• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : خرْبَشاتٌ طُفوليّة على جِدار العيدْ .
                          • الكاتب : ليث العبدويس .

خرْبَشاتٌ طُفوليّة على جِدار العيدْ

 جاءَ العيدُ إذاً أخيراً بِحُلَتِهِ القَشيبةِ وأثوابِهِ الزاهيةِ وَطلْعَتِهِ البَهيّة، شاطِباً بِطَلَّةِ هِلالِهِ النَحيلِ أشرَسَ رَمَضانٍ كابَدَتْهُ الناسُ مُنذُ سِنين، أحالَهُمْ إلى كُتَلٍ من أشواكِ العَطَشِ التائِقِ لِنَدى الَمَغيبِ الرَطِب، مُزيحَاً بِنَشوةِ الفِطْرِ ظَمَأ هَواجِرِ آبَ القائِظْ المُسْتَعِرْ، العيدُ كائِنٌ حَيْ، يَنبِضُ بالحُبورِ والفَرحَةِ وَيختالُ بألَقٍ حُلوٍ بَديع، يَعتاشُ مِنْ ضحكاتِ الصِغارِ ومُشاكَساتِهُمُ العَفويّة، ولإنّهُ كالغَمامَةِ المُترَعةِ بالغيثِ الوَشيكِ، تُلقي بِخِصْبِها دونَ حِساب، فلا يوقِفُهُ عُبوسُ القَنوط، ولا يُثنيهِ يأسُ المُتشائِمُ، وَهوَ على قِصَرِهِ وطولِ انتِظارِهِ يَبقى مُحتَفِظاً بِعِطرِهِ الأخّاذ، مُلقياً بِغُلالَتِهِ السِحريّة الرَقيقةِ على الوُجوهِ والأمكِنة، مُستَحِثاً كُلَّ الذِكرَياتِ السَجينَةِ على الانبعاثِ والتَحليقِ، يُداعِبُ قُدومُ العيِدِ فينا بَقايا طُفولَتِنا المُبكّرة وَسِنينَ نشأَتِنا الأولى وَمَرحَلَةَ تَرَعْرُعِنا البعيدة، يوقِظُ فينا ذَلِكَ الصَغيرَ الحالِمَ المُتفائِلَ العَذِبْ، ذَلِكَ الأنْسانَ النَقيَّ البَسيط، يَغْسِلُ مِنْ على وُجوهِنا – لِبُرهَةٍ – كُلَّ غُبارَ جَريِنا اللاهِثِ خلْفَ سَراباتِ الحياةِ، يَمْسَحُ – لِسويعاتٍ - قَتَرَةَ الكَدّ والكِفاحِ وَعَرَقَ تَكالُبِنا وَأنانيَتِنا وَحِرْصِنا، ينتَزِعُنا مِنْ خُطوطِ النارِ وَجَبَهاتِ الصِراعِ مَعَ ذَواتِنا وَغيرِنا ليُحيلِنا إلى حُقولِهِ الخضراءِ ومُروجِهِ النَضِرة، حيثُ نَتَجَرّدُ في ارجائِها من كُلّ مُكابَراتِ الراشِدينَ واهتماماتِ البالغينَ لِنتحوّلَ إلى كائِناتٍ ساذِجةٍ غَرّة، تَتَراقَصُ في عالَمٍ من الألوانِ والحَلوى والألعابِ والقُبَلْ، وفي العيدِ يُرغَمُ المرءُ على التَسامُح وَيُلهَمُ خِصْلَةَ الغُفران ونسيانِ الإساءة، فَهوَ موسِمً مُناسِبٌ حقاً لِجَعلِ إنسانيتِنا أكثرَ إنسانية، فَلَهُ منظورٌ مِثاليٌ بِلونِ الوُرودِ يَجعَل أكثرنا صَفاقَةً وَصلافَةً ووقاحَةً سَهلَ العريكة ليّنَ الجانِب نَظيفَ السَريرة، فَلا ترى جبيناً مُقْطَباً أو حاجِباً مُنعَقِداً او شِفاهاً مَزمومة، فَهلّا أكثَرَ حُضُورَهُ ليُذكِرَنا ببراءَتِنا المفْقودة؟ سَنشيخُ سَريعاً ويغزو الشيبُ فرواتِ رؤوسِنا فُجأةً وتملئُ مُحيّانا تَجاعيدٌ حادةٌ دونَ إنذارٍ إنْ نَحنُ فَقدْنا بَهجَةَ العيدِ او إنطَفأت في دواخِلِنا قَناديلُهُ المُتأرجِحة، سيغدو كُلّ شيءٍ مِلحيَّ الطَعمِ قِصديريَّ المَلمَسِ رَماديَّ الشَكلِ غَريبَ الرائِحة، سَتتَكَلّسُ في أرواحِنا أشياءٌ غايَةً في الروعةِ وَتتمَدّدُ أُشياءٌ أُخرى شَديدةَ البَشاعةِ والقُبْح، سَنُنكِرُ تِلكَ الملامِحَ التي تُطالِعُنا في مرايانا، وظِلالَ اجسادِنا التي تُطارِدُنا، سَنَكتَشِفُ في خريف العُمرِ وهَزيعِ ليلهِ الأخيرِ أننا مَشدودونَ بِجُنونٍ إلى بَقايا صَدى ضَحكاتِنا الطُفوليّة المُتلاشية وَوُجوهِ ذَوينا الأليفَةِ الآخِذَةِ في الإختِفاءِ وَصَريرِ مَهدِنا الخَشَبيّ المُتداعي، وسَنسْتَذْكِرُ بِدُموعٍ غَزيرةٍ أموراً كانتْ قَبلَ اليومِ تبدو تافِهة في نَظَرِنا، طائِرةً وَرَقيّةً سَرَقتها هَبّةُ ريحٍ وتَخَلَصَتْ أخيراً مِنْ أنامِلِنا العابِثة، المواءُ الأخير لِقِطَتِنا قبل أنْ تخرُجً مِنْ غيرِ رَجعة، رَعدةَ اجسادِنا المَذعورةِ من بَرقِ مُزُنِ الشِتاء، وَسَنُدرِكُ بَعدَ أُفولِ كُلّ سنينِا، أنَّ في أعماقِنا حَمائِمَ بيضاءَ تَصفَقُ بأجنِحَتِها كُلَما أوشَكَ هِلالٌ على الوِلادةِ.
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=9184
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 08 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28