صفحة الكاتب : حيدر الحد راوي

تأملات في القرآن الكريم ح16
حيدر الحد راوي


سورة البقرة
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ{151} فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ{152} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{153} وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ{154} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{157}
بعد ان اشار القرآن الكريم الى موضوع الكعبة , وجعلها قبلة للمسلمين , يبين نعمه عز وجل عليهم كما يشير الى ذلك المفسرون , لكني الاحظ امرا اخر , فيما يبدو من سياق الايات الكريمة , ان القرآن الكريم يشير فيها الى نعمة عامة لكافة المسلمين , واخرى خاصة للمسلمين العرب فقط , لتبسيط الصورة اكثر كالتالي :
الكعبة : القبلة الثانية للمسلمين , وسوف تبقى الى يوم القيامة , حيث تقع في بلاد العرب .
 نعمة ارسال الرسول العربي , حيث يقوم هذا الرسول بدور كبير تلخصه الايات بــ :
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا : حيث يقوم الرسول (ص واله ) بتلاوة كلماته عز وجل , مع تبيان الحق والباطل .  
وَيُزَكِّيكُمْ : حيث يقوم الرسول (ص واله ) بعملية التطهير الشامل للمؤمنين من قبيح الاعمال , وبذيء الكلام , وسوء الخلق ... الخ .
     ج- وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ : حيث يقوم الرسول (ص واله ) بتعليم المؤمنين احكام الشريعة , 
         حلالها وحرامها , مستحبها ومكروهها , وما الى ذلك .
     د- وَالْحِكْمَةَ : بيان كل ما ينفع الانسان , فيأتي به , وتبيان كل ما يضره , فيجتنبه . 
     و - وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ : بالاضافة الى ما تقدم , هناك امورا لم يكن يعلهما
          الناس في ذلك الحين , من قبيل قصص الانبياء والرسل , و احداث التاريخ ( ما سبق
          من الامم الغابرة ) ... الخ .
في الاية الكريمة مجال واسع للتأمل , حيث لا يسعني في هذه العجالة .

 
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ{152}
عندما يقدم لك شخص خدمة , سترد عليه بالشكر , عرفانا منك بالجميل , وتقديرا له , لكن بدرجات متفاوتة , مثلا , لو قدم لك شخص خدمة صغيرة , ستشكره بشكل عاد , كلمة تخرج من اللسان , لكن لا تصل الى القلب , ولو قدم لك شخص اخر خدمة كبيرة , سوف يكون شكرك له من القلب , بل من اعماق القلب , تنطق كلمة الشكر بلسانك , بينما قلبك يخفق بقوة اثناء ذلك , وسوف تلهج بأسمه عدة ايام , ولن تنسى ذلك المعروف ابدا , ربما طوال حياتك , فكيف اذا كان ذاك المتفضل هو الله عز وجل , حيث نعمة لا تنقطع ! . 
بعد ان بين الله تعالى نعمه على المؤمنين , امرهم بذكره , الذكر بكل انواعه , ذكر اللسان , ذكر القلب , وبالمقابل سيثيبهم الله تعالى بخير ثواب (أَذْكُرْكُمْ ) , وفي حديث قدسي ( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي ، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْ مَلَئِهِ الَّذِي ذَكَرَنِي فِيهِ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا ، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا ، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا ) الطبراني رقم الحديث 1755 .
( وَاشْكُرُواْ لِي ) امر مباشر منه تعالى للمؤمنين , بوجوب شكره تعالى عل نعمه , التي لا تعد ولا تحصى , الظاهرية منها والباطنية .
لكيفية شكره تعالى اداب كثيرة , وردت في الاحاديث الشريفة , ومنها شكر كل من قدم لك معروفا في ما يرضي الله تعالى , اذ لم تشكر الناس لمعروفهم فلم تشكر الله , كما في الحديث (من لم يشكر الناس لم يشكر الله ) المبسوط - السرخسي ج 7ص61
 وقد جاء عن الامام الرضا (ع) انه قال ((من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر عز وجل )) عيون أخبار الرضا (ع) - الشيخ الصدوق ج 1 ص 27        
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{153}
الرئيس او الوزير حين يزور دائرة حكومية ,  نرى ان الموظفين يتسارعون لمصافحته , ويتفاخر بعضهم على بعض , هذا يقول ان السيد الرئيس ابتسم لي ! , وهذا يقول ان السيد الرئيس كلمني وتكلمت معه ! .
كذلك الحال , عندما تظهر شخصية معروفة في مكان عام , فيبدأ عامة الناس بالتجمهر حوله , هذا مصافحا , وذاك مقبلا , وهذا يحاول ان يكلمه و يسمع كلامه , وذاك يسأله وينتظر رده , ويتفاخرون فيما بينهم , هذا يقول ( انا تكلمت مع فلان الفلاني ! ) , وهذا يقول ( لقد قال لي فلان الفلاني كذا وكذا ! ) .
يشعر الشخص بالسعادة تغمره , عندما يتكلم اويستمع الى كلام مباشر من شخصية مرموقة ( رئيس – وزير – مدير ) , او شخصية مشهورة ( فنان – ممثل ... الخ ) ويتفاخر بذلك ربما حتى يسكن في لحده ! .
ذلك من كلام البشر , وان اختلفت اسمائهم وعناوينهم , فما بالك ايها المسكين , بخطاب مباشر من رب العالمين , (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ) , خطاب مباشر للمؤمنين عامة , دون سواهم من الناس ( الامم ) , الا يحق لنا التأمل والافتخار ! .      
في الحياة الدنيا , يعاني المؤمنون الكثير من المصاعب والمشاكل , من قبيل النوائب و المصائب ( ظلم , جور , امراض , فقر , عوز ... الخ ) , فيأمرهم الحق تعالى بالاستعانة بالصبر على الطاعات , وترك المحرمات , الصبر بكافة انواعه التي يشير اليها علماء الاخلاق .
ليس بالصبر وحده فقط , بل بالصلاة ايضا , الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر , وتبعث الطمأنينة في النفس , وراحة القلب والخاطر .
الصبر والصلاة , كل منهما يكمل الاخر , فلا ينفع الصبر من غير صلاة , ولا فائدة من الصلاة دون الصبر .
إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
المعية  نوعان :
المعية العامة : هي معيته جل وعلا لجميع خلقه بمعنى العلم والاحاطة , السمع والبصر , كما وان معيته جلا وعلا صفة ذاتية لانه جل وعلا لا تخفى عنه خافية في السموات والارض وما بينهما .  
 المعية الخاصة : هي المعية العامة مضافا اليها تأييده ونصرته وعونه عز وجل للمؤمنين والمتقين والمحسنين , وهي اعلى منزلة من المعية العامة .
 في ذلك بحر للمتأملين , لا يسعني خوض غماره ! . 
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ{154}
الملائكة والجن , خلق من خلق الله سبحانه وتعالى , موجودون , يروننا ولا نراهم ,و لا نستشعر بوجودهم , حجب الله تعالى رؤيتهم عنا , بمقتضيات حكمته .
كذلك ارواح الموتى , موجودة , محجوبة بحجاب البرزخ , يروننا ولا نراهم , ولا نستشعر بوجودهم .
الاحاديث الواردة عنه ( ص واله ) تشير الى ان القبر اما روضة من رياض الجنة , او حفرة من حفر النار .
الحياة الدنيا , تمثل معسكرين , لا ثالث لهما , معسكر مع لله عز وجل , والاخر مع الشيطان (لع) , فليتقي الجمعان , في حروب مختلفة , من حيث النوع والسلاح , فيسقط رجال من هذا المعسكر و ذاك , يصف الحق تعالى , ان من يقتله في سبيله ( معسكره ) , بأنهم احياء , لكننا لا نشعر بهم , ومن يقتل مع الشيطان بأنهم اموات , لكننا لا نشعر بهم ايضا ! .
الذين قتلوا في سبيل الله تعالى , ستكون قبورهم روضة من رياض الجنة , يتنعمون فيها , مخلدون , فهم احياء بتلك المنزلة ( منزلة الخلد في النعيم ) , اما قتلى معسكر الشيطان (لع) , ستتحول قبورهم الى حفر من حفر النيران , يذوقون فيها اشد العذاب , مهانون , لا كرامة لهم , مخلدون فيها , فهم اموات بتلك المنزلة ( منزلة الخلد في العذاب ) .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155}
لابد للمؤمنين من بلاء , اختبار , يمحصهم , ويقوي ايمانهم , ويزيدهم تماسكا , كما يختبر المعلم تلاميذه , فينجح من ينجح , ويفشل من يفشل , وكما يختبر الحداد المعادن , فيميز الجيد منها , والرديء .
للبلاء اشكال مختلفة كثيرة , لا تقف عند حد , يجملها عز وجل (  الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ) , تعرض للمؤمن كما تعرض على التلميذ ساعة الامتحان , بعض التلاميذ يقولون ان الامتحان كان صعبا , ويقول الاخرون انه كان سهلا , فمن جد واجتهد واستعد بصورة صحيحة , يجد الامتحان سلسا , هينا , يسيرا , ومن لم يستعد بالصورة الصحيحة , يجده صعبا , عسيرا , مباغتا ! .
التلميذ الذي استعد للامتحان بالصورة الصحيحة , واجتاز الامتحان بسهولة ويسر , لابد ان تناله البشرى بالنجاح , فتغمره الفرحة ,  كذلك المؤمن , الذي يعيش متمسكا بمبادئ دينه , مستعدا على الدوام لكافة انواع البلاء , فلا بد له من بشرى عند نجاحه في تجاوز تلك الصعاب , فأي فرحة ستغمره ! , اذا علم ان هذه البشرى مصدرها الحق تعالى .
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{156}
افعال وصفات اولئك المؤمنون الصابرون على البلاء , انهم اذا اصابتهم المصيبة , لم يجزعوا , ولم يقنطوا من رحمته عز وجل , بل فوضوا امورهم اليه جل وعلا , ونطقوا بالحكمة من وجودهم , وحقيقة ايمانهم (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) , اقرارا منهم , انهم عبيد وملك لخالقهم , وانهم عائدون اليه , لا ريب في ذلك .
 أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{157}        
بعد ان اجتاز المؤمنون كل الصعاب , وتجرعوا الغصص في سبيل الحفاظ على دينهم وايمانهم , بل زادتهم ايمانا وتماسكا , تاهلوا لينالوا الثواب من ربهم , واي ثواب سينالونه من لدن الرؤوف الرحيم ! .
وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
يفرح ويفتخر الطبيب والمهندس وغيرهم بما حصلوا عليه من شهادات , دراسية وتقديرية وفخرية , لم يحصل عليها الا القلائل من ابناء جنسهم , فكيف اذا كانت هذه الشهادة صادرة من الحق تعالى في حق احد عبيده ! , في ذلك يجب الفخر لا بغيره ! .
هذه الاية بمثابة شهادة منه تعالى يمنحها لعباده , الذين صبروا على عبادته , رغم ما تعرضوا اليه من محن في هذه الحياة الدنيا الفانية . 

                   حيدر الحدراوي





   


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر الحد راوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/11/10



كتابة تعليق لموضوع : تأملات في القرآن الكريم ح16
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net