• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : سجينُ بغداد المُمتحَن .
                          • الكاتب : السيد اسعد القاضي .

سجينُ بغداد المُمتحَن

 اعطِف على الكرخ من بغداد.. ارمِ ببصرك نحو قصور الخلافة العباسيّة.. بل المُلك العباسيّ.. قصورٌ بناها بنّاؤوها ليُعصى اللهُ فيها.. شُيّدت من أجل أن تكون خصبة بما طاب لأربابها من ملذّات الدنيا وشهواتها.. فأصبحت كما شاء أهلها.. طافحةً بما تهوى الأنفس المريضة.. 
 
في أروقة تلك القصور.. سقفٌ يكاد يخرّ.. أرضٌ تكاد تنخسف بأهلها.. لولا أن الله تعالى يُعاقب عُصاةَ عبادِه بالإمهال.. ليزدادوا إثماً..
مَلِكٌ فوق عرش مُلكِه.. يزعم أنّه أميرُ المؤمنين.. خليفةُ رسول الله (ص).. دبّ فيه مرض فرعون.. إلا أنه لا يستطيع أن يبوح بـ: «أنا ربّكم الأعلى».. تدرّ الدّنيا بخيراتها من كلّ حَدَب وصوب.. لينفقها ذلك الملِك العاتي في رغباته الوقتيّة التي سرعان ما تذهب لذّتها..
 
مَلِكٌ يخاف على دنياه.. على مُلكه.. على عرشه.. ما ان يُخيّل إليه أن شخصاً ما ينازعه ملكَه إلاّ وابتدره بإزهاق روحه.. بل لا يرغب برؤية شخص تشير إليه الناسُ ببنانها.. ذلك لأن الملك عقيم..
 
كان للعلويين الحصةُ الكبرى من جور عُتاة العباسيّين.. وعلى رأس القائمة سادتُهم وأعمدةُ أُسرتِهم أهلُ بيت العصمة.. 
 
الإمام موسى بن جعفر (ع) خلاصةُ النبوّات.. خليفةٌ من خلفاء النبوّة الخاتمة.. قدّيسٌ.. مطهّرٌ من الرجس.. زاهدٌ في الدينا.. لم تحدّثْه نفسُه يوماً بطلب حُطامها.. خافه الطغاة على دنياهم.. لم يَدَعوه يؤدّي رسالتَه المنوطة به.. بل لم يتركوه يعيش على وجه البسيطة كسائر الرعيّة.. له ما للنّاس وعليه ما عليهم.. أودعوه السجنَ كي يأمنوا جانبَه ـ في ما يزعمون ـ..
 
قضى كاظمُ الغيظ شطراً من عمره الشريف في سجن هارونَ العباسيّ.. بعيداً عن أهله.. عن شيعته.. ضاق بهارونَ ذرعاً  ما كان يراه من فضائل سجينه.. تلك التي ظهرت للخاصّ والعامّ وسارت بها الركبان.. لا يستطيع التّعتيمَ على ذلك.. فكّر في أن يدسّ إلى سجينه سُمّاً ليستريح منه.. دعا برطب من أجود أنواعه.. دسّ سمّاً في إحدى الرّطبات.. مزجها بباقي الرّطب كي تغيب عن حجّة عصره.. يأكلُها السّجين فيموت ويستريح منه الطاغية.. 
 
يأمر هارون خادمه..
 
ـ احمل هذه الصّينية إلى موسى بن جعفر، وقل له: إنّ أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب، وتنغّص لك به، وهو يقسم عليك بحقّه لمّا أكلْتَها عن آخر رطبة، فإنّي اخترتها لك بيدي.
 
أوعز إلى خادمه أن لا يفارق الإمام (ع) حتى يراه بأمّ عينيه أنه قد أكل جميع الرّطب، ظنّ هارون أنّه بهذه الطريقة سوف يتخلّص من سجينه المظلوم.. 
 
حمل الخادمُ وعاءَ الرّطب إلى السّجين المُمتحَن.. طلب منه الإمام (ع) خِلالاً.. جعل (ع) يدسّ عُود الخِلال في كلّ رطبة رطبة ثمّ يأكلُها.. الخادم ذاهل عن فعل الإمام..لم يزل الخادم واقفاً حتى فرغ الوعاء من الرّطب.. 
 
عاد الخادمُ إلى المَلِك العاتي يحمل مخلّفات المكيدة.. وعاء الرّطب خالياً منه.. يلتفت هارون إلى خادمه مستفهماً ـ ينتظر منه بشارة تأثّر سجينه بالرّطبة المسمومة ـ.. 
 
ــ قد أكل الرطب عن آخره؟. 
ــ نعم يا أمير المؤمنين. 
ــ فكيف رأيته؟. 
ــ ما أنكرت منه شيئاً، يا أمير المؤمنين.
 
كَلْبةٌ لهارون.. يهتمّ بها اهتماماً بالغاً.. يُلبسُها الجواهر.. قيل له إنها ماتت من أثر سمٍّ.. تهرأ جسدها.. عظُمَ عليه أمرُها.. قلق قلقاً شديداً.. حملتْه قدماه إلى كلبته المتهرّئه ليقفَ على حقيقة خبر كلبته.. دعا بالسّيف.. أحضر خادمه.. توجّه نحوه وهو مليء بالحَنَق..
 
ــ لَتصدقني عن خبر الرّطب أو لأقتلنك. 
ــ يا أمير المؤمنين، إنّي حملتُ الرّطب إلى موسى بن جعفر، وأبلغته سلامك، وقمت بإزائه، فطلب مني خِلالاً، فدفعته إليه، فأقبل يغرز في الرّطبة بعد الرّطبة، ويأكلها، حتى مرت الكلبة، فغرز الخلال في رطبة من ذلك الرّطب، فرمى بها فأكلتْها الكلبة، وأكل هو باقي الرّطب، فكان ما ترى يا أمير المؤمنين.
 
عرف هارون أنّه لا حيلة في كيد حجّة زمانه.. أولئك زقّوا العلم.. حازوا الحكمة.. محدَّثون.. لا يخفى عليهم كيد الكائدين مهما كانوا.. تكلّم الرشيد بكلمات أنبأت عن خسرانه وخيبته..
 
ــ ما ربحنا من موسى إلاّ أنّا أطعمناه جيّد الرّطب، وضيّعنا سُمّنا، وقتل كلبتَنَا، ما في موسى حيلة.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=92661
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 04 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19