صفحة الكاتب : الشيخ ليث الكربلائي

مرجع يَهبُ الحياة
الشيخ ليث الكربلائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 2014 سنة يحق لمدون التاريخ أن يصنفها الأكثر جدبا في ذاكرة العراق ؛ إذ كل شيء بدا منهارا بدءا من الميزانية الخاوية بعد عقد من الزمن ملؤه الفساد والسرقة وصولا الى جيش منهار المعنويات يفتقر لكل سمات الجيش غير العنوان! مرورا بضغائن طائفية بلغت ذروتها غرب البلاد ،أما في الوسط والجنوب فشعب في الغالب منقسم على نفسه ، لغته التخوين وتراشق الاتهامات وأنفاسه تمجيد قادة الضرورة ، حتى عاد العباس وزينب والمختار في عصرنا بعد مضي اربعة عشر قرن من الزمن! ،أما الشمال فكان ولايزال يعربد لا من فعل خمر انما عربدة ضياع تنم عن عدم الرشد وافتقاد القيادة الحكيمة .
وفي لحظةٍ سقط ثلث البلاد وباتت داعش على اسوار بغداد وكربلاء ،حينها بدا كل شيء ميّتا لاسيما ضمائر الساسة ، ومن ثم قطيع المتملقين ، ولكن .. قبل اكتمال لوحة الموت الباهتة هذه قرر طبيب البلاد ان يدلي بحيلته الأخيرة كصدمة كهربائية تحفز دماغ مصاب بالفصام او الشرود او لعلاج قلب تبعثرت ضرباته وتشتتت  ،تلك الصدمة كانت فتوى غابت عن حسابات العدو والصديق معا ،فشكلت عنصر مبادأة بعد سجل حافل بالتراجع والانهزام ،فأيقظت في الجنوبيين نسائم الايمان والعزة فلملموا شملهم ، ونهضوا يدا واحدة تداعى لها ابناء الوسط بهمة وايمان لا يَفْتِرُ عمّا حازه اخوتهم  ، وقد تداعى لهم الأحرار من المنطقة الغربية  ، وبقايا صحوة في الشمال  ؛ فلم تكن الفتوى لطبقة من الناس انما كانت للعراق بكل أطيافه ومكوناته التي طالما وجدت في السيستاني حنوا وعطفا لم تلمسه في غيره ،كأنه جذع شجرة تؤول إليه الاغصان مهما تشعبت وابتعدت فهو للجميع مهما اختلفوا لا لتناقضه ، بل لتعاليه على التناقض  .
لقد عزف السيستاني بنفسه عن الانخراط في السياسة بشكل مباشر ؛ لأنه وجدها في بلداننا آيديولوجيا تُحيل الناس عبيدا والمتسلط وثناً ،لكن السيستاني نفسه قد عزف على أوتار السياسة نغما سيالا متذبذبا ضمن إطار الثابت المبدئي والمنهجي ؛لذا تجده مراقبا دقيقا فينة ومقوِّما ناصحا أخرى وثائرا مناهضا ثالثة ،هذه هي إشكالية الفقيه والسلطة  في أوجها ،إشكالية المبادىء والتهتك ،الإشكالية التي يمكن رصدها على طول خط سيرورة بل صيرورة الحياة منذ النشوء والى اليوم وما أكثر أن سحق الفقيه غلواء تهتكهم ، ولم يزعزعوا مبادءه يوما .
ولأن السيستاني يؤمن بضرورة بناء الغد ،وتجنب منزلقات إحياء الفتنة وتجديدها تجده متماسكا ضابطا ايقاع خطابه عندما يبلغ الإحتقان الطائفي ذروته فتُنْسَفُ المراقد المقدسة ، وتراق دماء الطائفة ،لكن السيستاني نفسه وبذات التماسك عندما رأى الغد الذي يريد بنيانه بات مهددَا بالزوال أعلنها حربا لأجل الحياة ،لأجل الوجود ،فكانت فتوى الجهاد خير حاسم لصراع الكينونة.
تلك الفتوى أعادت ثقة المقاتل بنفسه اذ حددت خياراته في أحدى الحسنيين ،ولاشك لم تكن الشهادة في ذاتها هدفا لكن دخولها في معادلة النتيجة لقلبها من ثنائية (النصر او الهزيمة) الى ثنائية (النصر او الشهادة) من شأنه قلب قواعد حساب النتيجة ايجابا في كل الاحوال ، وهذا عامل مهم في ملحمة صراع الوجود ، كملحمة الحرب على داعش ،وهكذا وُلد النجاح من رحم الايمان الذي ليس بالضرورة هنا ان يرادف الدين انما يكفي فيه القناعة والتبني ثم التفاني ، وهذا ما حاز الحشد أعلى مراتبه عن قناعة دينية محورها مرجعية النجف الاشرف الامر الذي لا يستسيغه ليبرالي ولا علماني ممن لهم ادبياتهم الخاصة في فن القيادة ، والتي لا ابوح سرا ان قلت انها منيت بفشل ذريع في البلدان الاسلامية طوال ما يقارب القرن من الزمن والى يومك هذا ؛ لأنها .. لم تراعِ الزمان ولا المكان في نسخها لثقافة الغرب في بلداننا .
والحق أن السيستاني لا ينتظر من هؤلاء ولا من غيرهم ان يعترفوا له بفضل ، انما همه العراق الذي هو اكبر من هؤلاء بالقدر الكافي لينشغل به عنهم ، فالسيستاني رغم أنه مرجع عام للشيعة في شتى أصقاع العالم إلا أنه ومن دون أن يتخطى عموميته جعل نفسه خاصا لحمل همِّ العراق ولا يليق حقا بذلك إلا كاهله المحني عطفا وحكمة  ، وإذا اراد العراقيون يوما خوض غمار النجاة فما عليهم الا تعضيده والامساك بكاهله ليكونوا يدا واحدة .
وفي نهاية المطاف .. ها هي داعش قد قُبِرت غرقا بدماء الشهداء التي روت الارض وانبتت الحياة إكراما لفتوى نائب الامام ، وها هو التاريخ يسجل لنا -كما سجل في السابق مرارا وتكرارا- كيف يفسد الفراعنة الأرض بينما يقع عبء تطهيرها على الطبقة البسيطة من الصالحين والاولياء . فيتزاحمون على الشهادة كأنهم ماء الحياة وينبوعها ، واذا كان السيستاني قد حمل همومهم أحياء ،فقد انحنى ظهره وطفحت دموعه بهموم عوائلهم وأحبتهم شهداء ، وها هو خطاب النصر ينبيك بهذا ،فإذا كنتَ ترى فيه تهنئة لا أرى فيه الا لوحة شيخ عجوز انحنى ظهره بهموم لا نهاية لها ،فهلم نصغي اليه مجددا يرتل علينا ترنيمة النصر ، بل ثمنه إذ يخبرنا: " ايها الاخوة والاخوات اننا اليوم نستذكر بمزيد من الخشوع والاجلال شهداءنا الابرار الذين روّوا ارض الوطن بفيض دمائهم الزكية، فكانوا نماذج عظيمة للتضحية والفداء.ونستذكر معهم عوائلهم الكريمة: آباءهم وامهاتهم وزوجاتهم واولادهم واخوتهم واخواتهم، اولئك الاعزة الذين فجعوا بأحبتهم فغدوا يقابلون ألم الفراق بمزيد من الصبر والتحمل.
ونستذكر بعزة وشموخ اعزاءنا الجرحى ولا سيما من اصيبوا بالإعاقة الدائمة وهم الشهداء الاحياء الذين شاء الله تعالى ان يبقوا بيننا شهوداً على بطولة شعب واجه اشرار العالم فانتصر عليهم بتضحيات ابنائه....
إن الشهداء الابرار الذين سقوا ارض العراق بدمائهم الزكية وارتقوا الى جنان الخلد مضرجين بها لفي غنىً عنا جميعاً، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ولكن من أدنى درجات الوفاء لهم هو العناية بعوائلهم من الارامل واليتامى وغيرهم، ان رعاية هؤلاء وتوفير الحياة الكريمة لهم من حيث السكن والصحة والتعليم والنفقات المعيشية وغيرها واجب وطني واخلاقي وحق لازم في اعناقنا جميعاً، ولن تفلح أمة لا ترعى عوائل شهدائها الذين ضحوا بحياتهم وبذلوا ارواحهم في سبيل عزتها وكرامتها، وهذه المهمة هي بالدرجة الاولى واجب الحكومة ومجلس النواب بان يوفرا مخصصات مالية وافية لتأمين العيش الكريم لعوائل شهداء الارهاب الداعشي بالخصوص، مقدماً على كثير من البنود الأخرى للميزانية العامة....
إن الحرب مع الارهابيين الدواعش خلّف عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين في صفوف الابطال المشاركين في العمليات القتالية، وكثير منهم بحاجة الى الرعاية الطبية وآخرون اصيبوا بعوق دائم، والعوق في بعضهم بالغ كالشلل الرباعي وفقدان البصر وبتر الاطراف، وهؤلاء الاعزة هم الاحق بالرعاية والعناية ممن سواهم، لما لهم من الفضل على جميع العراقيين، فلولاهم لما تحررت الارض وما اندحر الارهاب وما حفظت الاعراض والمقدسات، ومن هنا فان توفير العيش الكريم لهم وتحقيق وسائل راحتهم بالمقدار الممكن تخفيفاً لمعاناتهم واجبٌ وأيّ واجب، ويلزم الحكومة ومجلس النواب أن يوفرا المخصصات المالية اللازمة لذلك، وترجيحه على مصاريف أخرى ليست بهذه الاهمية ".


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ ليث الكربلائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/12/17



كتابة تعليق لموضوع : مرجع يَهبُ الحياة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net