• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : قضية رأي عام .
              • القسم الفرعي : قضية راي عام .
                    • الموضوع : التفكير ودوره في صناعة عقلية الخطيب الرسالي .
                          • الكاتب : مهيب الاعرجي .

التفكير ودوره في صناعة عقلية الخطيب الرسالي

 
تقوم الخطابة الحسينية على مرتكزات واسس كثيرة , فهناك مرتكزالمواهب مثل الصوت ومقبولية الخلقة وسلامة اللسان ... , وهناك مرتكز المظهرالخارجي والتجمل والوقار... وهناك الاساس الديني والروحي وما يرتبط به من اخلاص وتقوى ...  وهناك الاساس المعرفي من حفظ وتذكر وبحث وتراكمية علمية ... . وما يهمنا في هذا البحث هو تسليط الضوء على الجانب الاخير وهو الاساس المعرفي .
     ويمكن ان نلاحظ بعديين رئيسيين يقوم عليهما الاساس المعرفي في الخطابة وهما : المحتوى العلمي  , والنشاط العقلي , والبحث ينصب بشكل رئيسي على البعد الثاني لكننا نمر سريعا على البعد الاول ثم ندخل في البعد الثاني . 
 البعد الاول : المحتوى العلمي :
    ونعني به كل مجال علمي يشكل مقدمة للعمل الخطابي او اي مادة ثقافية و فكرية يروم الخطيب طرحها على المنبر من اية او حديث او قصة ... , فالجهد العلمي هو حصيلة تراكمية تتفاعل مع الاعداد للمحاضرة وتنعكس افاقها عليه , والخطيب الذي يمتلك قاعدة واسعة ومطالعات معمقة ومتنوعة هو الذي يؤثر وهو الذي يستطيع ان يرسم الخطوط التي تلامس الواقع وترفع من مستواه , والسبب في ذلك ان التعلم – وفقا لأحدث النظريات المعرفية – لا يمثل زيادة كمية في المعلومات فقط  وانما يمثل تغييرا في البنية العقلية المعرفية بشكل عام , فالبناء المعرفي يقوم على اساس هرمي , وان عملية التعلم هي عملية دمج للخبرات والمعلومات السابقة مع الجديدة في ذلك البناء ,  وهذا الثراء وتوسع الهرم المعرفي يزيد من فاعلية توليد الافكار الخلاقة والابداعية  .
   وعلى هذا الاساس نفهم كيف ان التراكمية المعرفية لها دور في صياغة الطرح المنبري, فالخطيب في مرحلة تعلمه ودراسته ومطالعاته المنهجية هو في واقعه في دور اعداد للمحاضرة لكنه اعداد يتسم بالبعد الزمني والشمولية وايجاد المناخ العلمي في داخل بناءه المعرفي , اما في مرحلة التحضير للمحاضرة المخصوصة هو في دور دمج للتراكمية المعرفية مع المضمون المعد , ومن هنا نفهم سر نجاح وتأثير وبقاء الخطاب الواعي لدى بعض الشخصيات الخطابية , كما يظهر وهن مقولة اعتماد الخطاب المنبري على مرحلة الاعداد القريب والمباشر فقط وانه يكفيه لكي يكون خطيبا ان يجيد اعداد محاضرة مع دراسة مقدمات العلوم الاولية التي يحتاجها !!
 و هذا الطرح قد يكون له مبرراته الواقعية ويغطي جانبا من جوانب الفراغ المنبري , لكن حصر مجال المنبر في هذه الدائرة الضيقة هو تسطيح لمضمونه , كما ان الانظار ترنو الى خطيب يمثل الطموح ويعكس الصورة الاصيلة التي تنسجم مع صرح مدرسة اهل البيت عليهم السلام .
البعد الثاني : النشاط العقلي
   ان هذا البعد يمثل الجهد الفكري الذي يبذله الخطيب من اجل معالجة المعلومات وصياغتها بالنحو الذي ينسجم مع الاهداف التي يرمي الى تحقيقها , وبكلمة اكثر وضوحا ان النشاط العقلي يمثل التفكير والمعالجة الذهنية للمعلومات ,فأننا من خلال التفكير نستطيع  ان نستذكر ونحفظ ونستدل وننظم الافكار ونفهم ونقيم وهكذا . وحتى يكون البحث اكثر منهجية ينبغي لنا ان نحدد معنى التفكير ,وما هو المعنى الدقيق والعلمي للتفكير ؟  وقبل ان نجيب على هذا التساؤل لابد لنا ان نعرف ان بحث التفكير تكفلت به علوم متعددة وتناولته حقول مختلفة فقد تناولته الطروحات الفلسفية وبينت تعريفات له , كما انه ميدان لعلم النفس المعرفي وعلم النفس الفسلجي , واخيرا انفرد هو والابداع بفرع مستقل سمي بعلم نفس التفكير والابداع , كما ان البحوث التربوية افردت له مطالب خاصة .
    
 
وقد عرفه الكثير من العلماء والباحثين ونذكر تعريفين :
 التعريف الاول : السيد الشهيد ( محمد باقر الصدر)
(  جهد يبذله العقل في سبيل اكتساب تصديق وعلم جديد من معارفه السابقة ) (1)
التعريف الثاني : الدكتور فتحي جروان 
(سلسلة من النشاطات العقلية التي يقوم بها الدماغ عندما يتعرض لمثير يتم استقباله عن طريق واحدة او اكثر من الحواس الخمسة ... والتفكير بمعناه الواسع عملية بحث في الموقف او الخبرة  ) (2)
  ومن هنا يتضح لنا  ان التفكير يشمل كل العمليات العقلية بدئاً من الحفظ والتذكر والتنظيم والملاحظة والتي هي ادنى مستويات التفكير صعوداً الى الفهم والاستيعاب ووصولا الى اعلى مستويات التفكير , كما ان التفكير قد يكون مثيره امر حسي او امر داخلي عقلي فيتحفز العقل ليتمثل ذلك المثير بشكل رمزي وصوري , فالذي ينعكس في الذهن من البيئة الخارجية هو الصورة الحاكية عن الاشياء البيئية والتي تنسجم مع العالم العقلي والذهني ثم يقوم العقل بعد ذلك بأجراء التعميمات عن طريق ايجاد المشتركات بين  خصائص تلك الاشياء .
    والذي يهمنا هنا ونريد ان  نؤكد عليه هو ان  هذه الصور الرمزية للاشياء هي التي تشكل المحتوى العلمي الذي ذكرناه في طليعة الكلام , واما العمليات العقلية التي يجريها العقل عليها فهي النشاط الذهني الذي يمثل التفكير , ومن هنا نلاحظ مدى الترابط بين الجانبين فالمحتوى هو المادة الرئيسية التي يتعلق بها التفكير ليكون النتاج الفكري والعلمي , وكلما ازداد المحتوى ازداد التفكير , فالتناسب بينهما تناسب طردي وبالتالي ينعكس على النتاج , وكلما كان هناك تأكيد في الذهن على اجراء التفكير كلما اتسم النتاج الفكري بالغزارة والابداع , اما اذا انعدم او ضعف التأكيد على التفكير واقتصر  على الجانب العفوي والوظيفي في الذهن فحينئذٍ يتحول المحتوى العلمي الى مادة جامدة ومرهقة , فقد تجد طالبا يأتي في بواكير امره الى الدرس بشكل نشط ومتحمس لكن بعد مرور وقت معين وبازدياد المطالب العلمية يصاب بالفتور والبرود , او قد تجد خطيبا يلقي خطابتة ببرود بحيث يوحي لسامعه الملل وانه وصل الى مرحلة التشبع بهذه الفكرة  , كل ذلك ينتج من حالة عدم التفاعل التام بين المحتوى العلمي والنشاط العقلي وهذا الامر ناتج عن عدم زرع ثقافة التفكير في وجوده العقلي والذهني .
   ومن هذا البيان المختصر يتضح الدور الكبير الذي يلعبه التفكير في صناعة النتاج الخطابي المؤثر , وفي توليد الافكار الغزيرة والابداعية لان  المحاضرة هي افصاح وابراز للنتيجة النهائية التي تبلورت بواسطة الاجراءات الذهنية للمحتوى العلمي , ليقوم الخطيب بصياغتها في قوالبها النهائية التي هي الالفاظ واللغة الى الجمهور يقول امير المؤمنين ع ( ينبئ عن عقل كل امرئ لسانه ويدل على فضله بيانه ) (3) 
اننا لو استقرئنا كل الخطباء الذين اثبتوا نجاحهم لوجدنا ان ابرز عامل يقف وراء ذلك هو التفكير, لان الجهد المنبري الناجح يقوم على انتاج الافكار وتنظيمها وليس على التقرير الاصم  للتراث الاسلامي , بل وحتى التقرير يحتاج الى مهارات عقلية فعالة .
تساؤلان حول تعلم التفكير
التساؤل الاول :
   قد يقال ان التفكير هو شيٌ يتطور تدريجيا وبشكل طبيعي من خلال بذل الوسع والاجتهاد في التحصيل العلمي فالقدرات العقلية والمهارات تتبلور بشكل ملازم لطالب العلم والعقل يرقى بتفكيره كلما يرقى المحتوى العلمي فيه وعلى هذا المسار درج الافذاذ من العقول الرصينة في المجال الحوزوي والخطابي من امثال الشيخ الاخوند والشيخ الانصاري والسيد الخوئي والشهيد الصدر والشيخ الوائلي والشيخ التستري ( قدس الله ارواحهم الطاهرة )وغيرهم , فما الداعي بعد هذه التجربة الناجحة الى دراسة مفاهيم التفكير ؟ فما هو مهم بذل الوسع والجهد في التحصيل العلمي والتحضير والاعداد للمحاضرة والتفكير يأتي بشكل طبيعي وملازم للعمليات المعرفية !!
ان بذل الوسع في التحصيل العلمي له انعكاس على القدرات العقلية هو امر لا ينبغي الشك فيه واتذكر كلمة لاحد اساتذة الحوزة (اعزهم الله ) وهي ( ان الطالب اذا لم يفكر في الدرس فأين يفكر ) وبعد سنين قرأت عبارة لاحد اكبر علماء التفكير في المملكة المتحدة (Ryle ) وهي 
" All Lectures are Lectures in Thinking" ومعناها هو (كل المحاضرات هي محاضرات في التفكير ) أي ان الدروس والمحاضرات هي شكل من اشكال تعلم التفكير .
وجوابه : 
 اولا : اننا نسأل لماذا جاءت مئات الايات وعشرات الروايات التي تحث على التفكير ؟ ألا يكفي ذلك الزخم الكبير في المحركية على دراسة التفكير دراسة علمية  واعطائه اهمية قصوى ؟ فقد ورد ذكر التفكير- تصريحا وتلميحا - في القران ما يقارب من  ( 642) اية (5) (4) .  ويكفينا لبيان شرف التفكيرقوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (الطلاق . اية  12 ) فقد اناط الله سبحانه خلق هذا الكون العظيم بعلمنا عن طريق الاستدلال على انه سبحانه قادر ومحيط بكل شيء  ,  ومعلوم ان التفكير الاستدلالي هو نمط من انماط التفكير .
وقد اجرى الاستاذ العقاد  دراسة ضافية في  استقصاء  ابرز  الايات القرانية التي  اشادت  بالعقل  والتفكير   واسماها ( التفكير فريضة اسلامية ) وقال في نهايتها ما نصه (هذا هو الاسلام , بنية حية تذود عن عقيدتها فتذود عن كيانها او تموت , صانها الاسلام في وجوه اعدائه , واوجب ما يوجب عليها هذه الصيانة أنها تطلق للضمير افاقه واعماقه وتحمي للجماعة ديارها وقرارها, وانها لب ووجدان وتفكير وايمان . فأن يكن للجماعة الاسلامية دين , ولابد لها من دين , فلابديل لها من دين يهديها الى الفكر ويهديها الفكر اليه ) (5) 
 كما ان الروايات قد استفاضت  عن اهل بيت الوحي في العقل والتفكير لدرجة عجيبة وحتى ان الشيخ الكليني ( قدس الله نفسه ) جعل الباب الاول من كتابه الكافي في الثناء على العقل ويكفينا مطالعة رواية الامام موسى بن جعفر ع الى هشام وما فيها من لفتات واسرار .ولنذكر بعضا من الروايات في هذا المجال 
1- عن أبي عبد الله عليه السلام قال  : كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : بالعقل استخرج غور الحكمة  وبالحكمة استخرج غور العقل ،وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح . قال : وكان يقول : التفكر حياة قلب البصير كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور بحسن التخلص وقلة التربص . (6)
2عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : أفضل العبادة إدمان التفكر في الله 
وفي قدرته .(7)
4- عن أبي عبد الله عليه السلام قال : كان أكثر عبادة أبي ذر- رحمة الله عليه - خصلتين : التفكر والاعتبار  (8)
5- الشيخ ورام في تنبيه الخاطر : وكان لقمان يطيل الجلوس وحده ، فكان يمر به مولاه فيقول : يا لقمان إنك تديم  الجلوس وحدك ، فلو جلست مع الناس كان آنس لك ، فيقول لقمان : إن طول الوحدة أفهم للفكرة ، وطول الفكرة دليل على [ طريق ] الجنة . (9)
  ان هذا التأكيد الكبير على التفكير وتحفيز العقل بالتدبر والتفكر يدعونا الى امعان النظر في مسائل التفكير ودراستها وتعليمها الى اجيالنا ولا يكفي ان نقول ان المادة العلمية هي التي تقوم بذلك الدور , وقد اكدت المئات من الدراسات العلمية والتجريبية ان تعلم مهارات التفكير تعطي الرصانة العلمية وتزيد من الكفاءة , وتحرك عجلة المعرفة(10)   وقد انشأت بعض الدول وزارة خاصة اسمها (وزارة الدولة لشؤون تنمية التفكير الانساني ) كما هو الحال في فنزولا  , وفي بريطانيا وامريكا يحتل التفكير مركز الصدارة من بين اولويات القضية التربوية , وفي اليابان بلغ عدد البرامج للتفكير(3200 ) برنامجا واسلوبا (11)
ثانيا:  ان هناك فروقا فردية بين الناس في منسوب الذكاء وهذا امر مسلم على المستوى الديني والعلمي , فعقلية الشيخ الانصاري وتفكيره غير عقلية غيره من المستوى الاعتيادي لكن الدراسات العلمية والتربوية تؤكد على ان هناك ترابطا بين تعليم التفكير وبين زيادة منسوب الذكاء والنمو العقلي  لدى الفرد    (12)
فأنه من الممكن ان نصنع عقلا عاديا في مستوى الذكاء ونجعله عقلا اصيلا ونابغة وعظيما مثل اولئك العظماء اذا استطعنا ان نوجد جيلا من الطلبة والخطباء يجيدون عملية التفكير.
ثالثا : ان لذة العلم لاتدرك من خلال التلقي اللفظي للعلوم فعقلية المتلقي والذي يبقى طالبا ومعتمدا في معلوماته على الغير لا يرقى الى العلم بجوهره وانما يبقى يعيش في الاطراف وبين اثواب الالفاظ الضيقة ولا يشعر بجمال العلم ولذته دون ان يشرب من كأس تفكيره ويكون له بصمته الخاصة على المعلومة والفكرة التي يتلقاها وفي هذا الصدد يقول الشيخ مغنية في مقدمة كتابه فلسفة الاخلاق مانصه ( كل من ذاق حلاوة العلم يصبر على المشاق في سبيله , ويسهر الليالي الطوال في تحصيله , لان العلم لا 
يلتقط بسرعة وعلى عجل , ومن نال منه شيئا اهتز من اعماقه غبطة وفرحا , وتصور تلقائيا وعاطفيا انه هو الذي اوجد وخلق علم مالم يكن يعلم وما هذا بعجيب وغريب فأن الانسان يحقق ذاته وشخصيته بالعلم وبه يكون شيئا مذكورا ) (13)
 ويرى عالم التفكير البرفسور دي بونو ان الشعور بمتعة التفكير ولذته تأتي بعد اكتساب مهارات التفكير (ويؤكد على ان بداية التمرين على مهارات التفكير تتطلب الاكثار من التدريب والتمرين , ويصاحب التدريب والتمرين قليل من المتعة , وحالما يصل الفرد الى مستوى معين من المهارات المطلوبة تحصل الطلاقة والفاعلية , اللتان تجعل الفرد يشعر بالمتعة في ممارسة مهارات التفكير )(14)
رابعا : ان تعلم التفكير هو دخول في الغرض بشكل مباشر فأن هناك فارقا كبيرا بين ان استحصل الملكة بشكل عفوي عن طريق التعلم والدرس وبين ان استلهمها بشكل مقصود ومباشر واحيط بجوانبها وحيثياتها واتعرف على مداليلها الاصطلاحية واكون على علم تام بانماط التفكير وان المشاكل التي تواجهنا باي نمط تحل واي استراتيجية استعمل لحلها .
خامسا : ان الدراسات التربوية الحديثة بدأت تذعن الى اهمية التحكم الذاتي في عملية التعلم وانه نشاط يعتمد بشكل رئيسي وكبير على نفس الطالب وقوة دافعيته وان دور الاستاذ هو دور الموضح والموجه , وان التدريس الناجح والمثمر هو الذي يخلق مناخا ذاتيا في نفس الطالب للتعلم ويثير فيه غريزة حب الاستطلاع , وكل ذلك لا يتأتى الامن خلال غرس التفكير وعجنه مع المحتوى التعليمي .
  وهناك فرق كبير بين من يستمع للدرس وللمعلومة بتفكير وفاعلية وبين من يستمع بتلقي ,فالتفكير في الاستماع يولد حالة التقمص للمعلومة وانه لاتمر به المدخلات المعرفية دون معالجة فكرية واعية ولذالك يتصور الفرد بأنه هو من انتجها  أما النوع الثاني من الاستماع  فقد يكون مجديا في مرحلة من مراحل التعلم لكنه يتحول الى حالة التشبع والملل في مراحل اخرى .     
   ان التفكير يخلق حالة الوعي ويجعل العقل يمتلك مرونة عالية بحيث يشعر الفرد بتواضع امام أي فكرة ومعلومة تواجهه ويصغي لها باهتمام وترو , فلم يكن السيد الشهيد مختصا في علم الاقتصاد او الاجتماع لكنه كان يملك تفكيرا مرنا وعاليا جعل منه عقلية تقتحم المجد من أي باب تشاء .
 
التساؤل الثاني :
   وقد يقال ان  المنطق الارسطي الذي درجنا على دراسته في حوزاتنا او جامعاتنا  يتكفل بتسليط الضوء على التفكير , بما انه اداة فعالة في صياغة التفكير الانساني بالنحو الذي يسلم الفكر بواسطته من الوقوع في الاخطاء الفكرية ويصون العمليات الذهنية والعقلية التي نمارسها في معالجة المحتوى العلمي في المجال الخطابي اوغيره , فالمنطق بما يحوي من مباحث  رصينة سيما اقيسته المعروفة قادر على ان يوجد لنا المناخ العقلي الذي يعالج مختلف المشاكل العلمية ,ويجعل للتفكير لياقة للتعامل مع المفاهيم, ونحن اذا رجعنا الى تفكير اساطين العلماء نجدهم يصوغون افكارهم على ضوءه ويحكمون الكثير من قواعده في المطالب العلمي.
   وعلى هذا الاساس فما هي الحاجة الى طرح قضية التفكير والتمسك بجدوى المهارات والاستراتيجيات التفكيرية ؟
وجوابه : ان المنطق بما يحمل من تراكمية علمية نافعة ومفيدة في الجانب العلمي , وانه عجن مع المنظومة الفكرية للتراث الاسلامي والشيعي بشكل خاص , وانه يقوم بأيجاد المرونة الذهنية للعقل ... كل تلك الفوائد واكثر تتوفر في الدراسة للمنطق , الا انه يقتصر على الجانب الشكلي والصياغي للتفكير فهو يقوم بوظيفتين اساسيتين : الاولى هي تنظيم  التفكير والثانية هي الصيانة من الوقوع في الخطأ , فهو يمثل حلقتين متكاملتين وهما التنظيم للمفاهيم من خلال معالجته للمفاهيم وبيان مدى التداخلات والعلاقات بين مداليلها , والتعرف على معايير تقسيمها ... والحلقة الاخرى يتناول المعايير الاساسية التي تحكم العقل في عملية التفكير والاستنتاج , بواسطة اشكال معينة من الاقيسة .
فهو اذن لايهتم بتوليد الافكار وانما يشكل اطارا يحكم مدى سلامة المعلومة , وما يرمي اليه الباحثون في تعليم التفكير هو انتاج الافكار الابداعية وتسليط الضوء على مستويات وانماطه واستراتيجياته وبرامجه .
  ان دراسة التفكير الانساني شكل الشغل الشاغل للبشرية ومنذ فجرها الاول الذي بشر به ارسطو واسس لقواعده ومنطلقاته وساهم بشكل كبير في بناء اللبناة الاولى له ثم جاءت الفلسفة وسلطت الضوء على الكثير من مرتكزات التفكير الانساني وافاضت في منابعه وحيثياته وهكذا الى ان وصل الامر الى العلوم الحديثة التي انفصلت عن دائرة الفلسفة , وقد عنيت بدراسته علوم متعددة كما سبق ذكرها.
  ومن هنا نلاحظ ان علم المنطق رغم انه يشكل جزءا من عامل البناء لبحوث التفكير الحديثة الا ان علم التفكير اصبح علما مستقلا له حيثياته ومعالمه ودراساته الخاصة   .
  والى هنا اتضح الدور الذي يلعبه تعلم التفكير في توليد الافكار , لكن كل ما سبق كان يدور في الاطار النظري , وبكلمة اوضح ان دائرة الكلام في الطرح السابق كانت تتمحور على اهمية التفكير بمستواها النظري والفكري , وبقي ان نذكر الاهمية بمستواها التطبيقي والعملي , وهذا الامر يتحقق من خلال تلمس الامثلة التجريبية الناجحة التي كان يقف من ورائها التفكير , وفي هذا الصدد نتناول ثلاث امثلة تشكل تجارب حية للتدليل على دور التفكير في صناعة العقل المنبري الواعي وهي كالاتي :
  المثال الاول : تجربة الشيخ التستري ( نور الله ضريحه )
فالخطيب الكبير الشيخ جعفر التستري من اساطين المنبر الحسيني وعلمائه كان يمثل عميدا من اعمدة المنبر الحسيني في ايران والعراق وكان في بواكير امره خطيبا عاديا حيث كانت منهجته على المنبر هو تقرير افكار العلماء وذكرها ونقل الحوادث التاريخية فحسب  من دون ان يكون له تفكير خاص ورأي وكان يشعر بحالة الفراغ التي تساوره فهو يشعر ان النقل يكون عبر الكلمات واللغة ودائما ثوب اللغة لايعطي الكثير من حيثيات المواقف وانما تتصيد عبر التفكير والمعايشة للموقف والفكرة فالتستري كان يدرك تماما ان تقرير الافكار هو الاخر يحتاج الى مرونة ذهنية , هذا من جهة ومن جهة اخرى ان الناس دائما تصبو للشيء الجديد والمفيد وهذا الامر يتحقق من خلال الوعي والتفكير ,فتوجه الشيخ  باخلاص الى من يخدمه والى هدفه في مسيرته وحياته الى ابي الشهداء الحسين بن علي عليه السلام وشكى اليه حاله ومشكلته واذا به  يرزق  التفكير  وكان منه ذلك النتاج الخصب من المحاضرات التي كانت تستهوي حتى اساطين العلماء والملوك والقادة , ونظرة واحدة على كتابه الخصائص الحسينية تتجلى تلك الافكار الابداعية الجميلة التي لم يسبقه في طرحها احد (15) 
المثال الثاني :تجربة الشيخ محمد تقي فلسفي ( قدس الله نفسه )
لقد كان الشيخ فلسفي صاحب طريقة فريدة في التفكير الخطابي ومنبره كان منبرا اصيلا يرتاده المئات من مختلف الطبقات ويذكر ان الشيخ الوائلي كان مغرما في الاستماع لمحاضرات الشيخ فلسفي حيث كان يجيد اللغة الفارسية وعندما تبث محاضرة الشيخ في الراديو من ايران يجلس ليستمع بكل تواضع وشغف (16) 
  اننا بنظرة على محاضرات الشيخ فلسفي التي طبعت تحت عناوين مختلفة نجد عمق التفكير الذي كان يسكبه هذا الخطيب الفذ ويقول في كتابه البيان وفن الخطابة ما نصه (ينبغي بالخطيب ان يحدد هدفه في ذهنه قبل البدء بكلامه ويدري ماذا يريد ان يقول واية عناصر ومواد يطرحها ويعين بداية حديثه ونهايته وينظم محتوى الخطبة في فكره ثم يتحدث الى مستمعيه بحديث لابد وان يكون نافعا ومثمرا ) (17)
المثال الثالث : تجربة الشيخ الوائلي( قدس الله نفسه )
ان هم ما يميز شخصية الشيخ الوائلي هو انه كان مولدا للافكار وكثير التأمل في المحتوى العلمي الذي يريد ان يطرحه وهذا المنحى جعل للشيخ الوائلي اتجاها خاصا في الخطابة , فهو يمتلك من الطلاقة الفكرية التي تجعل من منبره مسرحا للافكار الممتعة والجذابة لذوق السامع , ان التفكير في شخصية الشيخ الوائلي كان عادة عقلية وبشكل مستمر وهذا ما جعل الوائلي يمتلك وعيا  تاما بما يطرحه , وهذا الوعي لا يتولد عن فراغ بل من عقلية مرنة وجوالة ,وقد اكد الشيخ الوائلي على طريقته هذه في كتابه ( تجاربي مع المنبر ) بعد ان يوضح كيفية كتابته للمحاضرة حيث قال مانصه : ( يتضح مما قدمته من نماذج اسلوب المنهج الذي درجت عليه فهو اسلوب لايعتمد على اختيار المواد وضم بعضها الى بعض حتى يتكون منها كمٌ يؤلف المجلس , بل يعتمد على الانتزاع من مضمون النص والاستنتاج الذي تساعد عليه اجواء النص فهو منهج تأملي اكثر مما هو منهج تقريري في مزاياه ... ) (18) وهذا تعبير اخر عن المنهج التفكيري الذي درج عليه اذ الانتزاع والاستنتاج والتأمل هي عبارات مرادفة للتفكير او نمط من انماطه , ويبدو لي ان سر نجاح خطابة الشيخ الوائلي هو انه كان منتجاً للافكار والرؤى بحيث كان يشعر من يستمع لكلامه انه يسمع شيئاً جديدا .
   ان نموذج تجربة الشيخ التستري والشيخ فلسفي والشيخ الوائلي تمثل دليلا حياً على الاهمية القصوى لتوجه الخطباء نحو باب التفكير , واننا اذا اردنا ان نصنع جيلا واعيا من الخطباء علينا ان نوجد ثقافة التفكير ونحولها الى عادات عقلية , وهذه ليست دعوى ترفية او كمالية بل هي حاجة ماسة اساسية وموضوعية اذا ما اردنا ان نخطوا سريعا بالتفكير الخطابي نحو الاصالة التي ارادها اهل البيت عليهم السلام منا ونخلق مناخا خطابيا ينسجم مع مستوى التحديات العظيمة الراهنة .
توصيات البحث : وبعد هذا الجولة السريعة نخلص الى عدة توصيات :
1- ضرورة تفعيل دور التفكير بكل انماطه ومستوياته والاهتمام به واعتباره هدفا مهما من الاهداف التي يسعى الى تحقيقها الخطيب الرسالي , وانه لابد من تأكيد التفكير في عقله منذ بداية الشوط   .
2- التأكيد على اهمية مطالعة ودراسة البحوث والمفردات وكل ما يتصل بالتفكير ومهاراته ومعرفة المصادر العلمية الرصينة .
3- اعتبار الدروس والمحاضرات هي جزء لاينفصل من عملية التفكير  
4- اهمية خلق التراكمية العلمية في عقلية الخطيب من خلال الجد والاجتهاد في الدروس الحوزوية والمطالعات المختلفة والمتنوعة في شتى المجالات التي من شأنها ان تزيد من تلك التراكمية .
 
 
الخلاصة ان الاساس المعرفي للخطابة له بعدان وهما المحتوى العلمي والنشاط العقلي الذي هو عبارة عن التفكير, ومحور البحث يتركز على البعد الثاني , ويدور الكلام حوله على مستويين المستوى النظري والمستوى التطبيقي وفي المستوى الاول هناك تعريفان للتفكير , ويتضح من خلال بيان البعدين مدى الترابط الوثيق بينهما وان النسبة بينهما طردية اذا كان هناك اهتمام وتأكيد على التفكير ومعالجة المعلومات , والا تتحول المعلومات الى عبئ يولد الملل , ثم انه يوجد تساؤلان :الاول ان هناك ترابطا موضوعيا بين التحصيل العلمي وتطور التفكير فما الحاجة الى تعلم التفكير والتأكيد عليه بل نحن بحاجة الى التأكيد على التحصيل العلمي ؟ وجوابه : اولا انه امر في غاية الصحة لكن كثرة الادلة توجد عناية زائدة على التفكير مما يجل التأكيد عليه امرا مبررا .
وثانيا : ان هناك فروقا فردية في الذكاء لا يسدها الا تعليم التفكير .
وثالثا : اننا بالتفكير نستطيع ان ندرك لذة العلم التي تجعل من الفرد لا يأنس الا بها .
رابعا : ان تعلم التفكير والتاكيد عليه هو اختصار للزمن من حيث انه دخول على الغرض بشكل مباشر .
خامسا : ان اكبر هدف في العملية التعليمية هو ايجاد الثقة في نفس المتعلم وجعله يتحكم ذاتيا بالمطالب العلمية والمحقق لذلك هو التفكير .
التساؤل الثاني : الايقوم بوظيفة التفكير دراسة علم المنطق ؟ وجوابه ان علم المنطق يهتم بالنتائج ومحاكمتها وهل هي صحيحة ام لا ؟ ولا يهتم بتوليد الافكار   
اما في المستوى الثاني من البحث وهو الجانب التطبيقي للخطابة التي اثبتت نجاحها عن طريق اسلوب التفكير واتضح دور التفكير فيها من خلال خطابتهم وكتبهم ونستعرض ثلاثة امثلة لذلك وهم اولا تجربة الشيخ التستري وثانيا تجربة الشيخ فلسفي وثالثا تجربة الشيخ الوائلي, ومن خلال هذه الجولة يخلص البحث الى توصيات اربع .
المصادر
1- فلسفتنا : ص 113
2- تعليم التفكير : فتحي جروان , 2007,40
3- تصنيف غرر الحكم : 209 , الحكمة 4028
4- تعليم التفكير : فتحي جروان , 2007, 25
5- التفكير فريضة اسلامية : عباس محمود العقاد , ص157, طبعة دار الهلال , مصر 
6-  الكافي : للشيخ الكليني , ج1 , ص28, كتاب العقل والجهل حديث 34
7- الكافي : للشيخ الكليني , ج2 , ص55 , باب التفكر حديث 3
8- الخصال , الشيخ الصدوق , ص42
9- مستدرك الوسائل : النوري , ج 11 , ص186
10-تدريس مهارات التفكير : جودت سعادة , 84 
11-( المدخل الى علم النفس المعاصر . سليمان عبد الواحد ( 2010) .  الدار الهندسية . القاهرة )و( كاظم عبد نور : محاضرات في التفكير ) .
12- تدريس مهارات التفكير : جودت سعادة , 85
13- فلسفة الاخلاق  : محمد جواد مغنية , ص5 , دار العلم للملاين , بيروت . لبنان
14- دراسات وبحوث في علم النفس وتربية التفكير والابداع : الدكتور كاظم عبد نور , 2005 , ص18 , دي بونو للطباعة والنشر , عمان . الاردن
15- الايام الحسينية : التستري , 21, 1993 , ط الاولى , دار المرتضى  
16- امير المنابر : صادق جعفر الرواق
17- البيان وفن الخطابة : الشيخ محمد تقي فلسفي , ص77
18-تجاربي مع المنبر : الشيخ الوائلي , 177 , 1998 ,ط الاولى , دار الزهراء ,بيروت 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=89262
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 02 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28