• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : أُمنِيَةُ مشتاق .
                          • الكاتب : عبد الكاظم حسن الجابري .

أُمنِيَةُ مشتاق

تتيمتْ به الليالي, حتى خالته قمرها, واستحيى منه النهار, خجلا من جماله, غض العمر, جميل المحيا, دؤوب الحركة, عامل شغوف, يساعد جميع من حوله, يبدو ما بين الناس شعلة من نشاط.
رغم ضيق ذات يد عائلته, وضعف حالته المعاشية, وصغر عمره, إلا إن أحمد ماجد عاشور, لم يدخر وسعا في مساعدة المحتاج, يفتش ها هنا وها هناك عن المحتاجين, ليقدم ما يمكنه عن طريق مبالغ يجمعها هو وأصحابه.
كان عالي الهمة, لين الجناح, سمح الوجه كريم اليد.
حينما دخل أحمد المدرسة الإعدادية, استشرق وجه أمه فرحا, فكانت تعده ذخرها, ليكمل دراسته ويأتي بأعلى الدرجات, وكانت توصيه دوما قائلة:
-أوصيك يا بني بدراستك, فالمرء بدون العلم كالتائه في البحر, لا يهتدي طريق النجاة.
يجيبها أحمد قائلا:
-قُرِّي عيناً يا أمي, فولدك سيحصل على أرفع شهادة, وسأرفع رأسك بين الناس.
هنا يتهلل وجه الأم فرحا فتقول:
-آه يا أحمد متى يأتي ذاك اليوم, الذي تنهي فيه دراستك لأراك عريسا.
يبتسم أحمد –وهنا ينبع في داخله شعورا غريبا- ويقول:
-إن شاء الله يا أمي لن تجدي مني إلا ما يسرك.
إعتاد أحمد أن لا يخرج من البيت إلا ويقبل يد أمه ورأسها, ويطلب منها الدعاء, يفعل ذلك يوميا, وخصوصا عند الصباح حينما يذهب للمدرسة.
في المدرسة, كان أحمد منشغلا بذاك الشعور الغريب, الذي أحس به لأول مرة حينما دعت له والدته, كان يمشي ويمازح أصدقاءه, ويبجل أساتذته, لكنه لا ينسى ذاك الهاجس الذي يحس معه, إن شيئا كبيرا سيكون في مستقبله.
علي كان صديق أحمد الذي لا يفارقه, يبدو إنه يشابه أحمد في صفاته, فصارا الاثنان كأنهما إنعكاس أحدهما للآخر.
ذات يوم وكالعادة في المدرسة, جلس أحمد وعلي يتبادلان أطراف الحديث, ويتكلمان حول مستقبليها, وأنهما لا بد أن لا يدخرا وسعا في سبيل الحصول على أعلى شهادة, تتيحها الدراسة الأكاديمية.
هنا ووسط هذا الحديث, أبدى أحمد لعلي ما يحمله من شعور غريب, فالسر الذي يحمله ولا يطلع عليه أحد, لا يمكن بحال من الأحوال أن يخفيه على علي, هنا استدار أحمد جهة علي مخاطبا إياه.
-صديقي علي لا أخفيك سرا! أنا أشعر بشعور عظيم وغريب في نفس الوقت, لا أعرف ما هو.
هنا قال علي بعد ما كان يستمع لأحمد بكل إنتباه –وكعادة الشباب في هكذا مواقف-
-قل يا أحمد لا تخفي عني شيئا هل وقعت بالحب؟.
ما بين الاستغراب, والدهشة, والاستنكار, ينظر أحمد لعلي قائلا: -وضحكة إستنكار تعلو وجهه-
-    أجننت؟! أي حب ذاك ومازلنا براعم لم نخبر الحياة جيدا؟!
-    يسكت أحمد هنيئة ثم يسترسل قائلا:
-علي, إني أحس أن شيئا عظيما سيحدث ويخلدني, لكن خلودي سيكون وأنا غير موجود في هذه الدنيا, فأنا أشعر إني لن أبلغ العشرين, وهذا الشيء العظيم سيحدث قريبا.
علي -منصعق من شدة الدهشة والاستغراب- معقبا على كلام أحمد.
-اممم أحمد حديثك غريب, وأحسه متناقض.
-كيف ذلك؟ وأين التناقض؟! أحمد يسأل عليا.
-أنت تقول ان شيئا عظيم سيحدث لك, وهذا أمر جميل, وتفاؤل حسن, لكنك أردفت أنك لن تبلغ العشرين, وهذا لعمري هو عين التشاؤم.
يضحك علي رابتا على كتف علي.
-نعم يا علي, الدنيا تحوي كثير من التناقضات, ولا نعرف ما يخبئ لنا المستقبل.
يرن جرس الحصة الدراسية, فيذهب الشابان للدرس.
مضت الأيام, وانتهى العام الدراسي, وحلت العطلة الصيفية.
كالعادة يستغل أحمد العطلة للعمل, ليعين عائلته في ظروفها.
جلس أحمد ذات يوم, وألقى تحية الصباح على والدته, التي أعدت له الفطور, أنهى فطوره, وقبَّلَ يد أمه ورأسها, وكالعادة طلب منها الدعاء.
انطلق إلى محل عمله, لكنه أستغرب من الوضع المتكهرب في السوق, فكل من حوله تبدو عليهم علامات الهلع, والخوف, والتساؤل, كان أحمد لم يعلم بما يجري, وسأل نفسه هل إن يوم 10 حزيران فيه مناسبة أو ذكرى معينة؟! أم إن هناك خطب ما حل في السوق.
قاطَعَ تساؤلات أحمد سلام جاره في العمل السيد أبو جاسم قائلا:
-السلام عليكم, كيف حالك بُنَي أحمد؟
-وعليكم السلام ورحمة الله يا عم أنا بخير, كيف حالك أنت؟
-الحمد لله لكن آه!
يستغرب أحمد من كلام السيد أبي جاسم, ويصمت لحظة وهو مندهش, فيبادر لسؤال أبي جاسم.
-خيرا يا عم؟ ما بك؟ أتمنى أن لا يكون هناك خطب ما؟!
-أما سمعت أن الموصل سقطت بيد العصابات الإرهابية؟ وإن الجيش إنسحب من المناطق التي يمسكها؟
استغرب أحمد وبقي محتار لا يعرف ماذا يفعل منتظرا ما سيأتي به القادم من الأيام.
وسط الترقب المشحون بالأجواء المتوترة, وغياب الرؤية, وتمدد زمر الإرهاب بسرعة, وقربها من بغداد, وأصبحت على مرمى حجر من العاصمة, كان أحمد يتسائل كحال بقية العراقيين ما العمل؟ وكيف يمكن أن يخرج العراق من هذا المأزق؟ وهل ستنجو بلادنا من هذا الخطر المحدق؟!
تساؤلات أحمد لم تدم طويلا حتى وجدت الجواب.
إنه يوم الجمعة الموافق 13 حزيران  ,2014 والمكان أرض القداسة والطهر, كربلاء الإباء, والصوت الهادر من منبر الصحن الحسيني الشريف, يهدر صوت ممثل المرجعية الشيخ عبد المهدي الكربلائي, بفتوى المرجع الأعلى, بوجوب الجهاد الكفائي دفاعا عن الوطن والمقدسات.
كانت هذه الفتوى هي التي أجابت تساؤلات أحمد, نعم من غير المرجعية يفعلها لحفظ العراق.
أحمد وهو مسرور بهذه الفتوى, هاج عنده إحساسه بالخلود, وعرف إن الاستجابة لهذه الفتوى ستدخله إلى أوسع أبواب الخلود.
قرر أحمد أن يلتحق مع المتطوعين, الذين لبوا الفتوى, لكن صغر عمره ودراسته, كانا حائلا دون الموافقة على مشاركته.
كان أحمد يخبر أمه برغبته بالالتحاق مع المتطوعين وذات يوم قال لامه:
-أماه! أريد أن التحق بأرض الطفوف - وهو الإسم الذي أطلقه أحمد على المعركة ضد داعش, فهو يرى إن المعركة ضد داعش هي طف أخرى-ويضيف أحمد
-أمي وأريد أن أكون من أنصار الإمام الحجة روحي فداه.
الأم بين حنان الأمومة, وخوفها على ولدها, وبين رغبتها في أن تحوز على وسام المشاركة في معركة الحق, كانت تتألم, هل توافق لولدها الذي تتمنى أن تراه متخرجا من الجامعة وعريسا بعدها أم تمنعه وتُحْرَم من أن تنال وسام الشرف.
قالت الأم-أحمد ولدي, أنت صغير ولديك دراسة, وإن الجهاد كفائي, وإن غيرك سيكفي, ففي العراق رجال لبسوا القلوب على الدروع, لحماية الوطن والمقدسات.
صار أحمد محزون الفؤاد, منكسر الجناح, لما يراه من جحافل تتوجه نحو أرض الطفوف, وهو لا يشاركهم الجهاد, وبقي متطلعا لأن يأتي اليوم الذي يلتحق به بركب المجاهدين.
مضت العطلة وجاء العام الدراسي العام الجديد, وعاد أحمد إلى مقاعد الدراسة, لكنه بقي يرنو نحو الالتحاق بالمجاهدين.
كان أحمد في منطقته في حي الجامعة, التابع لقضاء شط العرب, في محافظة البصرة, لا يترك تشييعا لشهيد إلا وأشترك فيه, وكان كلما ينتهي من تشييع شهيد, يعود ليحدث أمه عن شوقه للشهادة, ويخبرها بأنه سيكون عريس الحشد, مستذكرا موقف القاسم عليه السلام في معركة الطف, وكان يقول لأمه:
-أماه كم أعشق الشهادة, وإني لمشتاق لها, أريد أن أبلغ الخلود يا أمي -وهنا يستذكر شعوره بأن شيئا عظيما سيحدث له ويخلده-
الأم التي تذكرت كيف ربت ابنها, وسهرت الليالي, وهو يكبر يوما بعد يوم, فتخاطب ابنها قائلة:
-ولدي أحمد, لا تفجعني بنفسك, فأنت ذخري وفرحة أيامي.
يجيبها مبتسما ومقبلا يدها:
-أمي الغالية, أما تريدين أن أرفع رأسك بين الناس, وأجعلك تشاركين الزهراء سلام الله عليها بفقد بنيها.
هنا ترقرتْ دمعات في عين الأم, لكنها كفكفتها بكف الصبر قائلة:
-حماك الله يا ولدي.
مضى العام الدراسي 2014-2015 سريعا, وجاءت العطلة الصيفية, وتم فتح دورات تدريبية عسكرية محلية, وكانت مدرسة أحمد, واحدة من الأماكن التي تم تدريب الشباب فيها على المهارات العسكرية.
اشترك أحمد في هذه الدورة, وتعلم التدريب الاساسي, وكان احمد قد أنهى دراسته الثانوية, ولكنه بدل أن يقدم أوراقه للجامعة, قرر أن يلتحق بصفوف الحشد.
كان لواء علي الأكبر عليه السلام مقصد أحمد, فلهذا الاسم خصوصية ووقع في نفسه, فأولا من جهة التابعية, فاللواء يتبع للعتبة الحسينية المقدسة, التي طالما عشق أحمدُ صاحبها, وهام به ذوبانا, والخصوصية الثانية هو الاسم الذي يحمله اللواء, فعلي الأكبر عليه السلام كان من الشباب الذين ضحوا في معركة الطف, مما يعطيه حافزا, وزخما معنويا لبذل جهدا في المعركة ضد التكفيريين.
انخرط أحمد في لواء علي الأكبر عليه السلام, وتوجه إلى أرض القتال, وهناك أبدى  مهارة قتالية عالية, وتضحية كبيرة, فكان مقداما لا يهاب الموت, يسطر أروع صور التضحية.
في التحاقه الأخير, ودع أحمد أمه وقبل رأسها ويديها, وطالبا منها أن تدعو له بأن يرزق الشهادة, وأن يكون عريس الحشد –فهو دائما كان يسمي نفسه بعريس الحشد ويطلب ممن يعرفه أن يناديك بذلك- ويبلغ الخلود.
وصل أحمد مقر وحدته في جبال مكحول, وكانت نار المعارك وقتها تضطرم, فبدون أن يأخذ استراحة, اشترك مباشرة بالمعركة, وأبدى بسالة فائقة, حتى عانق إحدى رصاصات العدو, فسقط شهيدا, ليبلغ مناه في الحصول على شهادة الخلود.
وصل الخبر للأم, التي كانت تنظر لولدها كبرعم ينمو في احضانها, فتوجهت نحو الحسين عليه السلام مسلمة عليه نادبة:
السلام عليك يا ابا عبد الله, استقبل ولدي مع ابنك علي الأكبر عليه السلام, واضافت تدعو ربها بدعاء زينب عليها السلام قائلة:
-اللهم تقبل منا هذا القربان.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=94298
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 05 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18