• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : قصة قصيرة ما عدت طفلا يخاف .
                          • الكاتب : كاظم اللامي .

قصة قصيرة ما عدت طفلا يخاف

ضوء باهت يمسح سطوح المنازل بكف خجولة قاطعها النور، انكفاء على فراش بارد مَدَّتْه أيادي الأمهات ما قبل مغيب الشمس، ليدب شفيف نعاس في أوصال المدينة المتعبة التي راحت تتخلى عن أضواء نوافذها واحدا بعد الآخر. نام الجميع، إلا أنا، ما زلت أواصل لعبتي المفضلة في سرقة النجوم من على خارطة السماء، اخبأها تحت فراشي، تحت وسادتي، في جيب بيجامتي (البازة)، ما بين فخذي، حتى غدوت كسماء افترشت سطح دارنا، الفرح الأنيق يهيمن على المشهد، وعند آخر حدود طاقة يدي في التقاط النجوم، تسرب الخدر مليا في جفوني، أسبل يديَّ، أمد أقدامي خارج مستطيل الفراش الذي يشاركني به أخي الأصغر، أميل برأسي متجاوزا حدود الوسادة، أغط في سبات عميق عميق عميق. الفجر في الخارج يقرع أجراسه، ويغني أغنية الغبش بصوت ديك عاندته دجاجته، يشاكسه صوت آذان يلاقح صوت آذان آخر، استيقظ فزعا على رفسة أبي كالعادة: اذهب لمخبز حنون واشتري لنا خبزا للفطور، نهضت قافزا من فراشي كقطعة حجر افلتها طفل مشاكس من صيادته المطاطية. 
إبتلعني الشارع ونظرات أبي الحانية تعلو جدار السطح تتابع ظلي وهو يجلد الشارع من فراغات في قلبه، تصنع دائرة حول جسدي، تشيعني حتى آخر رجل يقف في الطابور الطويل لشراء الخبز الحار، خيوط الشمس تراود الغبش عن عفته، الملل يستفز هدوئي، حنون الخباز يحابي البعض من كبار السن، ونساء لم يغسلن وجوههن، تتحطم آخر درجات الصبر لدي، افتعل جلبة مع طفل آخر بعمري، اقترب مليا من أقراص الخبز، وفي غفلة من الجميع استل قرصا ساخنا يتصاعد دخانه مزحزحا ظلمة الليل، اجري بكامل طاقتي مثيرا خلفي هالة غبار كثيفة، وفي غمرة الجري من غير هدف نسيت مناسبة وقوفي في هذا الطابور الطويل، حرارة الرغيف وهو على صدري، تدفع بي لأمزق المسافات، نصف الرغيف يأخذ طريقة إلى معدتي، وإشارات متعددة من قبل النهر تستحثني أن أقبِل أيها الطفل المشاكس، اصل عند سدته الترابية أتطلع إليه وهو يتهادى باتجاه الشرق بلا انقطاع ، تحيطه صور تكشف هويته، راع طاعن في الوجع يحث غنمه بأصوات غريبة، امرأة بخيلة في كشف جمالها ألا من عينين تسربت على خجل وتربعت على حافة النهر تغسل ثيابا سوداء أدمنت العويل، أسماك صغيرة تتشكل في تجمعات جائعة تتلوى فوق بعضها عند جرفه تتوسل فتات خبز، ارمي لها قطعاً صغيرة من رغيفي المسروق، تلتهمها على عجل خوفا من قدوم سمكة (أبو الحكم) الشرهة، تبتسم بوجهي شاكرة، أرى مدير مدرستنا يمشي الهوينا فوق السدة الترابية والريح تعبث باستفزاز بشعرات تفرقت فوق صلعته السمراء، خانته قدمه فاختض بكرش يتقدم جسده ونظارات كعب استكان تملأ وجهه إلا من شاربين خطهما قلم سحري، أرى أيضا أطفال أكبر مني سنا يتقاذفون اكف الماء برشقات متتالية تعلوها ضحكات تعكس استمتاعهم، ومن غير مقدمات يبادرني كبيرهم  ... 
_سنعبر إلى الضفة الأخرى، هل تأتي معنا؟
 حلم يراود روحي سيتحقق برفقة هؤلاء الصغار حيث مجاميع الإوز الأبيض التي كانت سباحتها تروق لي وهي تمكث عند الضفة الأخرى، نظراتي المكثفة للنهر أصابتهم بالملل، لا ينتظرون جوابي، يقفز الجميع في لهيب النهر، أوزع نظراتي ما بين الراعي والمرأة والإوزات التي في الضفة الأخرى، اخلع فانيلتي وبيجامتي، أضعهما على السدة وفوقهما قطعة كبيرة مخافة هروبها بصحبة الريح، اقفز محلقا في الفضاء ،طب... جسدي يخض الماء خضا، أرى بطرف خفي أسماكا تقفز في الفضاء مع قفزتي الفقيرة الى الحبرة، الإوز يصفق لنا بأجنحته، الأسماك الصغيرة تحملنا بزعانفها، دقائق مضت، نقص شريط النهاية سوية وعلامات النصر تتلون بها أصابعنا ، نخلتان بانت جذورها تقف على الجرف بانتصاب مائل تحي قدومنا، دقائق من الضحك والبهجة تحكي قصة جرأتنا، كبيرنا ذو الشارب الزغبي يقرر قاطعا خيوط النشوة وهو يعطي الأمر بالعودة منى حيث أتوا، يعلو قرص الشمس قليلا فوق اكتتاف البيوت الطينية، فيكشف بشرة النهر كم هي صقيلة، لا ينتظرون مني جوابا كالعادة، يتسربون في معانقة النهر واحدا بعد الآخر، النهر يخيفني، أرى عبد الشط يقف منتصبا في منتصف النهر، يبتسم ابتسامة صفراء، أرى يديه تتحسس أقدامهم، صورة صديقي محمود تعيد فرض نفسها على مشهد حياتي وهو مسجى على السدة المجاورة للنهر بعد أن أخرجه عيدان الأخرس محمولا على يديه جثة هامدة، أتسلل من فراغات في غابة الأقدام الكثيفة والتي تحيط به بجسده وهو ينضح قطرات ماء يحلم الجميع بطهارتها، أتفرس بوجهه، خصلة شعر سليكونية تنحدر ملتصقة على خده، فم صغير طالما تفجر بضحكات كالمطر، عينان ذابلتان بلون البحر، رباه من أين لهما بهذا اللون الشذري، سألته عن عينيه أجابني مبتسما...
_ أكلتها الأسماك الصغيرة التي كنت تطعمها خبزا يا صديقي، وكأنك توصيها بذلك. 
اسعل ضحكاتي بوجهه قائلا... 
_أه لو كنت معي، 
صرخ بوجهي... 
_تركتني وهربت، جبان. 
امسح الزبد عن شفتيه
_ أتَذْكُر يوم أمس عندما غلبتني كل تصاوير اللاعبين فلاح حسن وعلي كاظم وحسين سعيد؟ أين هي؟ في أي جيب خبأتها من بيجامتك المقلمة؟
رحت أفتش جيوبه لم اعثر عليها، ارتفعت قدمه عن الأرض قليلا وركلني في بطني تقلبت متدحرجا بين أقدام الناس وهو يقول...
_ غبي أما تعرف بان عبد الشط كان يسحب الأطفال من أرجلهم ليسرق ما في جيوبهم من دعابل وصور اللاعبين ليعطيها لابنه الكسيح، لقد كلمني برجاء وانا في وسط النهر وهو يضع ابنه متأرجحا فوق عنقه...
_ انزل قليلا لتلعب مع ولدي انه طيب لن يؤذيك. 
رفضت وانا ابكي، قلت له... 
_لا أريد اللعب مع ابنك عندي أصدقائي الذين أحبهم
 شاهدت ابنه الكسيح من فوق رأسه وهو يطلب مني اللعب معه، قلت له وانا أحاول التملص من يد أنانيتهم
_ خذ هذه التصاوير ولا تقترب مني 
سحب قدمي بعنف في أعماق النهر، وراح يجرني موبخا حتى وصلت القاع وفقاعات هواء متحشرج تندفع من فمي باتجاه السطح.
_ماذا وجدت يا محمود؟
_وجدت أطفالا كثيرين بعمري يلعبون معه وهم ما بين باك وصارخ كل يريد امه إلا أنا لم ابك لأني بلا أم أصلا، لعبت معه داس داسين، مللته وبصقت في وجهه، كانت رائحته عفنه، رائحة سمك متفسخ، اعلم يا صديقي: كلنا مسخرون من اجل عيون ابن عبد الشط نرد عليه الوحشة. ابتعد الإوز كثيرا وهو يسبح بنسق ورتل منضبط، أرى محمود يسبح مع رفاقي وهو الغريق قبل يومين، اترك ضفة النهر خائفا منسحبا بركضة سريعة عابرا الجسر العائم وانا أوزع نظري بين الضفتين ليس هناك فرق بينهما نلهث خلفه، عبد الشط يقف حاملا ابنه وبيده كرته البالية مشيرا نحوي بان تعال للعب معي، اجري لاهثا بخطوات عريضة اجتاز الجسر العائم، لا اعرف هل وصل رفاقي ضفتنا الخالية من الإوز أم لا؟ تواجهني البيوت وهي تعانق بيوتا أخرى، تفتح الأزقة اذرعها، أتجاوزها مخلفا بيجامتي عند السدة الترابية، امر سريعا من أمام باب دارنا اجد أصدقائي قد سبقوني وهم يحملون بيجامتي المثخنة بالتصاوير، يخرج أبي لاطما رأسه وصدره بكفين من وجع، ويشماغه المتشكل بصورة شبكة صيد سمك يحتضن الأرض، يأخذ البيجاما يقبلها يغطي بها وجهه، تحتضنه أمي وقد كشفت عن صدرها وأزاحت عصابتها لاطمة وجهها وإخوتي الصغار يتشبثون بأذيالها، اكلمهم لا يعيرونني انتباها، ابكي لبكائهم، أمي، أبي، أنا حي، من مات هو محمود ابن جارنا عباس النجار، يد حارة تخترق ضلوعي، التفت ناحيتها، محمود يضع يده على كتفي قائلا: لا تحزن يا صديقي، وهو يرمي فوق رأسي كومة من تصاوير اللاعبين ، محمود أنت تدهشني، أرى عيونك وقد عادت للونهما الأسود. امتلئ الشارع بالناس، حنون الخباز دون مخبزه، والراعي دون غنمه، والمرأة دون نقابها، حتى أنى شاهدت الإوزات وهي تسير بنسق نظامي وكأنها سرية جنود متجهة لمحرقة حرب بأوامر طاغية ذي خال في وجهه، البرد يسير متجولا في الوجوه، ونهر منبعه عيون أمي وأبي يتلوى منحدرا حتى ضفة النهر وانا ورقة يغلبها الريح تتجول في أزقة من نواح.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=92337
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 04 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16