراد والتفصيلات التفسيريَّة...فالاقتصاد أهم خواصها ومنبع شعريتها.
4- الإيجاز بأن  تبتعد عن الوعظ االخلقي وغيره والتفاصيل التفسيريَّة العامة ( ).
وهذه الشروط التي ذكرها رحمن  غركان؛ لابُدَّ من توفرها في العمل الأدبيّ عموماً ليحقق وظيفته الجماليَّة؛ فالإيجاز، والتكثيف، والإيحاء، شروط أساسيَّة في تخليق العمل الإبداعيّ؛ لتتضح الرؤيا ويتحدّد مغزاها ومدلولها الفني.
ومن يطلع على قصائد يحيى السماوي النثريَّة في ديوانه (مسبحة من خرز الكلمات) يدرك أنَّ هذه الشروط متوفرة بتمامها في نصوصه؛ يضاف إليها مقوِّمات أخرى تزيد ألق الشعريَّة في هذه القصائد، منها وضوح المقصدية/ وتفاعل الرؤى/ وتوظيف التراث بما يتلاءم وواقع الرؤية المعاصرة.
ومن تدقيقنا في المفرزات الجماليَّة التي حققتها نصوصه النثريَّة يمكن أن نحدِّدها بالمفرزات أو المقوِّمات الجماليَّة التالية:
 1- الحياكة الفنيَّة:
ونقصد بـ [الحياكة الفنيَّة]: رسم الحدث الشعري/ أو بلورة الرؤية الشعريَّة؛ بتمفصلات لغويَّة شعريَّة؛ تزيد الجملة قوة/ وحركة/ وامتداداً/ وتدفقاً شعريًّا مرهفاً؛ وكأنَّ الجملة منسوجة نسجاً بمغزل اللغة/ ومقبض الشعور/ وبداعة الرؤية/ ومنظورها الفني؛ ولعل أبرز ما تثيره نثريات يحيى السماوي هذا التمازج الرهيف بين الجمل؛ لتبدو بحياكة نسجية ذات فاعلية قصوى في التعبير عن الرؤية، وتعميق المنظور الشعوري إليها؛ إذْ يبلور النسق التصويريّ/ بحياكة فنية/ ودهشة دلاليَّة من جرَّاء هذا الجمع الّلامتوقع لحيِّزات تشكيليَّة مراوغة مثيرة رغم بساطة مدلولها ووضوح مقصديتها للقارئ، كما في قوله:
"أنتِ لستِ شمساً
وأنا لستُ زهرة دوَّارِ الشمس...
فلماذا
لا يتجّه قلبي
إلاّ نحوك" ( ).
هنا؛ يعتمد الشاعر  البساطة/ والسهولة/ ووضوح المقصديَّة؛ متبوعة بفنية نسقية عالية قادرة على التعبير عن المعنى الشعوريّ؛ بابتكار وإحساس شعوري عميق؛ ناقلاً الرؤية بتمامها إلى القارئ ببصيرة شعريَّة قادرة على إصابة المعنى/ وتوجيه سيرورة الرؤى صوب دائرته الإبداعية.
ومن أشكال الحياكة ومقوِّماتها في نثريات - يحيى السماوي- تتبع الحدث/ ومثيرات الرؤية/ بحركة امتداديَّة ترصد شعوره وإحساسه التأملي في آن؛ كما في قوله:
"ألقيتُ قوسي وسهامي
رافعاً قلبي رايةَ استسلامِ
فكوني:
المشنقةَ التي ترفعني إلى السماءِ...
أو القيدَ الذي يشدُّني إلى الأرضِ...
فأنا لن أستعذب خبز الحريَّةِ
ما لم أكُنْ
مشدوداً إلى تنوّر عبوديتكِ
بنبض قلبي!" ( ).
إنَّ الحياكة الفنيَّة والنسج التشكيلي الدقيق يشكل لب الإثارة  الشعريَّة التي اعتمدها الشاعر من خلال فاعلية [الجملة- المحور]/ أو [الجملة- الدهشة] التي تؤكِّد براعته في النسج؛ وفاعليته التشكيليَّة المبتكرة؛ فالشاعر بنى دهشة النصّ النثري السابق على الاستعارة المبتكرة التي تحمل معها الألق الشاعري/ والنبض الجمالي وهي [تنوّر عبوديتك]؛ هذا التشكيل الجدلي أثار الحركة الجماليَّة الشعريَّة؛ وحمل الدفقة الشعريّة من نثريتها المألوفة إلى ألق المباغتة والمفاجأة النصيَّة؛ محقِّقاً شعريَّة القصيدة/ ومؤكِّداً - في الآن ذاته- حيويّة الصورة وبكارتها الإسناديَّة؛ فالعمل الفني المثير أو المتميز هو العمل الذي يخطف قلوبنا من الداخل/ ويشعلها توقاً، وانبهاراً، وإمتاعاً؛ وهذا ما حقَّقه الشاعر في هذه الومضة التشكيليَّة التي أثارت الحركة الشعريَّة؛ وأمدتها بالدفق العاطفي/ والشعور الجمالي المرهف..
وتعدُّ تقنية الحياكة الفنية مظهراً جماليًّا في قصائد يحيى السماوي النثريّة؛ محاولاً إضفاء طابع شعوري جمالي على النصّ؛ وأولى بوادر الحياكة الفنية تتمثل في تركيز الرؤية صوب الجملة المحور/ أو الجملة الصدمة التي تصدم القارئ بتشكيلها وسحرها الفني ضمن نسقها التشكيلي؛ كما في قوله: 
"بين احتضاري في غيابك...
وانبعاثي في حضورك:
أتدلَّى مشنوقاً بحبل أسئلتي
مُحَدِّقاً بغدٍ مَضَى...
وبالأمسِ الذي
لم يأتِ بَعْدُ!" ( ).
يعتمد الشاعر في حياكته الفنيَّة/ الصورة الدهشة/ أو الصورة الصدمة التي تُفَعِّل الدفقة الشعريَّة كلها؛ وهي جملة [أَتَدَلًَّى مشنوقاً بحبل أسئلتي]؛ إنَّ الصدمة الفنية التي أحدثها بهذه القفلة ساهمت أولاً في ارتفاع قيمة النصّ جماليًّا؛ وساهمت ثانياً في تعزيز الرؤية وتعميق مدلولها الرومانسي الغزلي؛ فالشاعر لم يُشْنَق بحبل كتانٍ مفتول بقوة؛ وإنما شُنِقَ بأسئلته التأمليَّة الحائرة التائهة بين ماضٍ لم يأتِ؛ وحاضرٍ قد مضى؛ بلعبة فنيَّة جدليَّة؛ قلبت الرؤى وعززت الجدل الوجودي/ والصدمة الوجوديَّة من جرَّاء هذا الحب العارم التائه في غياهب التأمل/ والارتحال صوب أحلام ورديَّة غير متحقِّقة على أرض الواقع؛ وهكذا؛ فإنَّ الحياكة الفنية – في قصائد يحيى السماوي- تشكل بؤرة تفاعل حركة نصوصه النثرية؛ رافعة مستواها النثري إلى المستوى الشعري؛ بحسن تشكيلها/ ووعيها بمراميها الفنية/ وأبعادها الدلاليَّة؛ فشعريَّة نصوصه النثرية ليست اعتباطية؛ أو ذات مغزى دلاليّ واضح سطحي متداول؛ وإنما هي لعبة فنية يعي السماوي أبعادها وخصوصيتها الفنية؛ وهذا ما يجعله شاعر التأمل/ والإدراك/ والفهم الفني الدقيق لمغزى الجمل ومداميك الكلم؛ وصوغ اللقطات التصويريَّة المثيرة التي ترتقي حيِّز الجمال/ وتفتح مغاليق  الرؤى بحسن ابتكارها من جهة وإصابتها الهدف الفني والدلالي المنشود من جهة ثانية.
2- مسرحة الرؤية:
ونقصد بـ [مسرحة الرؤية]: إكساب الرؤية طابعاً انفتاحياً ساخراً بالحياة والوجود/ مُوَسِّعاً حيِّز الدلالات من رؤى بسيطة مدركة إلى رؤى عميقة غير مدركة بأبعاد تأمليّة تحمل معها حِكما ومعانٍ ورؤى عميقة بعيدة المرامي/ والأهداف/ والمداليل الوجودية الجدليَّة؛ بمعنى أدقّ: توسيع الرؤية لتشمل مسرح الحياة بأبعادها وجدلها الوجودي؛ وتُعَدُّ هذه الخصوصية من خصوصيات قصائد يحيى السماوي النثريَّة؛ إذْ يحاول الشاعر فيها أن يوسِّع آفاق رؤيته لتشمل الوجود؛ وترتقي آفاقا دلالية خصبة؛ إذْ يسعى من خلالها إلى خلق الجدل/ في رؤيته؛ لتحريكها ومسرحتها وتكثيفها التأملي؛ كما في قوله:
"جنونُ قلبي:
الدليلُ على سلامةِ عقلي!
.... ...... ........
.... ...... .......
نهرُ رجولتي
لا يستعذبُ الجريانَ
إلاَّ
في حقول أنوثتكِ" ( ).
إنَّ هذا الجدل الذي يعتمده يهدف إلى مسرحة تجربته، وإكسابها بعداً تأمليًّا؛ فالشاعر/ بإثارته المقابلة الفنية بين لفظة [الجنون]/ ولفظة [العقل الراجح] وسَّع آفاق رؤيته؛ مؤكِّداً أنَّ عاطفته ليست اعتباطية، وليست عشوائية؛ وإنما منظمة بعقلانيته/ وهذه عقلانيَّة؛ هي عقلنة الغريزة/ وعقلانية الإحساس الدافق بها؛ لهذا؛ لا يستعذب رجولته إلاَّ في حقول أنوثة المحبوبة، ودفقها وينابيع خصوبتها؛ فخصوبته لا قيمة لها بمعزل عن نعيم أنوثتها وبريق جسدها/؛ ورجاحة عقله لا دليل عليه إلاَّ جنون قلبه وسمو عاطفته وعذوبة شعوره وإحساسه.
وقد يخلق الشاعر يحيى السماوي دهشة نثرياته بمسرحة الرؤية/ وتعزيز مدلولها الغزلي/ بطابع الخطف النسقي للأشكال اللغويَّة المباغتة؛ كما في قوله:
"أيتُّها البعيدةُ كقلبي عن يدي...
القريبةُ كالشمسِ من عيوني:
ادخلي صحارايَ آمنةً مطمئنَّة
لأُبايعكِ..
مليكةً في صحراءِ جنوني...
أنا المِلكُ المتوّجُ
رعايايَ:
الوردةُ:
السنبلةُ..
والعصفورُ
في مملكتي الممتدّةِ
من بابِ كوخي
حتّى سريري المصنوع
من سعفِ النخيل" ( ).
إنَّ الطاقةَ الفنية التي يملكها الشاعر تُخَوِّلُه أنَّ يدهش القارئ بأشكال فنيَّة متعدِّدة؛ إمّا عن طريق مسرحة الرؤية وتعزيزها فنيًّا؛ بالارتكاز على [الجملة الدهشة]/ أو [الجملة الصدمة]؛ كما في قوله: [لأُبايعك مليكة في صحراء جنوني]، وإمَّا عن طريق خلق الحس التأملي بالرموز الثلاثة المتضافرة [الوردة- السنبلة- العصفور]؛ وهذه الرموز تدل على الطهر، والجمال، والبراءة، والمحبة؛ فالشاعر أراد أن يخلق حركة جمالية تأمليَّة في هذه الأنساق اللغويَّة؛ لإثارة التجربة ومسرحة الرؤية وتعميقها؛ وهذا؛ يؤكد لنا مقدرة الشاعر يحيى السماوي على تفعيل نصّه النثري بإيقاعات شاعرية؛ مكتسبة من عمق رؤيته من جهة؛ ومهارته في اصطياد الرؤى الجدلية الصاخبة التي توسِّع آفاق رؤيته/ وتزيدها امتداداً وتكثيفاً وإيحاءً من جهة ثانية.
3- تبئير الرؤية بالتأملات الصوفية:
ونقصد بـ [تبئير الرؤية/ بالتأملات الصوفية]: تعميق الرؤية الشعريَّة عبر الاستغراق بالرموز الصوفيَّة التي تحفز الرؤية وتعززها جماليًّا؛ فالشاعر لا يعني بالأنثى رمزاً حسيًّا بقدر ما يعني به وجوداً خالداً لنفس عاشقة؛ تواقة بشكل دائم إلى الجمال؛ لذا يجد السماوي في الأنثى الخضرة/ والدليل الخصب على فحولته ورجولته؛ فهي تمثل له ينابيع الخصوبة وينابيع الجمال؛ وهي التي تقوده إلى الإحساس برجولته؛ فلولا أنوثتها وحيويتها وإشراقها الروحي لما أحس الشاعر بخصبوبته وفحولته؛ إذْ يقول؛
"لا الأمطارُ...
لا الأنهارُ...
ولا الينابيعُ..
إنَّما:
مياهُ أُنوثتِكِ..
أنبتت في حقل رجولتي
عشبَ الفحولة
ونسجتْ لصحارايَ
قميصَ الخضرة" ( ).
إنَّ عمق رؤاه الصوفية - في قصائده النثرية- يمنحها ألقاً شعريًّا؛ ويبلور مغزاها الفني؛ فكما أنَّ الأنثى تمثل له العذوبة والخصوبة؛ فهي تمثل له – كذلك- الخضرة/ والأمل/ والإحساس بالرجولة؛ لأنها تمثل له الإيقاع الروحي الذي يشعره برجولته وفحولته. ولذلك يرى الشاعر في الجسد الأنثوي قبة الروح التي تصله بالمطلق؛ فـ [لجسد] محبوبته أبجديَّة خاصة؛ وتضاريسه تمثل له ينابيع الوجود وكنز العطاء؛ إذْ يقول:
"جسدكِ
عَلَّمني أبجديَّةً أخرى
أتهجَّاها بأصابعي...
واكتبُها بالقبلات!
قبلةً قبلةً.
تَصَفَّْحْتُ كتابَ جسدكِ!
يالبلاغته:
حتَّى الفارزةُ فيه
جملةٌ مفيدةٌ
تامةُ المعنى" ( ).
إنَّ تصوفه في لغة الجسد الأنثوي تؤكد استغراقه، وتأمله الجمالي في مثيرات الأنثى الروحية؛ وهو شأنه في ذلك شأن شعراء المتصوفة الكبار الذين يرون في الجسد الأنثوي قمَّة الوصال/ والارتواء الروحيّ؛ ويرى فيه كمال المعنى وجوهره؛ فالشاعر يرى في الجسد الأنثوي تمام المعنى وروحانيته؛ وسموه، وبهاءه، وإشراقه؛ ولا عجب في ذلك فهو القائل:
"ما حاجتي لكنوزِ "قارون"
وعندي هُدْهُدُكِ؟
وأبجديتي:
ما حاجتي بها
إنْ لمْ أنسجْ من حريرها
خماراً من الضوءِ
لجسدكِ المائيّ؟" ( ).
هنا؛ تمثل الأنثى للشاعر النور والكنز الروحي والضوء المشرق الذي يصله بالمطلق؛ وقد جاء قوله السابق مشتعلاً ألقاً روحيًّا؛ بإضفاء صفة الماء على الجسد وإسنادها إلى الجسد إسناداً مجازيًّا؛ للدلالة على خصوبته، وعذوبته، وصفائه، ونقائه؛ وسموه الروحيّ؛ إنَّ هذه الروح الصوفيَّة التواقة إلى الجمال؛  تشحن قصائده سمواً وشاعرية ونبضاً عاطفيًّا شفيفاً؛ يصل حدّ الإعجاز في خلق مثل هذه الرؤى الجمالية في خضم القصيدة.
وقد يرتقي الشاعر يحيى السماوي في رؤاه الصوفيّة حدّ الإدهاش في تعزيز الإثارة الشعريَّة من خلال طبيعة الصورة الصوفيَّة المشرقة/ وعمقها في إصابة الهدف؛ وتلوين الدلالات؛ أو مزجها في حيوية آسرة؛ تبهج القلب، وتريح الفؤاد؛ كما في قوله:
"متى تقرئين دموعي؟
قلمي عيني الثالثة...
صحيحٌ أنَّ حاضري أكثر سواداً من عباءَتكِ...
لكنَّ غدي بكِ
بهيٌّ
كفضَّةِ نهديكِ" ( ).
إنَّ ما يلفت القارئ جماليًّا/ هذه الروح الصوفية الوثابة - لدى السماوي- التي ترى في الأنثى مداليل الخصوبة، والحيويَّة، والإشراق؛ فالسماويّ يضفي على محبوبته – دائماً- صفات النور، والضوء، والماء، والصفاء والإشراق؛ دلالة على السموّ الروحي/ والتعالي الروحاني المطلق في النظر إلى الأنثى الخالقة؛ الأنثى التي تخلق الجمال؛ وتنصهر به؛ لتحقق الإعجاز إعجاز الخالق بجمال المخلوق؛ كما في قوله:
"أنتِ:
قصيدةٌ تمشي على قدمينِ...
حَفِظْتُهَا
عن ظهرِ عشقِ
كتبها الخالقُ
إعجازاً للمخلوق" ( ).
إنَّ من دلائل إعجاز الذات الخالقة قدرتها على الخلق، والإبداع/ والترسيم الفني الساحر في الجسد الأنثوي؛ وكما تتجلى جماليَّة الخالق بجمالية المخلوق تتبدَّى جماليّة المخلوق بجماليَّة الخالق؛ وهذه الاستغراقات الصوفية تثير الحركة الشعريَّة/ وتبعث القارئ على التفكر بحيثيات الرموز الصوفية التي يفجرها في قصائده؛ محرضاً دلالاتها؛ فالشاعر يحيى السماوي يُفَعِّل قصائده النثريّة بهذه الجدليات المستمرة في شحن الرموز؛ بشيفرات دلاليَّة نصيّة مغلقة؛ تدفع القارئ إلى إعمال طاقته كلها في فك أسرها؛ لاستنباط مداليلها؛ وبؤرها النصيَّة؛ المغلقة؛ ولهذا، فإنَّ للجدل الوجودي طابعه الروحي – عند يحيى السماوي- فهو يرى في الجدل الوجودي اليقين، والوصول إلى الحقائق، وجوهر كنهها؛ فوراء الجدليات – دائماً- تكمن الحقائق المطلقة دافعةً باستمرار إلى اكتناه المعرفة واليقين؛ إذْ يقول:
"إذا لم أحْلُمْ بكِ
كيفَ سأعرفُ
أنّني غفوتُ فعلاً ؟
إذا لم أركُضْ خلفَ غزلانكِ في براري الصحو
كيفَ أصدِّق أنَّ لليقظةِ
أحلامها" ( ).
إنَّ النشوة الروحيَّة - عند السماوي- تكمن في تلمس الحقائق والإحساس باليقظة بعد الحلم بالمحبوبة؛ ليعيش الحلم في ساعة الصحو؛ فهو لا يريد أنْ يحلم فقط بل يريد أن يعيش الحلم حقيقة وجوديَّة كحقيقة وجوده؛ فالأنثى - في رؤاه الصوفية- هي باعثة لينابيع الخصوبة والنور في الموجودات جميعها؛ فهي صوت البلاغة وهي جوهره.. وهي قميص البيان وسحر الأبجديَّة؛ إذْ يقول:
"إليَّ بخيطِ بلاغتكِ
أرتِقُ به
قميصَ بياني
هاتِني حريرَ حكمتكِ
لأُخفي
عورةَ أشواكِ هذياني
فهجيرُ الغربةِ 
قد أتى بالجفافِ
على طينِ أبجديتي!" ( ).
إنَّ الأنثى تمثل له مكمن الوجود، وجمال البلاغة، ومركز الشفافيّة المطلقة على وجه الخليقة؛ فهي ربَّة الجمال/ والخلود؛ وهي ربَّة الخصوبة والميلاد الجديد؛ وهي مبعث الحركة والحيوية والخصوبة في الأشياء جميعها؛ وهي كتاب الوجود الوحيد الذي يزيد الكون بلاغة وسحراً وإشراقاً؛ إذْ يقول:
"أيَّتها الشفَّافةُ 
كدموعي
الغامضةُ
كخطوطِ راحةِ يدي..
الواضحةُ
كأمسي..
والمجهولةُ كغدي:
عندي صفحاتٌ كثيرةٌ
من الأحلام..
إجميعها في كتابٍ 
أنتِ عنوانُهُ" ( ).
إنَّ الأنثى تمثل مكمن الشفافية؛ فهي كتاب الحياة الذي يحمل في دفتيه النقيضين [الوضوح/ والغموض] و[المعرفة/ والمجهول]؛ و[الوجود/ والعدم]؛ ولهذا؛ فإنَّ كل ما يتعلق بالأنثى في صوفية السماوي هو نور وضوء، وحياة ، ومعرفة ، ويقين وجودي؛ لأنها محرك الوجود وأساس كينونته وينبوع اتقاده وجماله؛ وهكذا؛ يبني السماوي إيقاع نثرياته على كثافة الرؤى الصوفية/ وتلوين رموزها ودلالاتها بما يتوافق وحسه المرهف/ وشعوره التأملي المفتوح.
4- جماليَّة التضاد:
ونقصد بـ [جماليَّة التضاد]: جماليَّة حركة  الأضداد في الأنساق التصويريَّة؛ لتفعيل النسق السرديّ؛ بالمباغتات الضديَّة؛ التي تؤكِّد المعنى؛ وتثير سيرورة الرؤية، وتعززها فنيًّا؛ وقد عمد يحيى السماوي إلى خلق الجدل الفني في نصوصه النثريَّة؛ لبث الحركة الإيحائية، والإيقاعيَّة، والدلاليَّة في ثناياها؛ لبلورة نسق فني يمتاز بتمظهراته الضدية التي تُحرِّك الجمل؛ وتبث مكنونها الدلاليّ؛ كما في قوله:
"لَنْ يكون بعيداً اليومُ الذي
سينتقمُ فيهِ:
الجُرْحُ من السكين...
الشاةُ من الذئب...
الدموعُ من دخانِ الحرائقِ...
الشجرةُ من الفأس...
العراةُ من ذوي القفَّازات الحريريَّة..
الجياعُ من المتخمين...
الأغلالُ من صانعيها..
الأوطانُ من السماسرة..
وملائكةُ يقيننا
من شياطين ظنونهم!
**
لن يكونَ بعيداً 
اليومُ الذي يتآلفُ فيه
الخبزُ مع الجياعِ
العشبُ مع الصحارى
والحدائقُ مع العشاق!
هذا ما قرأتُهُ
في كتاب عشقي
المكتوبِ على فمي
بمداد رضابك!" ( ).
إنَّ ما يثير القارئ جماليًّا هذا التفعيل الجدلي لإيقاع الأضداد؛ مسهماً في كشف ماهية الرؤية الغزليَّة/ الشعوريَّة، لدى السماوي؛ فالسماوي يعي أهميَّة تكثيف الرؤية/ وتعميق مدلولها من خلال إيحاءات الجملة الضديَّة؛ فالتضاد لا يعزز الدلالة وإيقاعها المعنويّ فحسب؛ وإنَّما يعزِّز الإيقاع بالجدل الصاخب بين الأنساق المتضادة؛ لزيادة حركة دلالة الجمل فنيًّا/ وتكثيفها إيحائيًّا؛  ولو تأملنا في سيرورة الأنساق اللغويَّة المتضادة التالية: [(الجرح/ السكين) و(الشاة/ الذئب)] و[(الدموعُ/ دخان الحرائق) و(الشجرة/ الفأس) و(الجياع/ المتخمين) و(الأغلال/ صانعيها) و(ملائكة يقيننا/ شياطين ظنونهم)]؛ لتبدَّى لنا إيقاعها الجدلي الغزليّ المثير؛ فالسماوي يبني الجملة بناءً فنياً شاعريًّا من خلال إيقاع الأضداد؛ إمَّا من ناحية الدلالة أو جوهر الرؤية المجسدة؛ وإمَّا من ناحية كثافة الرموز والأنساق المتضادة؛ فأراد الشاعر أن يولِّد الأضداد ليعزز الدلالة وذلك؛ لينال كل ذي حق حقه من قاتله ونقيضه الوجودي [الجياع من المتخمين] و[الشاة من الذئب]، و[الجرح من السكين]؛ مما يؤدي إلى تعزيز النسق/ والتأكيد على مصداقية الرؤية/ وشفافية المنظور الشعريّ؛ وعلى هذا النحو؛ كثَّف الشاعر رؤاه الوجوديَّة من خلال المتضادات؛ لتأكيد حيوية الرؤية/ ومسارها الفني.
وقد يرتقي الشاعر بنسق الأضداد في ديوانه (مسبحة من خرز الكلمات) إلى مرتبة سامقة من الفن/ والتحفيز/ وعمق الشعور؛ كما في قوله:
"أخمرةٌ صوفيَّةٌ
عَتَّقَها في ثغركِ العشقُ
يرى شاربُهَا الفردوسَ
في دُنْيَاهْ؟
 
أسكرني حين رشفتُ القبلةَ الأولى 
فَجُنَّتْ شفتي
وأدمنتْ أوردتيِ طِلاهْ...
 
فكيفَ لا يَسْكَرُ هذا الثغرُ
من شذاه" ( ).
إنَّ الشاعر يرتقي – فنياً- بهذه القصيدة إلى سموق الشاعريَّة/ وحنكتها التصويريَّة/ ونبضها الشعوري الرومانسي الغزلي الذي يعتمد فيه إيقاع الرهافة/ والتمركز الشعوريّ/ معمِّقاً الرؤية/ ومخزونها الدلاليّ؛ فما أجمل هذه الصورة في نسقها/ وتناغم القوافي مع دفقها الشعوري بإيقاع التضاد/ الذي يتغلغل إلى بنية الصورة؛ محفِّزاً مدلولاتها وباعثاً لحركتها النسقية المتضافرة؛ كما في قوله: "أسكرني حين رشفتُ القبلة الأولى/ فَجُنَّتْ شفتي/ وأدمنت أوردتيِ طِلاهْ/ فكيفَ لا يَسْكَرُ هذا الثغرُ/ من شذاه"؛ إنَّ هذا المخزون الغزلي/ والبث التأملي المثير في حركة الصور؛ يعزز المد الجدلي لإيقاعات قصائده؛ مشعرناً دلالاتها؛ بالنسق الضدي/ أو النسق المتضاد الذي يحرِّك الصورة؛ ويبث إيقاعها الداخلي.
وثمة حركة ضديَّة معكوسة يؤسِّسها في نصوصه من خلال عكس التراكيب/ أو قلب تشكيلاتها النصّيّة؛ لإثارة الجدل التشكيلي وخلق الدهشة الإسناديَّة؛ كما في قوله:
"ليس عيباً
أنْ أكونَ حصاناً للناعور...
أو
ناعوراً مربوطاً إلى حصان..
ثوراً مشدوداً إلى محراث
أو محراثاً مشدوداً إلى ثور
العيبُ:
ألاّ أكونَ شيئاً ذا نفعٍ
في حقولك!" ( ).
هنا؛ يعتمد الشاعر الحركة المعكوسة؛ إيذاناً بتحريك بنية السرد في القصيدة/ ومنحها جدلها الفني/ محقِّقاً بهذا العكس التشكيلي قلقلة في التركيب/ وزحزحة في النسق الشعري؛ مولِّداً حركة جماليَّة تثير القارئ؛ وتدفعه إلى تأمل تمام القصيدة؛ أو الدفقة الشعريَّة بكاملها؛ حتى وإن استطالت/ أو امتدّت رقعتها التشكيليَّة؛ وهذا دليل على أنَّ التلاعب التشكيلي؛ يثير الدفقة الشعريَّة في نثريات يحيى السماوي مولِّداً دهشتها ومغايرتها للمألوف من القول النثريّ.
5- بلاغة الأسئلة/ وانفتاحها التأملي:
ونقصد بـ [بلاغة الأسئلة/ وانفتاحها التأملي]: قدرة الشاعر على توليد السؤال الوجودي البليغ الذي يصيب جوهر الرؤية/ ويمغنط مدلولاتها النصيَّة؛ من خلال الجدل الوجودي/؛ وعمق التأمل الذي يتركه السؤال الممغنط في السياق النثري؛ محوّلاً دلالاته إلى مساق التكثيف الشعري؛ وقد عمد الشاعر يحيى السماوي إلى تفعيل إيقاع قصائده النثرية؛ بالأسئلة الجدلية حيناً/ والتأملية الثائرة على ماهيات الوجود بالسلب والإيجاب حيناً آخر؛ لإثارة الإيقاع الجمالي عبر مداليل الشعور ورهافة الإحساس، كما في قوله:
"لسنا هنوداً حمراً..
فلماذا يريدونَ إبادتنا؟
يَجْتَثُونَ بستاناً كاملاً
كُلَّما بنينا بيتاً طينيًّا
أخذوا من بقرةِ الوطنِ اللحمَ والحليبَ
وأعطونا الرَّوثَ والحوافر.
أما من فئران تجارب
لاختبار آخر مبتكرات البنتاغون
غير الشعوب؟!" ( ).
إنَّ الشاعر هنا؛ يُفَعِّل رؤية النصّ؛ من خلال السؤال التأملي/ وبلاغته في إصابة مداليل الاستنكار/ والإستهجان من المحتلين الذين كُلَّما أرادوا أن يؤسِّسوا لأنفسهم لبنة من لبنات الحياة؛ هدموا وقوَّضوا كل ما بنوا في لحظة؛ وكأنَّ الشعوب المستضعفة فئران تجارب لا قيمة لها ولا حق لها بالحياة؛ إنَّ السؤال الاستنكاري جاء باعثاً للحركة الشعريَّة/ ودافعاً لمداليل الرؤية لتتعزَّز رؤاها الرافضة المتسنكرة؛ وتتعمَّق في ذهن القارئ.
وقد يعمد الشاعر يحيى السماوي إلى توليد الأسئلة التأمليَّة المثيرة؛ المحفزة للدفقة الشعريَّة بكاملها؛ لرفع سويتها التأمليَّة/ وانفتاحها النصي/ وعمقها الرؤيوي في بث معاناة الذات/ في اغترابها الوجودي؛ كما في قوله:
"على أرضهِ انتصبتْ
أوَّلُ مَسَلَّةٍ للقانونِ في الدنيا
ومع ذلك فالسوطُ فيهِ
أطولُ من يدِ العدالةِ..
والخوذةُ أعلى من ساريةِ العلمِ الوطنيّ!
في واديهِ تجري أعذبُ أنهارِ الدنيا...
ومع ذلك فهو وطنُ العطش!
أخصبُ أراضي الدنيا فيه..
ومع ذلك فأطفالُهُ
يُنَقِّبون في براميلِ القمامةِ
ونفاياتِ المطاعمِ!
أثرى أثرياء الدنيا فيهِ..
لكنَّه وطنُ الشَحاذين
والأطفالِ الذين استبدلوا
بالحقائبِ المدرسيَّةِ
صناديقَ صبغِ الأحذية!
.... ..... ......
.... ..... ......
آه، يا وطني
لماذا عقدتُ عليكَ قرانَ روحي
مستعذباً من أجلك أقسى العذابات
مع أني لا أملك منك غير الترابِ العالقِ بحذائي" ( ).
هنا؛ يأتي السؤال بليغاً حاملاً معه شجن الذات/  واغترابها/ وعذاباتها الوجوديَّة؛ فما أقسى الاغتراب عندما يكون اغتراباً روحيًّا؛ وما أشدَّ مرارة الإغتراب عندما يشعر المرء أنَّ وطنه الهواء...وسكنه الدموع/ والجراح؛ وهنا؛ لعب السؤال دوراً تحفيزيًّا محوريًّا مهماً في بث مداليل هذه الجراح/ بعمق/ وتأمل/ وصدى اغترابي حزين؛ مبلوراً النسق الشعري بفاعليَّة السؤال/ وقدرته على بث مكنون الذات بشفافية/ وعمق/ وحرفنة/ وإثارة/ وفاعليَّة استبطان وتأمل شعوري عميق؛ وكأنَّ السؤال يمثل وخزة تجرح الذات المتلقية بوميضها الحزين/ وإيقاعها الاغترابي الجارح؛ وهكذا؛ يُفَعِّل يحيى السماوي قصائده النثرية ببلاغة الأسئلة/ ومداليلها المدبّبة بالجراح/ والمعاناة/ والمكابدة الشعوريَّة
6- التكثيف الإيحائي:
ونقصد بـ [التكثيف الإيحائي]: خلق إيحاءات جديدة بالعبارة الشعريَّة؛ لتحمل في طياتها رؤى عميقة؛ توحي بالدلالة إثر الدلالة؛ وكأنَّ العبارة  تستولد المعاني تلو المعاني/ وتخلق رؤى جديدة كلما عاود القارئ مداولتها/ وفك أحاجيها ومداليلها المستغلقة؛ ومن يدقق في نصوص يحيى السماوي النثرية، خاصة نصوصه [مسبحة من خرز الكلمات] يدرك أنَّ شعريتها تكمن في تكثيفها الإيحائي؛ وتلوينها النسقي/ وإصابتها الهدف الدلالي/ أو النصّي المنشود؛ فالقصيدة – لديه- ليست مغامرة نصيَّة بقدر ما هي تلوين لما يسمى بعنصر التأثير والإيحاء؛ فالإيحاء الشعريّ في قصائده النثريَّة هو الذي يحول مداليلها/ ويحوِّل أنساقها إلى المغامرة الشعريَّة/ والفتنة الجمالية في المعنى؛ كما في قوله:
"أنا وطنٌ...فكوني السارية..
أنا ساريةٌ..فكون العَلم...
أنا سؤالٌ...فكوني الجواب...
بهديلكِ يغدو سريري شجرةً
مثقلةَ الأغصانِ..
بعناقيدِ القبلات
هديلُكِ
يزيلُ الغبارَ عن حنجرتي...
وَحْدُهُ صمتُكِ
يجعلُ حروفي صديئة!" ( ).
هنا؛ يُلَوِّن الشاعر النسق الشعريّ بالتكثيف الإيحائي؛ من دلالة إلى أخرى؛ فهو خلق الجملة المثيرة/ أو الصورة المثيرة التي تحمل بكارتها من دهشتها الإسنادية؛ محقِّقاً من خلالها قفزة جمالية على مستوى التخييل/ وكثافة الإيحاء/ وعمق الارتداد الشعوري التأملي بمثيرات الأنثى؛ كما في هذه الصورة المدهشة: "بهديلكِ يغدو سريري شجرةً/ مثقلةَ الأغصانِ .. بعناقيدِ القبلات.."؛ واللافت – أنَّ يحيى السماوي- يكثف دلالات قصائده في قفلة الختام؛ معززاً درجتها الإيحائيَّة/ وعمقها التأملي؛ وهذا ما تبدَّى في هذه القفلة: "هديلُكِ...يزيلُ الغبارَ عن حنجرتي/ وَحْدُهُ صمتُكِ يجعلُ حروفي صديئة"؛ إنَّ هذا التكثيف الإيحائي/ والخلق الفني في - الصورة الشعريَّة السابقة- يكسبها أناقتها التشكيليَّة/ ومظاهر دهشتها وتناميها وتخليقها الجمالي..فقارئ شعريَّة السماوي في قصائده النثرية – عموماً- لا تستوقفه الجزئيات بقدر ما يستوقفه المنظور الكلي/ والقفلة النصية المثيرة التي تسهم في تنامي الدلالات/ وتكثيف الإيحاء؛ وهذه الخصيصة اشتغل عليها السماوي طويلاً لخلق نص نثري يفوق بشعريته النص الشعري ذاته؛ فالإيقاع الجمالي وإن خفت في بعض الأحيان تستنهضه الدلالات/ وبداعة الإيحاءات/ مشكلةً أفقاً جماليًّا/ تأمليًّا لا تحده الحدود ولا تطاله الرؤى الجزئية/ أو التأويلات البسيطة.
فما أجمل هذه الانفلاتات التأملية الغزلية التي تصب مظاهر فتنتها بألق الجملة/ ونبض الإحساس وعمق الشعور؛ كما في قوله:
"آهاتي حبالٌ
من قِنّبِ  الصَّبابةِ
ينشرُ عليها قلبي
ثيابَ نبضِهِ
ومناديلُهُ المبللة بجمرِ الوجدِ
هل أنا طفلٌ؟
ما غفوتُ 
إلاَّ وأنا
مطبقٌ بأجفاني
عليك"( ).
إنَّ قارئ هذه الجمل/ لا يخفى عليه اتزانها الجمالي/ وإفرازها الدلالي عن طريق بداعة التشكيل/ وحسن اختيار الاستعارة؛ التي تشدّ الاستعارة التي تليها؛ وتعززها فنيًّا/ وتزيدها سحراً/ ونبضاً جماليًّا؛ فما أجمل هذه التآلفات الاستعارية التي تزيد كثافة الجمل/ وحركة إيحاءاتها/ وامتداداتها الغزلية؛ كما في قوله: آهاتي حبالٌ/ من قِنَّبِ الصَّبابةِ/ ينشرُ عليها قلبي ثيابَ نبضِهِ/ ومناديلُهُ المبلّلة بجمر الوجد"؛ لاشكَّ في أن سحر الجملة وأسلوب ائتلاف الاستعارات مع  بعضها بعضاً يدفع الحركة التعبيرية/ ويزيدها شاعرية/ بمعنى أدق: إننا نلحظ أنَّ شعريَّة القصيدة – لديه- شعريَّة خلق/ وتنامٍ جمالي على الدوام؛ إن لم يكن عن طريق التشكيل كان ذلك عن طريق المغامرات الدلاليَّة/ وكثافتها الإيحائية/ التي تفتح حيِّز الصورة/ وتمدّ النبض الشعريّ؛ بكينونة نسقية غاية في التنامي والتأقلم الشاعري التشكيلي الانسيابي المرهف بين التشكيلات اللغويَّة على المستويات كافة.
7- فتنة المعنى/ ودهشة المحفزات الدلاليَّة:
ونقصد بـ [فتنة المعنى/ ودهشة المحفزات الدلاليَّة]: استبطان الدلالات لمدلولات مفاجئة/ تستقي مظاهر جمالها من كثافتها الإيحائية/ وعمقها في إصابة المعنى البعيد/ أو اللامباشر؛ لخلق درجة من الإيحاءات الشعريَّة المتجددة؛ مع كل مغامرة قرائية جديدة؛ ولعلَّ هذا الأسلوب هو الذي يمنح النصوص النثرية حركتها وتخليقها الجمالي؛ لذا؛ فإنَّ أبرز ما يثير قصائد يحيى السماوي هذا الإدراك المعرفي الحصيف للمعاني/ وتخليقها جماليًّا عبر دهشة المحفزات الدلالية التي تثير الجملة/ وتعزز سيرورة الدلالات؛ لتبدو ذات حنكة مدلوليَّة تستقي دهشتها من خصوبتها وفتنة معانيها؛ وابتكارها الدالي والمدلولي لإيحاءات جديدة غير متوقعة في السياق النصي على الإطلاق بهذه الشاكلة الفنية من التمظهر والإدهاش الإسنادي؛ يقول السماوي:
"أما من فأسِ لقاءٍ
أطيحُ بهِ
الجدارَ المنتصبَ
بين العصفورِ والعشًّ؟! 
جسدي مُفَخَّخٌ بالفحولةِ...
لا أريدُ تفجيرَهُ
إلاَّ
على سريركِ!" ( ).
إنَّ المعنى قد يتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى أنَّه سطحيّ أو مباشر؛ وأنَّ الدلالة واضحة على المقصود الحسي الغريزي؛ لكن ما يريده الشاعر تحريك الدلالة وفتنة المعنى؛ بالارتداد إلى الخلق الصوفي؛ فالفحولة هي سمة من سمات الخصوبة/ وهي رمز على الرجولة/ ورمز من طرف آخر على الخصوبة والتوق العاطفي؛ وهي شعلة الاتقاد الوجوديّ؛ إنَّ انزياح الرؤية من طابع حسي إلى تجريدي قد ولَّد حركة في المعنى؛ أثارت الذهن؛ وقد جاءَ التنافر الإسنادي في البداية دليلاً على هذه الانزياح والخلخلة التشكيليَّة؛ بإسناد فأس إلى كلمة اللقاء؛ إسناداً إضافيًّا تنافرياً؛ فالقارئ يأنس باللقاء؛ نظراً إلى ما يحمله من حميميَّة ورقة وشعور مرهف لكن يُفَاجَأ بلفظة "فاس" نظراً لما تحمله من عنف، وقسوة، وقطع؛ وبين الحميمية والرقة والقسوة والقطع تنافر دلالي؛ وإسناد جدلي مخلخل قصده الشاعر لخلق نوعٍ من الحركة في الصورة بقصد تحريك المعنى وإثارة التعبير؛ وهذه السمة تسهم في تحريك نصوصه جماليًّا؛ محدثة فيها هزة شعوريَّة وحركة مفاجئة منزلقة في حركة الدلالات المرافقة للصور الجدليَّة/ أو التراكيب الجدلية ذات المفارقة التشكيليَّة/ والخلخلة النسقية.
ومن ذلك ما يعمد إلى خلق الدهشة الإسناديّة/ وتلوين النسق الشعريّ؛ ليغدو بغاية المباغتة المشهديَّة/ والمفارقة الجدليَّة المثيرة؛ كما في قوله:
"العصافيرُ والخُضْرَةُ
عقربا ساعتي...
وأنا في حجرتي
أرى الصباحَ...
عبر سقسقاتِ العصافير..
وأعرفُ الليلَ
من انطفاءِ قنديلِ الخُضْرَةِ
في أشجارِ الحديقةِ"( ).
إنَّ المفاجأة الإسنادية تكمن في قوله: [العصافيرُ والخضرةُ عقربا ساعتي]؛ للتلاعب بالمعنى/ وتكريس فتنة الرؤى؛ وزعزعة المؤولات النصّية البسيطة أو المسندات النصّيَّة المألوفة؛ لإثارة القارئ بمنظورات شعوريَّة عميقة؛ يصطادها في تشكيلاته المراوغة؛ لخلق المحفزات الدلالية واستقطاب أبعادها.
وقد يحاول السماوي في قصائده النثريَّة خلق المعاني الجديدة/ ذات الافتنان المدلولي/ والجدل الرؤيوي؛ لتلوين النسق النثري/ وإثارته جماليًّا؛ كما في قوله:
"لن أحترمَ سيولي
إنْ لم تتلاشَ
في واديكِ...
لكِ ادّخرتُ ما في غيومي 
من مطر..
ونيازك...
ورعود
أنا وأنتِ عَقْرَبَا ساعةِ  العشقِ
في الَّلازمنْ!" ( ).
هنا؛ يصطاد السماويّ التشكيلات اللّغوية ذات الانزلاقات اللغويَّة المدهشة التي تترك المعنى فاتناً؛ صاخباً؛ بفتنة الرؤية/  وعمق الإسناد/ وبداعة التشكيل/ وغرابته؛ وهذا أبرز ما تبدَّى لنا في قوله: "أنا وأنتِ عَقْرَبَا ساعةِ العشق في الَّلازمن!"؛ إنَّ لفظة (اللازمن) أشعلت النصّ جماليًّا؛ وخلقت في التركيب الشعريّ السابق دهشة/ أو صدمة يمكن أن نسميها صدمة الإثارة/ أو وخزة الإبداع؛ لدرجة أنَّ القارئ يُدْهَشُ بهذا التركيب متضافراً مع التركيب السابق له؛ وهو [أنا وأنتِ عقربا ساعةِ العشق]؛ بمعنى: أنَّ عشقهما خالدٌ..ممتد..لا نهاية له...كامتداد الكون والحياة...أو الدهر الأبدي؛ وهذا ما جعل المعنى فاتناً/ محفِّزاً الدلالات الأخرى إلى التنامي والانبهار الدلالي؛ وهكذا؛ تشتغل نصوص الشاعر يحيى السماوي على بثّ التشكيلات اللغويَّة بافتنان دلالي/ يثير الخيال؛ ويبعث على التأمل والتفكر بمداليل اللغة وأنساقها المبتكرة في تجربة السماوي؛ على مستوى قصائده النثريَّة وانفتاح رؤيتها وشاعريتها المرهفة.
8- البراعة النسقيَّة:
ونقصد بـ [البراعة النسقيَّة]: براعة التشكيلات الُّلغويّة التي تخفي حنكة نسقيَّة تصويريَّة؛ تُعَزِّز المد التأملي الشاعري الذي يخطه الشاعر في أنساقه اللغويَّة على المستويات كافة. وتُعَدُّ هذه الخصيصة من خصائص نصوص يحيى السماوي النثرية؛ فهو يثير القارئ؛ ببراعتها النسقية/ وحنكتها التصويريَّة؛ وفاعليتها اللغويَّة المبتكرة بحسّها المرهف وصداها الجمالي وانفتاحها الدلالي؛ لذا؛ فإنَّ مثيرات قصائده النثريَّة لا تخطّ جمالها بمدلولاتها المبتكرة/ ومعانيها الخصبة فحسب؛ وإنما بحنكتها التصويريَّة وبراعتها النسقية في تفعيل الأنساق اللغويَّة وتحفيزها جماليًّا؛ كما في قوله:
"قَبْلَ كلِّ لقاء
يتبرَّجُ لكِ قلبي..
يُكَحِّلُ بالدفءِ أجفانَ نبضِهِ..
ويُخَضِّبُ دَمَهُ
بحنَّاءِ الحنين..
ماؤُكِ- لا تُرَابي
أعشبَ حقولَ أبجديَّتي...
كيفَ تَلِدُ الدُنْيَا قاراتٍ جديدة
إن لم يَحْتَضِنْ عشُّكِ
عصفوري"( ).
إنَّ المتتبع لحركة الأنساق اللغويَّة – في هذه القصيدة- لا يخفى عليه استعاراتها المبتكرة/ وبراعة أنساقها التشكيليَّة؛ التي تثير القارئ بحركتها النسقية المتفاعلة؛ وترسيمها الشعوري الدقيق للإيحاءات الشعريَّة؛ فما أجمل هذه الأنساق التصويريَّة/ وبراعة نسجها/ وتوازنها النسقي؛ كما في قوله: "قَبْلَ كلِّ لقاءٍ يتبرّجُ لكِ قلبي..يُكَحِّلُ بالدفءِ أجفانَ نبضِهِ ويُخَضِّبُ دَمَهُ بحنَّاءِ الحنين"؛ إنَّ الجودة الفنية في هذه الصور/ من حيث بكارتها/ وإثارتها الرومانسيَّة؛ تدفع القارئ إلى التسليم بأنَّها شاعريَّة..مرهفة..قوية التأثير؛ نظراً إلى ما تتركه في نفس القارئ من دفقها الرومانسي واستقطابها الفني وحنكتها التصويريَّة الفائقة؛ وهذا الأسلوب الذي يحفل بالصور المرهفة/ والأنساق الفنية المتوازنة هو ما يميز قصائده النثريّة في مجموعته (مسبحة من خرز الكلمات)؛ ولعلَّ أبرز ما يثير القارئ في مؤولاتها النصّيَّة ومرجعيتها النصّيّة؛ تفاعل أنساقها وتوازنها/ وابتكاراتها التشكيليَّة؛ كما في قوله:
"حطبُكِ أنتِ
وليس تنوّري
أنضجَ رغيفَ قصيدتي
دخانُ ظنونِكِ..
وليس بخورُ احتراقي
أسالَ دموعَ حروفي...
ريحُكِ وليس شراعي
أوصل سفينتي
إلى الضِّفة الأخرى
من نهرِ القلق!" ( ).
إنَّ الحنكة والبراعة النسقية في اقتناص التراكيب الشاعريَّة/ والصورة الصدمة التي تشكل حيوية النسق قد أثارت جمالية القصيدة؛ كما في الاستعارات/ والأنساق التالية؛ [رغيفَ قصيدتي- دخان ظنونكِ- بخور احتراقي- دموع حروفي- نهر القلق]؛ إنَّ هذه الأنساق مثيرة في تحفيز الرؤى، وتعزيز الدلالات؛ الأمر الذي يجعل قصائده النثرية شاعريَّة في صدماتها التشكيليَّة/ أو التصويريَّة المباغتة التي تعزز مدها الجمالي/ ومثيراتها الإيحائية؛ وهكذا؛ يؤسِّس يحيى السماوي حركة قصائده النثريَّة على البراعة النسقية/ والمهارة التصويريَّة؛ باختيار الصورة الصدمة/ أو الصورة الدهشة التي تثير القارئ؛ وتحفزه جماليًّا.
9- بداعة الحكم والعبر المستخلصة:
ونقصد بـ [بداعة الحكم والعبر المستخلصة]: أن يؤسِّس الشاعر إيقاع قصائده على مداليل الحكمة الصريحة/ والعبرة المرهفة الدقيقة في التعبير عن الحالة/ أو الفكرة المجسدة؛ إذْ تنبني الكثير من قصائد النثر الحداثية على إيقاع الحكم والعبر الدقيقة؛ لشحنها بدلالات شتى؛ ومنظورات جديدة؛ تخطُّ إيقاعها جماليًّا من خلال دهشة مدلولاتها ومصداقية الحكمة أو العبرة المستخلصة؛ وقد وظّف يحيى السماويّ قصائده النثريَّة على إيقاع الحكم والعبر المبتكرة؛ لبث مدلولاته الاغترابية وتأملاته الوجوديَّة؛ كما في قوله:
"الخسارةَ؟
أنْ أرْبَحَ المَطَرَ...
والنَهْرَ
والينبوعَ...
وأخسرَ قطرةَ الحياءِ
في جبيني..
الشقاء؟
أنْ أكونَ السعيدَ الوحيدَ
بين جموعِ التعساء" ( ).
إنَّ قارئ النصّ السابق يلحظ إيقاع الحكم والعبر؛ فثراء الإنسان ليست بربح الأشياء؛ وإنما بحفظ الكرامة وقطرة الحياء في الجبين/؛ والسعادة لا تأتي بتعاسة الآخرين؛ إنَّ هذا الحس الإنساني المرهف الذي يمنح قصائده إيقاعها الجمالي/ وبعدها الإنساني هو ما يميّزها دلاليًّا ووجدانياً؛ فالمشاعر الإنسانية النبيلة هي التي تدفع دائرة نصوصه إلى التأثير بالقارئ بمداليلها العميقة وأبعادها الإنسانية العظيمة.
وقد يعمد الشاعر يحيى السماوي إلى إيقاع السخرية والفكاهة في قصائده النثرية؛ لتغيير مساراتها ومدلولاتها النصيّة؛ للسخرية من الواقع/ ومآسيه ومنظوراته المنحرفة المغلوطة؛ كما في قوله:
"ثمَّةَ بياضٌ 
أكثرُ عتمةً من  قعرِ بئرٍ 
في ليلٍ يتيمِ القمرِ والنجوم
بياضَ الكفن و"البيت الأبيض" مثلاً!
ثمَّة سوادٌ
أكثر بياضاً من مِرايا الصباح..
الحجرُ الأسودُ..
وشاماتك  مثلاً" ( ).
هنا؛ يعتمد الشاعر إيقاع الحكم بوميض السخرية/ والفكاهة/ من خلال تفسير الألوان وفلسفته في تأويلها؛ وقلب مداليلها أحياناً؛ فاللون قد ينطوي على منظور مغاير لمدلوله؛ فكما أنَّ اللون الأبيض يدل  مثلاً على السلام والطهر والبراءة؛ فقد يدل أحياناً على مدلول مغاير لمدلوله؛ إذْ يدل – في بعض الأحيان- على الجريمة والقتل والظلم كالبيت الأبيض مثلا؛ أو بياض الكفن؛ والسواد، كما هو معروف بأنه لون الحداد والموت؛ فقد يدل على الجمال والطهر والقدسية كالحجر الأسود وشامات المحبوبة؛ إذْ يدل الحجر الأسود على الكعبة الزهراء وشامات الحبيبة على جمالها وبرونزية بشرتها السمراء؛ وهكذا؛ يعمد يحيى السماوي إلى خلق لغة جدلية مثيرة في قصائده [مسبحة خرز الكلمات]؛ من خلال اعتماده على عنصر المفاجأة والدهشة في طريقة تشكيل الجملة من جهة/ وطريقة قلب المداليل وعكسها من جهة ثانية؛ ليؤكِّد مهارته الفنية؛ وقدرته على الخوض في أشكال الكتابة الإبداعية كلها؛ دون أن يكون ضعيفاً أو مهزوزاً في واحدة من تلك القصائد؛ فهو يبث تأملاته بجماليَّة وخصوصية إبداعية حيناً، ورهافة شعورية إنسانية عميقة حيناً آخر؛ مؤكِّداً تميزه كشاعر وتميزه كإنسان أحسَّ  بالوجود وعانى الاغتراب؛ فكتب شعراً وجدانياً عبَّر عن حالته دون أن يصاب باليأس وسوداوية الرؤية كغيره من الشعراء الذين أصبغت كتاباتهم قتامتها ومنظوراتها المغلوطة القلقة المرتكسة على فضاءاتها ومساراتها الإبداعية.
وقد يعتمد الشاعر عنصر المفاجأة في حكمه؛ لإثارة مداليلها وتأسيسها جماليًّا؛ وتفعيل رؤيتها ومنظورها دلاليًّا؛ كما في قوله:
"أثْقَلُ من صخرةِ "سيزيف"...
أخفُّ من ثوبِ الأفْعَى...
أضيقُ من قبر..
أوسعُ من صحراء..
أرقُّ من زهرةِ برتقال..
أخشنُ من شظيَّةِ قنبلة...
أندى من شفةِ عروس..
أيبسً من قرون الوعلِ...
فكيف لا تكونُ أبوابُ جراحاتِهِ
مفتوحةً على سِعَتِها
كآنيةِ الشحَّاذين؟
ونوافِذُ أفراحِهِ
مطبقةً  كقبضاتِ الجلادين" ( ).
يعتمد الشاعر تراكم المحفزات الضديَّة من خلال تكرار صيغة التفضيل (أفعل)؛ لإثارة إيقاع الحكم والعبر المستخلصة بعمق؛ بأسلوب يميل إلى التعداد والتراكم؛ لإثارة المتلقي لتتبع النص بأكمله ليصل إلى القفلة النهائيَّة؛ التي تترك القارئ؛ يتأمَّل في حيثيات/ الصورة وأفقها التأملي المفتوح؛ رغبة منه في إثارة المتلقي بالمراوغة النسقية/ والتعداد المتتابع لصيغة التفضيل ليصلها إلى المقصود النهائي كما في الصيغ التالية: [أثقل من؛ أخفُّ من؛ أضيقُ من...؛ أخشنُ من، أندى من، أيبسُ من]؛ مولِّداً حركة تتابعيَّة تسهم في تحفيز الرؤى وتعميق المداليل الشعريَّة؛ وهكذا؛ يؤسس الشاعر يحيى السماويّ قصائده النثرية على إيقاع الحكم والعبر المبتكرة؛ مؤكِّداً تجاربه العميقة في حيِّز معرفة حقائق الحياة وماهيات الوجود؛ مبرهناً أنَّ التجربة الشعوريَّة المهمة هي تجربة حافلة بالمثيرات والتأملات والتقلبات العاصفة؛ كما مرّ في مراحل حياته كلها.
10- الشفافية الرومانسيَّة:
ونقصد بـ [الشفافية الرومانسيَّة]: شفافية التصوير من حيث رهافة الحسّ والشعور؛ وعمق التأملات الرومانسيَّة الشفيفة؛ من حيث بكارة الاستعارات/ وعمقها التأملي؛ وطبعها الغزلي الرهيف؛ وتُعَدُّ الشفافية الرومانسية من مثيرات القصائد الحداثية التي تكثر من ذكر الأنثى؛ بقصد جذب المتلقي إلى دائرة إبداعها الشعريّ؛  وهذا ما فعله كذلك يحيى السماوي في قصائده (مسبحة من خرز الكلمات) لتحفيز رؤيتها/ وتعميق مدلولها؛ لتأتي بغاية الاكتناز/ والتفعيل الجمالي؛ كما في قوله:
"رميتُكِ بعيداً
بعيداً..
لا في لجَّةِ بحرٍ..
أو متاهةِ غابة..
إنما
في أعماقِ قلبي!
هَبَكِ ستهربين منه...
فَمِنْ أينَ لكِ القدرةُ
على اجتياز
قضبانِ ضلوعي؟" ( ).
هنا؛ يبلور الشاعر نصّه الشعري على الشفافية الغزلية الرومانسيَّة؛ محقِّقاً وضوحه المقصدي لدى القارئ، دون تعقيد أو تشتيت في الرؤية/ وتشظٍّ في الدلالة؛ وهذه الشفافية الرومانسية الواضحة في قصائده النثرية يهبها قربها من المتلقي؛ ووضوحها المقصدي؛ وشفافيتها اللامتناهية؛ ومن يدقِّق في قصائده النثرية الموسومة بـ (مسبحة من خرز الكلمات) يلحظ شفافيتها ووضوحها المقصدي؛ وروحانية المشهد الشعري المجسد؛ كما في قوله:
"خطيئتُكِ
أنَّكِ دونَ خطيئة...
لا عيبَ فيكِ
سوى عذابي!
كيفَ أملأُ بالشهد صحني..
وقارورتي بالرحيق...
إذا كانت حدائقكِ
أعلنتِ العصيانَ
على نحلي؟" ( ).
هنا؛ تبدو القصيدة واضحة الرؤى، شفيفة الرؤية، بسيطة المدلول للقارئ؛  وهذه السهولة لا تعيبها؛ نظراً إلى إيقاعها الرومانسي الشفيف؛ وبلورتها بألق شعوري عميق/ وحس عاطفي مرهف؛ وهي موجَّهة لأكبر شريحة من القرَّاء؛  ولذلك خصص لها لغة واضحة؛ بإيحاءات دلاليَّة؛ ظاهرة للقارئ دون طول إمعانٍ وتفكر وتدبر؛ وهكذا؛ يؤسِّس يحيى السماوي جماليَّة قصائده النثرية على وضوح المقصدية حيناً/ والشفافية الرومانسية حيناً آخر؛ معتمداً على تفعيل الإيقاع الخارجي من جهة أولى والإيقاع الداخلي من جهة أخرى؛ والتكريس على إيقاع العبر والحكم مرةً؛ وإيقاع التضاد والبراعة النصيَّة مرةً أخرى؛ مما يجعل نثرياته متعدِّدة الأساليب والطرائق التشكيليَّة؛ وهذا التنوع يكسر رتابتها؛ ويخلق لذّتها/ وحنكتها الإيحائية التعبيريَّة.
11- جماليَّة الإيقاع التقفويّ:
ونقصد بـ [جماليَّة الإيقاع التقفويّ]: جماليَّة القوافي الختاميَّة التي تكسب القصيدة حركة إيقاعيَّة منتظمة؛ تسهم في تناسقها وتوازنها الفني؛ ولعلَّ أبرز ما سعت إليه القصيدة الحداثية اليوم قصيدة النثر خصوصاً أنها بنت عالمها على الإيقاع الداخلي حيناً/ وحركة القوافي الختامية حيناً آخر؛ تعويضاً عن الإيقاع الموسيقي؛ الذي يلازم قصيدة التفعيلة؛ وقد لجأ الشاعر يحيى السماوي في ديوانه [مسبحة من خرز الكلمات] إلى تحقيق المزاوجة الإيقاعيَّة عن طريق التمازج التقفوي على مستوى قفلة الجمل من جهة وقفلة الأسطر الشعريَّة من جهة ثانية؛ وفق نمط تشكيلي منظم؛ يشي بالتآلف، والتضافر، والانسجام؛ كما في قوله:
"لا تسأليني من أنا
فإنني أجْهَلُ
من أكونْ.
كلُّ الذي أعْرِفُهُ عنّي:
أنا مدينةُ الحكمةِ
لكن الذي يَدْخُلها
لابُدَّ أنْ يُصَابَ
بالجنونْ" ( ).
إنَّ جماليَّة الحركة الشعريَّة – في هذه الدفقة- تكمن في هذا التناسب التجنيسي على مستوى القافية [أكون = الجنون]؛ محاولاً خلق إثارة إيقاعيَّة بالتناغم التقفوي بين اللفظتين المتجانستين في القافية؛ ولعلَّ هذا الأسلوب العفوي في اختيار القوافي؛ يؤكِّد شعريَّة القصيدة/ وحركتها الإيقاعية المتماوجة.
وقد يلجأ الشاعر يحيى السماوي إلى الإيقاع التقفوي الآسر دون تكلف؛ لدرجة أنَّ القارئ يشعر أنَّ الجملة هي التي تفرض نفسها على السياق؛ معزرة إيقاعه الداخلي؛ وشعريته؛ كما في قوله:
"بين أكاسرةِ الداخلِ
وأباطرةِ الخارجِ:
تقفُ غزالةُ قلبي!
لا ضوءَ
غيرُ التماعِ السكاكين..
لا ماءَ غيرُ الدمِ والدموع..
الديناميت في المرعى
والجمرُ في الينبوع..!
من دهورٍ
وأنا أفترشُ الأفقَ بأحداقي..
مُتَرَقِّباً بشارةَ الهدهد..
ولاثمَّة سوى
نعيقُ الغربان!" ( ).
هنا؛ يبلور الشاعر النسق الشعري بعفوية آسرة؛ عبر سلاسة الإيقاع التفقوي؛ دون تكلف؛ فالشاعر ولّد حركة تقفوية منسجمة في النسق الشعري التالي؛ محقِّقاً دفقه الشاعري الآسر؛ كما في قوله: "لا ماءَ غيرُ الدمِ والدموع..الديناميت في المرعى والجمرُ في الينبوع..!"؛ فالشاعر ولّد نسقاً شعريَّا متكاملاً عبر فاعلية التضاد الأسلوبي بين لفظتي [الجمر/ والينبوع] و[ الديناميت/ والمرعى] و[غزالة قلبي/  والتماع السكاكين] و[الدم/ الدموع]؛ محقِّقاً في الصورة المتضادة درجة من الإيقاعية عبر قافية [الدموع/ والينبوع]؛ مثيراً الحركة الشعريَّة؛ وباعثاً خصباً لحركة الدلالات؛ وهذا يؤكِّد لنا أنَّ شعريَّة السماوي ليست شعريَّة عبثية (عشوائية) غير واعية بأنساقها اللغويَّة التحفيزيَّة؛ وإنما شعريَّة منظمة بأنساق منسجمة ورؤى فاعلة تسهم في تحفيز الحركة الإيقاعية من جهة/ وتوليد دلالات جديدة مثيرة من جهة ثانية؛ وهذا يؤكِّد لنا أنَّ  شعريَّة السماوي – في قصائده- ليست سطحية؛ أو أحادية المنظور؛ ولذا فإنّ قارئ قصائده – دائماً- مشغوفٌ بألق العاطفة/ وسموقها الفني/ وحيوية اللحظة العاطفية المجسدة؛ ليأتي إيقاعها الصوتي منسجماً مع بثها الروحي/ وخصوبتها الجمالية/ وإيقاعها العاطفي الفياض بالعاطفة/ والتخليق الجمالي/ والحس الشاعري الذي ينبض من اتقاد الذات ونبض الإحساس الدافق بالحب والجمال.
12- خصوبة الفكر/  وبعد التأمُّل:
إنَّ الفكر عندما يكون مبطنًّا بمنظور فني/ وتأمل عميق لاشكَّ أنه يغني القصيدة/ ويحقق لها خصوبة دلاليَّة تستقيها من إدراك الشاعر وبعد تخييليه ومنظوره الجدلي إلى الأشياء؛ والشاعر يحيى السماوي يملك هذه الروح الشفَّافة التي يستقيها من شعور دافق/ وفكر تأملي عميق؛ من جرَّاء الاغتراب والمعاناة الوجودية المأساويَّة التي عاشها في تاريخ حياته العاصفة بالأزمات والجراح والنكبات؛ لهذا؛ نلحظ في قصائده توقاً دائماً إلى حياة الطهر/ والصفاء/ والنقاء/ والتحليق في ملكوت الجمال الرباني العميق في قصائده الصوفية؛ إذْ يقول:
"صحيحٌ ما قُلْتُم!
قدماهُ واهنتانِ..
يداهُ مُرْتَعشتان..
عكَّازَهُ سهمٌ لقوسِ الظهرِ..
ولا زيتَ في قنديلِ عينيهِ
لكنْ:
مَنْ منكم
يسبقُ عصافيرَ أخيلتِهِ
وهي تشقُ الفضاءَ؟
وغزلانَ أحلامِهِ
وهي تجوب براري اليقظةِ؟
وأيائلهُ وهي تتسلَّقُ القمم؟
وصلواته وهي تسمو نحو الملكوت؟" ( ).
إنَّ الشاعر يولَّد نسقاً تأمليًّا؛ فيه خصوبة في الرؤية/ وبراعة في تجسيد الحالة وتوصيفها؛ بإيقاع شاعري؛ لا يعتمد اللغة السهلة فحسب؛ وإنما الصور المثيرة؛ رغم إيقاع السرد القصصي الطاغي الذي يبدو منذ البداية في قوله: "صحيحٌ ما قلتُم! قدماهُ واهنتانِ..يداهُ مرتعشتانِ/ عكَّازُهُ سهمٌ لقوسِ الظهرِ، ولا زيت في قنديل عينيهِ"؛ إنَّ تكريس الشاعر هذه الصور التجسيدية التوصيفية يؤكِّد أنَّ شعريَّة السماوي - في قصائده النثرية- تعتمد التوصيف الحسي الدقيق/ وبث اللقطات التصويريَّة بخصوبة فكرية/ وتأمل عميق/ وإدراك معرفي شامل بالمثيرات التشكيليَّة من جهة/ وبحسن توزيع الرؤى واستقطاب مداليلها العميقة من جهة ثانية؛ فدائماً خلف الصور السهلة تكمن رؤى عميقة يستدعيها القارئ، إذا عاود النظر في قصائده ومدلولاتها السطحية التي قد تبدو للقارئ، وهذا يضمر وعياً في التشكيل/ وإدراكاً معرفياً في كشف ما في الداخل وإظهاره إلى الخارج بعمق/ وحسن تأمل/ وتخييل شاعري عميق.
والَّلافت أنَّ الشاعر يحيى السماوي يبث تأملاته بإحساس رومانسي دافق؛ يعتمد فيه التراكم اللغويّ/ وتكثيف الصيغ المتواترة؛ وتواليها بحروف العطف، الأمر الذي يجعل الدفقة الشعريَّة متسارعة بالرؤى، والمشاعر، والأحاسيس الدافقة بالتأمل، والشعور الداخلي العميق؛ كما في قوله:
"قليلُكِ – لا كثيرهُنَّ- ما يملأُ :
فضاءاتي بأقواسِ القزح..
صحارايَ بالغدران..
حنجرتي بالصَّداح..
وسادتي بالنعاس
سريري بالأنين..
وخريف سطوري
بربيع الكلمات!" ( ).
إنَّ قارئ هذه القصيدة يلحظ إيقاعها الغزلي بتراكم الصيغ/ والرؤى/ والدلالات؛ مُحَفِّزاً دلالاتها؛ باعثاً إيقاعها العاطفي الخصب؛ مُلَوِّناً مدلولاتها؛ وباعثاً لحركتها النسقيَّة؛ وهو بهذا الأسلوب من التأمل/ والحس الغزلي/ يؤكد خصوبة فكره/ وبعد تأمله بالأشياء؛/ لتأتي القصيدة متتابعة بالأوصاف/ والمشاعر والصيغ الرومانسيَّة؛ وهذا إن دلَّ  على شيء فإنَّه يدلُّ على شاعرية مرهفة/ وخصوبة فكرية/ وبعد نظر في حرفنة التشكيل والتعبير الشعري.
نتائج واستدلالات:
1- إنَّ قصائد (مسبحة من خرز الكلمات) ليست سطحية الرؤى/ عبثية المداليل؛ وإنَّما هي منظمة بإيقاع الفكرة المجسدة المرسومة بدقة/ وعناية/ ومنظورها الفني التأملي المغاير للمألوف في التعبير عن الرؤية النصيَّة/ والمكاشفة الشعورية لأعماق الفكرة والرؤية المجسدة؛ بمعنى: أنَّ الدلالات متتابعة في قصائده؛ تبعاً لمنظورها المغاير وأسلوبها الذي يفوق إيقاعية الشعر وشعريته أحياناً من حيث العمق/ والامتداد/ والتدفق الشاعري.
2- إننا نلحظ في قصائده النثرية تحليقاً على مستوى الرؤية/ وابتكاراً نصيًّا على مستوى الأنساق النصّيّة؛ الأمر الذي يجعلها دائماً في مغامرة كشف/ وتفاعل نصي على الدوام، تثير القارئ بالحكم والعبر المستخلصة التي تبثها في ثناياها بإيقاع ساخر في بعض الأحيان.
3- إنَّ جماليَّة التشكيل اللغوي تشكل محفِّزاً من محفِّزات قصائده النثرية؛ نظراً إلى ابتكار التشكيلات المراوغة التي تشكل قفزة في حيِّز التلقي النصي لمثل هذه الأنساق التفاعلية ضمن النص؛ وهذا يؤكِّد لنا: أنَّ شعرية السماوي دائماً هي خلق وابتكار لغوي/ وتخليق لأنساق نصيَّة مبتكرة ليس على الصعيد الجزئي فحسب، وإنما على الصعيد الكلي/ والرؤية العامة التي تخطها القصيدة مهما تشعبت وامتدت أنساقها.
 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=8718
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 08 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28