السؤال الذي لا أجد جوابا واضحا عليه , هو لماذا لم ينجح الرواد النهضويون العرب في صناعة الأمة المعاصرة؟!
وهم الذين بدؤوا ما يسمونه بالتنوير الحضاري منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر , ومعظمهم قد زار الغرب وعاش فيه وما تعلم منه بل نقم فأسقط بأسباب التأخر عليه , دون مبررات موضوعية وأدلة ذات قيمة معرفية , وجاء بنفسه ليوهم الأجيال بأن ما يقوله ويكتبه فكر ومنطلقات حضارية , وبهذا الخداع والتضليل والتحريف وربما التخريف وصل الحال بالعرب إلى ما هو عليه اليوم وقبله وبعده.
ومن المؤسف القول بأن قراءة كتب المفكرين العرب لا تأتي بجديد , لأنها تدور في ذات المحاور وتتناول ذات الموضوعات التي بدأها الرواد في القرن التاسع عشر , فلا يوجد سوى الإسقاط والتبرير والتفسير السلبي وتعزيز الإحباط , وتأكيد الدونية والتبعية والإنكسارية , وإشاعة ثقافات الهزائم والويلات والتداعيات والمظالم والعاهات النفسية والسلوكية.
لا جديد في إنتاجهم سوى إجترار الترسيخ السلبي لكل سلبي , ونفي الإيجابي عن قلب الأمة وجوهرها , وكل منهم يحسب نفسه صاحب حق " وجدتها"!!
وفي هذا صياغة مضطربة منحرفة أودت بالأمة وأذهبت عقلها وأججت عواطفها , ودفعت بأبنائها إلى تصديق المنطلقات الوهمية التي لا تمتلك رصيدا واضحا من الواقع , وإنما مبنية على ما يجيش في نفوس الناقمين على الآخرين , وكأنهم لا يمكنهم أن يكونوا ويتحققوا بسبب كينونة الآخر وتحققه.
فالحقيقة المغيبة أن الأمة لا تحتاج لأية أمة أخرى لكي تعرف طريقها وتكون , فلا حاجة لأمة العرب لتجارب غيرها , لأنها الأمة الغنية بالمعارف والتجارب والقدرات الفكرية والثقافية والمادية اللازمة لتحققها والتعبير عن دورها الحضاري.
فالأمة تكنز في مسيرتها من العطاءات والتجارب والسرديات والمدونات , والخطابات والقصص والحكايات والأشعار والأنوار الفكرية والتشريعية ما يغنيها عن باقي الأمم.
لكن العلة السرطانية والعاهة الطاعونية , أن الرواد النهضويون قد أغفلوا ما عندهم وراحوا يتكلمون بأبجديات الإنبهار والدهشة , وربما الصدمة , وبآليات الجهل والأمية عما عند الآخرين , فأضاعوا الحالتين أو المشيتين.
فهم الذين كانوا في الغرب وما عاشوا فيه , شأنهم شأن الملايين من المهاجرين الذين في مهاجرهم , ولكنهم لا يعيشون فيها , ولا يستوعبون مفرداتها السلوكية والحضارية , ولهذا تجد في بعض الدول العربية أن حكوماتها من الذين عاشوا في دول غربية ديمقراطية , لكنهم عبروا عن التطرف والإستحواذية والإنتقامية والفئوية , وما حققوا تجربة ديمقراطية ذات قيمة وطنية أو إنسانية , وإنما إرتكبوا حماقات وجرائم ضد الإنسانية.
ذلك أن العربي عندما يكون في بلاد غريبة يتمترس حول ذاته , ويمعن أو يفرط بالتعبير عما يؤكده ويميزه ويعزله عن الواقع الذي هو فيه , ولهذا فأن رؤيته للغرب تكون مضطربة وغير صادقة , وإنما مبنية على رؤيته الشخصية الممزوجة بآليات دفاعية وتبريرية سقيمة , وهذا ما نراه حتى في الوقت الحاضر في كتابات العرب الذين يعيشون في دول غربية ديمقراطية , فتتعجب من أساليبهم المضادة لكل ما هو ديمقراطي وإنساني وحق طبيعي , إذ تسود كتاباتهم الأراجيف الفئوية والتحزبية والطائفية والتطرفية المقيتة.
ولهذا فأن على الأمة أن تتبصر وتتنور وتتحرر من البلاء المستطير الذي يخيم عليها منذ عقود طويلة , وترى مواضع خطواتها وتؤمن بذاتها , وتستخرج جمان أفكارها وتتحقق بها , لا أن تبقى تطارد خيط دخان , وسراب كان.
فالأمة ثرية بالأفكار الحضارية والإرادات المتوثبة , لكنها مرهونة في خنادق وأنفاق , وكأنها لا تريد أن تكون كما هي , بل كما يُراد لها أن تكون!!
فما أحوج الأمة للإيمان بنفسها وذاتها وموضوعها , وعزيمتها على أن تتجدد وتنطلق وتلتقي مع جوهر ما فيها , فالأمة لا بد لها أن تكون وستكون حتما , بعيدا عن أفكار المغرضين الذين ربما كانت كلماتهم ذات تمويل فائق ومصدر عيش رائق!!
فالأمة كائنة وما علينا إلا أن نعترف بكينونتها لكي تزدهي وترتقي وتعاصر!!
|