صفحة الكاتب : الشيخ فاتح كاشف الغطاء

قراءة نقدية في الفكر التنويري (( الإصلاح في الدين أم بالدين )) الجزء الأول
الشيخ فاتح كاشف الغطاء

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
   مع البداية في الانتقال من العائلة إلى المجتمع لم يكن هنا لكلمة الإصلاح سوى المعنى المادي الذي يتناول إصلاح الأرض أو إصلاح البيت أو إصلاح أحوال المعيشة ، وإذا أردنا أن نتناول هذه الكلمة حسب المنهج المادي التاريخي ( لأن باب الموضوعية أن لا نتناول هذه الأمور على أساس المنهج التاريخي الديني ) تصادمت المصالح الفردية والقبلية مع المصالح الاجتماعية ، لذا كان من المفترض أن يتكون الأساس لفكرة الحاكمية فـصار النزاع حول المصحح والمرجع لهذه الحاكمية أو بمعنى آخر شرعية هذه الحاكمية عند هذا المجتمع الجديد ، فكان الدين هو المرجع لإعطاء الشرعية لذلك الحاكم ومن هنا نشأت في المجتمعات البدائية العلاقة ما بين سلطة الحاكم وقوة الدين أو شرعيته .
والغرض مما تقدم كان هو إرساء العدالة في التوزيع وفي العمل وفي الواجبات والحقوق في تلك المجتمعات البدائية ، وازدادت الصالح المتناقضة ما بين الحاكم والمحكوم ، فكان الحاكم لا بد له من أن يسوق الأفكار الدينية التي تلائم حكمه حتى تطور الأمر إلى أن أدعى ( نمرود ) الإلوهية على مجتمعه لكي يعطي لنفسه الشرعية التامة في التصرف في الأموال والكنوز ، فيسلب حق من يشاء ويعطيه لمن يشاء ، ويقتل من يشاء ويمنح الرفاهية لمن يشاء ، وفي مثل هذه الحاكمية لا بد أن يكون هناك طبقة بما يسمى رجال الدين أو ( رجال الكهنوت ) يؤمن بهم الناس إيمانا قطعيا ً وهم في الوقت نفسه يسوغون حاكمية المستبد ، فخرج من هذه البوتقة الكهنوتية كاهن يسمى ( آزر ) أراد أن يبين للمجتمع أن ما يفعله هؤلاء ليس بدين وإنما هو انحراف عن القيم الأولى والأساسية للدين وهي ( العـدالة ) إلى أن جاء الفتى إبن أخيه ( إبراهيم ) الذي وقف وقفته المشهورة وهـّدم مبدأ إلوهية الحاكم لكي يصلح ما أفسده هؤلاء الكهنوتيين وهذا الحاكم المستبد من قيم أساسية قام عليها أساس المجتمع بالدين المنحرف .
 إذن نستخلص أن العوامل المهيأة والموجبة للإصلاح هي :
1-    سوء توزيع بين المصالح والواجبات في المجتمع.
2-    مجموعة مستبدة تحتكر موارد ذلك المجتمع .
3-    كهنوتيين يسوغوا لهذا الاستبداد. 
4-    إعطاء منهج متكامل وواقعي يستوعب مشاكل تلك الفترة بالاعتماد على المبادئ الأساسية للدين، وبالخصوص ( العدالة بين العابد والمعبود ) والتي من خلالها تنعكس العدالة بين الحاكم والمحكوم 1
فخرج من نفس هؤلاء الكهنوتيين من يؤكد فساد وانحراف الحاكم والقيم الدينية السائدة آنذاك .
إذا أردنا أن ننتقل للمثال الثاني في المواجهة بين المجتمع وحاكمه فلا بـد من المرور بالعلاقة أو المواجهة بين موسى ( عليه السلام ) وفرعون تلك الأمة.
لم يدعي فرعون الإلوهية ولم يدعي أن له علاقة بالأمور التكوينية ، وإنما كان أكثر إمعانا ً في الاستبداد حيث ادعى أن الآلهة قـد منحته الربوبية ( أنا ربكم الأعلى ) 2 ، وقـد سوغ له ( الكهنوت ) في ذلك الوقت إدعاءه وأضفوا عليه الشرعية للتحكم بالأراضي والمياه التي كانت تعتبر مصدر مهم من مصادر الإنتاج في ذلك الوقت مع أن من المعلوم أن هؤلاء الكهنة كانوا أيضا من علماء التحنيط والكيمياء والهندسة والفلك ، ولا يطلع على علومهم تلك إلا من له حظ عظيم فكانوا يسمون آنذاك بـ ( السحرة ) لعلوا شأنهم ، وقـد سماهم ولقبهم فرعون بالسحرة لكي يضفي عليهم نوع من التقديس وإذعان الناس لقواهم .
فلما رأى موسى ( عليه السلام ) عندما بلغ أشده وتعلم عندهم ولفترة طويلة علمهم وخدعهم العلمية عرف مقدار الجهل الموجود في المجتمع والفساد الموجود عند هؤلاء الكهنة وأيقن أن مصدر الإفساد هو السلطة الفرعونية
فخرج موسى ( عليه السلام ) على فرعون بعد أن علم وتعلم العلوم السابقة الدينية والعلمية 3 وأدرك فساد الطبقة الكهنوتية وأن مصدر الإفساد هو السلطة الفرعونية التي اعتبرت رمزا ً للنظام المستبد آنذاك.  
  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - الحاكم دينيا ً أو دنيويا ً، وكذلك المحكوم
2- وكلمة إمعانا ً في الاستبداد ليست عرضية والمقصود منها أكثر تسلطا ً على أمور العباد من ناحية التوزيع والحكم والقضاء والأمر والنهي والعطاء والاسترجاع وتوزيع الموارد الطبيعية وغيرها من شؤون الربوبية وكذلك الولاية على النساء والأطفال وحتى سائر العباد ، ومن المعلوم أن إدحاض حجة من يـدعي الربوبية أصعب من إدحاض مدعي الإلوهية ، لأن الإلوهية تخص الأمور التكوينية مثل المشرق والمغـرب وتحريك النجوم والأقمار وغير ذلك .
3 – لا نزال نتكلم حسب المنهج المادي وليس المنهج الديني
فبدأ موسى ( عليه السلام ) بمهاجمة رمز النظام وهو ( فرعـون ) وحدثت المناظرات ، وتحدى موسى ( عليه السلام ) فرعون إن كان يستطع التصدي لقوى الطبيعة من ( القــّمل والجراد والفيضان ) وغيرها من الأمور وبالتالي أفسد مبدأ الولاية بمقولته المشهورة : إن فرعـون وزمرته من الكهنة يهلكون الحرث والنسل ، وبذلك عمل تهديم مبدأ ربوبية الحاكم لكي يصلح ما أفسده هؤلاء الكهنوتيين وهذا الحاكم المستبد من قيم أساسية ، قام عليها أساس المجتمع بالدين المنحرف ، إذن نستخلص أن العوامل المهيأة والموجبة للإصلاح هي :
1-    سوء توزيع بين المصالح والواجبات في المجتمع.
2-    مجموعة مستبدة تحتكر موارد ذلك المجتمع .
3-    كهنوتيين يسوغوا لهذا الاستبداد. 
4-    إعطاء منهج متكامل وواقعي يستوعب مشاكل تلك الفترة بالاعتماد على المبادئ الأساسية للدين، وبالخصوص ( العدالة بين العابد والمعبود ) والتي من خلالها تنعكس العدالة بين الحاكم والمحكوم 1
تميز الدين اليهودي بالواقعية وبتعاليم صارمة تحـدد العلاقات الفردية وخصوصا ً علاقة الفرد بالمجتمع ، وفهم رجال الدين اليهود تلك التعاليم على أنها مختصة بهم دون غيرهم واعتقدوا بأن هناك بعض التعاليم تخص علاقة رجال الدين بالله ، وكأنما أصبح الله من حصة رجال الدين فقط ، وبذلك تميزوا عن باقي المجتمع اليهودي فضلا ً عن غير اليهودي ، ولذلك سوغوا لأنفسهم علاقات معينة مع باقي اليهود ومع البشر في نوع من الاستعلاء مما أضفى عليهم قدسية من قبل عامة الناس الذين حولهم ، فكانت تجبى لهؤلاء ( الطبقة الدينية ) كثير من النذور والأموال من قبل الناس البسطاء ترمى على باب المعابد كنوع من الضريبة على هؤلاء البسطاء من اليهود وتجسيد لقدسية هؤلاء الكهنة الجـدد ، وأن المال هو بؤس ونقمة على البشر فيجب أن يبقى تحت سيطرة هؤلاء رجال الدين اليهود لأنهم يستطيعون أن يحدوا من شره على الناس ، بهذه الأفكار سوغوا المعاملات الربوية مع غير اليهود على أن يقوموا هم بها ، لأن المال الموجود في المعبد هو مال مختص بهم ، وأن العمل على إكثاره كان يعتبر نوع من العبادة ، وبهذه التوجهات سوغوا اكتناز المال وسلبه من البسطاء من اليهود ومن باقي البشر ، حتى أنهم قـد استحوذوا على سوق الذهب المالي في مدينة القدس للتعامل على أساس الفائدة في القروض والتجارة .    
 
  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - الحاكم دينيا ً أو دنيويا ً، وكذلك المحكوم
تلاشت القيم الروحية الحقيقية في التعاملات الدينية وتحولت إلى ممارسات مادية بين الحاكم الديني والمحكوم ، فأصبح الحاكم الديني أصبح يتاجر ويضارب بهذا المال المكنوز عنده مع المحتل الروماني ، فأصبح اليهودي البائس يزداد فقرا ً ورجال الدين اليهود يزدادون غنى ً وثراء ً وجاها  وقدسية  وعلاقات واسعة مع المحتل الروماني .
وكقانون اجتماعي عام عندما تزداد القيم المادية في المجتمع وتبرز فوق القيم الروحية تفقد ( المرأة ) مكانتها وتصبح آلة للمتعة والإنجاب ودون ذلك فهي مستضعفة ومسلوبة القدرات ، وبهذه النظرة كانت القيمة للمرأة في المجتمع اليهودي آنذاك ، فبرزت من ذلك الواقع الكهنوتي الفاسد امرأة تحمل من القيم الروحية والنزاهة بحيث أصبحت تفيض منها البركات أينما حلـّت حتى أنها قـد سلبت قدسية هؤلاء الكهنوتيين ، فكانت تأتي لها النذور وترجعها إلى الناس وتقول أن الفقراء أحق بها ، ثم ما لبثت أن جاءت بمولود صبي بطريقة إعجازية هـّزت ذلك المجتمع وهـّزت العروش القدسية التي بناها هؤلاء الكهنوتيين وسُـلبت عنهم تلك القدسية ، وكان هذا الفتى هو عيسى بن مريم    ( عليهما السلام ) وهنا نشأ فهما ً جـديدا ً لذلك الواقع الفاسد ، فقام بمهاجمة   ( السوق المالي ) وبدء بتكسيره وتهديم تلك الصوامع الموجودة فيه وقال : إننا يجب أن نفرض حصارا ً ماليا ً على المحتل الروماني ولا نتعامل بماله ، وأطلق مقولته المشهورة ( مال قيصر لقيصر ومال الله لله ) والمال الموجود في المعابد أن يرجع إلى الناس ، فهدم البناء المالي لليهود وسلب قدسيتهم ، وبذلك كان له وقفات مشهورة ومعروفة بوجوب محاكمة الخطيئة في البشر   ( حاكموا أنفسكم على خطاياكم ) فمن لم يحاكم نفسه لا يستحق أن يكون حاكما ً دينيا ً أو له أي علاقة بالدين ، فوقف وقال مقولته المشهورة عن امرأة اتهمت بالبغاء ( من منكم بلا خطيئة فليقدم ويرمها بالحجر ) فأعاد بذلك مكانة المرأة ، ومن أن المرأة ليست وعاء للخطايا أو وعاء للشهوة ، بل هي عضو عامل ومهم في المجتمع .
إن العمل الذي قام عيسى ( عليه السلام ) هو تصحيح وإصلاح للدين اليهودي الأصيل والقيم الدينية الأصيلة، فأراد أصلاح هذا الانحراف الذي أحدثه الكهنوت من تشويه للقيم الدينية الأساسية والرئيسية وأدخلوا في الدين ما ليس فيه وكان هذا الانحراف الحقيقي يحتاج إلى شخص فدائي حقيقي مستعد أن يضحي بنفسه من أجل إصلاح ما فسد .
بهذه الأفكار التي تمس الوجدان والقلب أضيفت هذه القيم المسيحية أو القيم العيسوية إلى ( العهد القديم ) لتضفي جديدا ً وقراءة جديدة إلى ( العهد القديم ) فأنطلق الدين المسيحي بصيغة عالمية ليست مختصة ببشر معين أو إنسان معين وأنه ليس دون العابد والمعبود حجاب ، فأنتشر الدين المسيحي كالنار في الهشيم الوثني آنذاك ، لأنه أسقط القيم الوثنية تلك القيم التي يلازمها دائما ً قـداسة الكاهن الراعي لذلك الوثن فأسقط القدسية عن كل شيء ما سوى المعبود ووصلت هذه القيم إلى القسطنطينية من خلال الإسكندرية ومصر ، بعـد أن دفعوا مهيئوا هذه الأفكار دماءهم وأرواحهم فداء لهذه الأفكار المسيحية .
إن قيمة التمسك بالكلمة والدين المسيحي هـّز القسطنطينية وهـّز قدسية القيصرية القسطنطينية ، فتقبل جمهور القسطنطينية الدين المسيحي مما أضطر الحاكم القسطنطيني أن يعترف بالدين المسيحي ثم يتقبله ومن ثم أعتنقه ، ولكن بقيت آثار الوثنية عند هؤلاء الرومان مما أثر في المبادئ الأساسية ، حتى دعا القيصر ( قسطنطين ) باني القسطنطينية  إلى مؤتمر كنسي في الإسكندرية لبيان العلاقة ما بين علماء الإنجيل والتوراة الغربيين والشرقيين فقد قيل أنه أجتمع بحدود  ( 24 ) أربعة وعشرون ألف عالم كنسي . وأن ثلثي هذا المجلس قـد أيـّد القيم الأساسية للدين المسيحي واليهودي، وان الثلث الآخـر أيـّد ما تسمى بذلك بعض القيم الوثنية خصوصا فكرة ( التثليث ) بحجة أنها ممكن أن يتقبلها الفكر الأوربي، فقام القيصر آنذاك بإعدام جل هؤلاء ثلثي المجلس المعارضين ، مما أدى إلى هرب القسم القليل في أصقاع الأرض واختبئوا في الجبال وأنشأت ما يسمى بالصوامع وعالم الرهبان .
فتحولت تلك المرأة المقدسة ( مريم ) إلى تمثال ، وتحول ذلك الفدائي البطل الذي هو من بلاد الشرق الأوسط ذو العيون السود والسحنة السمراء إلى شاب ذو عيون زرق وشعر أشقر لكي يلائم شكله شكل الأوربي الجـديد .
فنشأ مبدأ جـديد تحولت فيه القدسية إلى أمر تجسيمي وإلى شكل وثني ، فعادت الوثنية من حيث أ ُخرجتْ ، مع أنه كان هنالك رهبان ينادون بغير ذلك وكانوا يتعرضون لشتى أنواع التعذيب ، ومن الطبيعي أن يتأثر العرب الذين كانت لهم علاقات مع الشام واليمن المسيحيتين علاقات تجارية وطيدة ، وان يتأثروا بهذا الفكر الوثني وبهذه الأفكار التجسيمية فأن كان موسى ( عليه السلام ) قـد حارب من يـدعي الربوبية فإن الربوبية تحولت إلى صنم ، مدعين أن هؤلاء الأصنام يقربوهم إلى الله زلفى وأودعت تلك الأصنام ذات البعد الربوبي في بيت الله في الكعبة ، وأصبحت لهذه الأصنام في الكعبة المشرفة التي بناها إبراهيم ( عليه السلام ) قدسية خاصة فلا يتعامل ولا يمسها إلا الكهنة الخاصون بها ومن يصرف على هؤلاء الكهنة من أموال وهبات لكي يحمي تجارته أو يشرع تجارة الرايات الحمر أو يبرر الربا والتعامل به ، أو يتاجر بالسلاح فيبغي الفتنة بين القبائل العربية لترويج تجارته .
كان كهنة الكعبة يحملون من الدهاء ما يستطيعون به ترويج ذلك كله وإعطاءه صفة الشرعية.
وقـد كان للكعبة قبائل تحميها وهناك الرفادة وسقاية الحاج، كل ٌ له قبائل مختصة به ، مع أنه كان هناك قبيلة لا تزال على دين إبراهيم ( عليه السلام ) وتروج له ، وكانت من القبائل المحترمة ولكن ليس لها من المال الكافي كالقبائل الأخرى التي تمتهن التجارة ويسوغ لها كهنة الكعبة ما تشاء وما يشاءون .
كانت الحياة المادية في مكة هي السارية ومبدأ العـزة للأكثر مالا ً والأكثر ولدا، ومبدأ القـوة لمن هو أشد بطشا ً وأكثر جندا.
وفي عالم كهذا تتحكم فيه المال والقـوة لا معنى لمبادئ كالعفة والصدق والأمانة التي تعتبر بضاعة لا تغني ولا تسمن من جوع.
في ظل هذه الظروف برز فتى ً قلب ظهر المِـجـن ّ على هذه المبادئ البالية ، وبيـّن أن هذه المبادئ هي موت مجتمع وليس حياة أمة ، فإن الحياة تحيا بالعلم والرقي والصدق والعفة والتعامل الحسن واحترام الكبير والرفق بالمرأة والصغير وحسن الجوار والمحبة والسلام والألفة ، وأن هذا التفريق والتناحر والتنافر ما هو إلا نتيجة هذه العبادة والأصنام الزائفة ، فإننا إذا رجعنا إلى رب إبراهيم الأوحـد الذي أعطى المكانة لهذا المكان القفر وتلك الصحراء الجرداء وجعل فيها بيته المحرم أم القرى ورأس العلم بهذا البيت علينا أن نعيد قيم هذا الرب الأوحـد وهذا البيت المحرم المنزه ، فلا وثنية ولا تقديس ، وحتى أنا لست بمقدس فما أنا إلا بشر يوحى إليه ، أمشي في الأسواق وآكل الطعام وأتغوط وأتزوج بما يلائم إنسانيتي وبما يلائم وجودي المادي وهو لا يختلف عن وجود أي بشر آخر ، فما أنا إلا حامل رسالة علم أزيل هذا الجهل المطبق عليكم وعلى العالم وأنا لست مختصا ً بقوم أو بفئة أو بأمة وإنما أنا أتكلم للإنسانية جمعاء وللناس كافة ، هذا ما أحمله بيد وبيدي الأخرى ما فيه رحمة للعالمين ، فلاقى ما لاقى من تعذيب واستهانة وإهانة وبقي صامدا ً هو وأصحابه وبعض من أهل بيته ليس لهم من زاد إلا التقوى ولا من قـوة إلا الإيمان والثبات على هذا المبدأ حتى طرح بعـد عشر سنوات من هذا النضال الأسس العامة لمبدأ تكوين دولة قوامها العـدالة ، فهزت هذه الأفكار ذلك المجتمع ، وأستهزئ به إذ كيف يقوم ذلك الفتى بتكوين دولة في صحراء قـفراء في قبالة الدول الكبرى آنذاك مثل روما وفارس والحبشة ، فاتهموه بالجنون واتبعه كثير من الحجيج ممن هم من خارج مكة ممن يأتون إلى الحج ، فما كان من أهل مكة إلا أن حبسوه هو وأتباعه وأهل بيته في قفر من القفار لمدة ثلاث سنوات حتى جاء الحجيج من أهل يشرب واجتمعوا به وهم قوم زراع ، والزراعة كانت تعتبر مهنة أقرب إلى المدنية من التجارة ، فاحتضنوه وناصروه ، فأسس دولته الكبيرة محاربا ً بها الانحراف ومهدما ً بها القيم البالية ، وبذلك عمل على تهديم مبدأ ربوبية الصنم وأسس إلى وحـدة الإله والرب فلا معنى لربوبية إلا بالإضافة إلى الرب الأوحـد وهـو رب العالمين ، فشرع أن يكون رب عمل أو رب منزل أو أسرة ، فإن هذه التعابير هي تعابير لا يمكن إدراكها إلا إذا عرفنا أن هناك ربا ً واحـدا ً للعالمين وليس أربابا ً متفرقون .
وبذلك فقد أصلح النظام الفاسد الذي كان يعتمد على تعـدد الأرباب وجاء بنظام جـديد ( اجتماعي ـ اقتصادي ـ مالي ) أساسه العـدالة في التوزيع معتمدا َ على مقدمة جـديدة لذلك كله هو نظام عبادي جديد وبذلك شرع علاقة بين العابد والمعبود وبين المالك والملكية والمملوك وبين الراعي والرعية وبين الحاكم والمحكوم والقاضي والقانون .
فهـّدم مبدأ الاستبداد الفئوي أي أن تتراوح السلطة المالية والسلطة الحكمية بين فئة من الناس فقط وممنوعة عن الآخرين ، فالكل راع والكل مسئول عن رعيته ، إذن نستخلص أن العوامل المهيأة والموجبة للإصلاح هي :
1-    سوء توزيع بين المصالح والواجبات في المجتمع.
2-    مجموعة مستبدة تحتكر موارد ذلك المجتمع .
3-    كهنوتيين يسوغوا لهذا الاستبداد. 
4-    إعـطاء منهج متكامل وواقعي يستوعب مشاكل تلك الفترة بالاعتماد على المبادئ الأساسية للدين، وبالخصوص ( العدالة بين العابد والمعبود ) والتي من خلالها تنعكس العدالة بين الحاكم والمحكوم 1

هذه القيم والشريعة المتكاملة لم تسلم من التدليس والتحريف والفهم الخاطئ خصوصا ً عندما أراد الحكام أن يقولبوا هذه الشريعة لصالحهم كما في النظام الأموي والعباسي فظهر مصلحون يحملون الأفكار والمبادئ نفسها وبصورة متجددة ( هم علماء الأمة ) لأن الشيء الذي لم يتغير منذ مجيء محمد         ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى حـد نشوء هذه الدول الاستبدادية ، أن شريعة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أرست الحـد الفاصل بين العلم والجهل ، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون هناك مجابهة بين العالم والمستبد لأن المستبد لا بد أن يعتمد على القيم الجاهلية أو يقولب القيم الجاهلية البالية بما يلائم مصلحته ، بل يشرعن الجهل لأجل مصلحته كما فعل من سلف .
فإننا نستخلص أن الاستبداد والجهل والوثنية الظاهرة أو المغلفة هي دائما ً تكون على صعيد واحـد في مقابل العلم والإصلاح والعدالة وهي دائما ً تكون على صعيد واحـد ، مما أدى أن هذا الحاكم المستبد يقتل ويبطش بالعلماء ويحاول أن يطمس ذلك النور النير الذي لا يبتغون منه سوى رقي الأمة ، وأن هذا البطش والظلم جعل من الأمة واهنة وضعيفة بحيث أصبح يتخطفها القريب والبعيد حتى جاء السيل المغولي فمحى تلك الدولة المستبدة عن بكرة أبيها ، حتى جاء العهد العثماني .
تميز العهد العثماني بالقوة العسكرية وبفرض الأفكار الدينية على الشعوب والقبائل التي غزاها ومع البلدان التي فتحها، وكان هناك تمسك ظاهري بقواعـد الدين والسبب يعود إلى أن العنصر العثماني لا يجـد له مسوغ شرعي للحاكمية لأنه ليس عربيا ً ، فتبنى الفقه الحنفي الذي يسمح بذلك بما جعله في عـداء مذهبي مع من يتبنى غير ذلك المذهب ، وأنه فرض هذا المذهب بالقوة على سياسة الدولة وأصبح المذهب الرسمي للدولة .
وكمنهج توفيقي بين الدين الإسلامي والطبيعة الآرية اختطت الدولة المنهج الصوفي ودعمته وروجت للطرق الصوفية وفتحت التكيات والحضرات الصوفية ، وتوسعت في هذا المنهج إلى حـد الغلو في بعض الأحيان حتى أصبح المذهب الحنفي حبرا ً على ورق وعلماء الصوفية هم المتـنفذون الحقيقيون في الدولة .
إن التوغل في المنهج الصوفي وفرض مذهب واحـد أو وجود محتل يحاول أن يلغي كل شيء عربي حتى حاول إلغاء اللغة العربية ( لغة القرآن ).
أقول : إن هذا المنهج المتعنت والمستبد أظهر ردات فعل لعلها تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه ، ولا سيما الفكر الوهابي النابع من صحراء الجزيرة العربية والقريب من الحجاز الذي ألغى كل ما يتعلق بالمنهج الصوفي جملة وتفصيلا ً وحتى منها ما هو تقديس الأولياء وزيارة القبور وأدعى أن مذهبه هو المذهب الأوحـد والأصيل ، ويعـد المذهب الوهابي أول الدعوات إلى أيام السلف وإلى أحياء الفكر السلفي .
لم يستطع هذا المذهب أن ينتشر بقوة السلاح حيث كان يعتقد أصحابه أن قبيلة آل سعود الآتية من الصحراء والمتحملة إلى شظف العيش تستطيع أن تسحب البساط من عائلة آل عثمان المنحدرة من الجبال الوعـرة والتي كانت أيضا ً متحملة شظف العيش وذات قـوة وبأس .
وفي الحقيقة أن نظام القبيلة ونظام المذهب الواحـد لم يستطع أن ينتشر في باقي البلدان الإسلامية ، ولم يلقى الترحاب في مواطن البلدان الإسلامية كبغـداد والشام والقاهرة وتونس والجزائر والمغرب فيها حواضن العالم الإسلامي وجامعاته المشهورة وكانت تدرس شتى القراءات القرآنية وبين علماءها زيارات ورحلات عـديدة يجمعها الانفتاح والتفهم ويجمعها مقولة :    ( الاختلاف في الرأي لا يفسد في الود قضية ) فلم يستطع أن يتقبلوا ظاهرة المذهب الأوحـد والعودة إلى السلف وإلغاء التمدن ، لذلك لم ينتشر الفكر الوهابي إلا في رقعة محددة وفي مـدة محددة حتى ما لبثت أن وئدت الدولة الوهابية في مهدها ودخل العثمانيون مناطقها .
خلال فترة المئة عام السلام في أوربا 1815 ــ 1914 م فتحت أوربا المجال للغـزو الفكري لحواضن الدولة العثمانية ، فقامت باستقبال الطلبة والعلماء ليروا مقدار التمدن والحضارة والعلم والنهضة العلمية الحقيقية في أوربا ، وكيف أن أوربا ما بين قراها وعواصمها لا يوجـد إلا اختلافات بسيطة مع أن الخلاف مع أستانبول وحواضن العالم الإسلامي كبيرة جـدا ً ، بل شاسعة .
تأثر كثير من العلماء والطلبة في ذلك الوقت بالأفكار الأوربية الجديدة ، وأستيقنوا أن التمدن والرقي العلمي الذي أجتاح أوربا يلازم أخذ الدين حيـّزه المعين في المجتمع ، فأوربا ما لبثت أن أنطلقت إلا بعـد أن حـددت وقوقعت وحـّدت من نفوذ رجال الدين والكنيسة .
هذه الأفكار تمعـّن فيها علماء أفاضل مثل جمال الـدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي ، وكثير من المدنيين من غير رجال الـدين ، الذين اقتنعوا بجانب ولم يقتنعـوا بجانب آخر ، فوعوا أن العلم حياة وأن التقدم العلمي لا بد له من بذرة ، ولا بـد له من إصرار وعمل واتفقوا مع رجال الدين على ضرورة تغيير المنهج الدراسي والتدريسي في المدارس الحكومية ، وحتى ذهب علماء الـدين إلى تغيير المناهج في المدارس الدينية خاصة ، وتيقن رجال الـدين آنذاك كالأفغاني وعبده أن الدين الإسلامي قـد حـُـّدد وحـُـّرف وقـُـنن بطريقة تسمح لحاكم أستانبول بأن يستبد برأيه وأن يصدر الجهل لرعاياه بينما هو يحتفظ بالعلم والحضارة ، وقال هؤلاء رجال الـدين : أن الـدين يجب أن يكون للجميع وليس هذا بالـدين الإسلامي الحنيف ، فالدين الإسلامي يبيح الحرية ومنفتح على الآخرين وليس منغلقا ً على نفسه بطقوس وتقاليد وعادات ما أنزل الله بها من سلطان .
 فالعلم لا يأتي فقط بالنور والتصوف ولكن هناك علم كسبي يحث عليه الإسلام  ، ويعتبر من مشى طريق ذلك العلم فقد أحيا أمة ، فبدءوا الدراسات والمحاضرات واللقاءات الفكرية حول الإصلاحات الحقيقية التي ترجع للدين مهابته وحيويته ، فألتف حولهم طلبة الجامعات والمدارس الدينية إلى أن جوبهوا بالاعتقال والتنكيل ومصادرة الأموال والنفي ، فقام الأفغاني وبعـده تلميذه محمد عبده بنقل مجلتهم المشهورة ( العروة الوثقى ) من القاهرة إلى باريس ، وأستمر نشرها وطباعتها في باريس حتى وصلت إلى جميع العالم الإسلامي في كل مكان ، ليفوح منها عبق الـدين الإسلامي الأصيل الذي يتمسك بالأصول وينشر الفروع ويتقبل الجـديد ويلغي كل ما هو دخيل .
وما لبثت هذه الحركة الإصلاحية حتى اضمحلت عام 1908 عندما حدث انقلاب في حركة الإتحاد والترقي الذي ركـّز فكر التتريك أكثر فأكثر ، وازدادت قساوة المحتل على رجال الـدين وعلى أصحاب الفكر الحـر حتى الحرب العالمية الأولى التي صـّدق فيها المسلمون أقوال الغـرب وحسبوهم أن أفعالهم ستصدق دعواهم في إعطاء الحرية وفتح المدارس والتلاقح العلمي والفكري ما بين الشرق والغرب والتي ما لبثت مع إنتهاء الحرب العالمية الأولى إلا أن تكون هواء في شبك ، فخبت أصواتهم واستشعروا الخذلان حتى حـدث الزلزال الكبير في العالم الإسلامي عندما سقطت الدولة العثمانية عام 1924 ، وعادت عائلة آل سعود إلى الغـزو في 1923 وكان هذا المحتل الغربي الجـديد يقف موقف المتفرج من هذا الفكر السلفي المتطرف ، بل وأكثر من ذلك وقف موقف الصديق له والمتحالف معه ، وفي الوقت نفسه جاء الفكر العلماني المتطرف في أستانبول بقيادة كمال أتاتورك ليلغي كل شيء حتى الأحرف العربية وكل ما يمت إلى القرآن بصلة فلم يكن لعلماء الإسلام في ذلك الوقت من حضن أو حامي له وأصبحوا مشردين بين سندان العلمانية الجـديدة التي يروج لها البعض والتي تـدعوا تمزيق الـدين وبين مطرقة الفكر السلفي الوهابي حتى ذهب كوكبة من طلبة العلوم إلى باريس مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وزكي مبارك وقاسم أمين والعقاد ، وعندما رجعوا إلى القاهرة بدءوا يتكلمون عن العلم وعن تغيير المناهج المدرسية وعلى ضرورة الإصلاح في التربية والتعليم والأخلاق .
أطلقت عليهم بعض الصحف بأن هؤلاء يحملون مشاعل من نور في ظلمة هذا الجهل الحالك وركزت عليهم بالذات مجلة ( روز اليوسف ) حتى أطلق عليهم بعـد ذلك بفترة طويلة بـ ( التنويريين ) مع أن هؤلاء قـد رجع كثيرا ً منهم إلى أصل الإسلام وعلى التبشير بالـدين الإسلامي الحنيف كزكي مبارك وطه حسين والعقاد ، بل صححوا ما قـد ظن بهم من سوء على أنهم يحاربون الـدين أو أنهم لا يؤمنون بالدين وقيمه ، ووقف كثير منهم كالعقاد موقفا ً حازما ً من فكرة تسفير النساء التي دعا لها البعض .
في هذا العصر الحديث وقبل قرن من الآن لم يمس أحـد من هؤلاء فكرة الحاكمية ، ولكن كان صراعا ًفكريا ً بين من يفهم الإسلام حق فهمه وبين من لا يعرف إلا قشوره ويقيسة تارة باليهودية فيكون متعصبا ً وتارة بالمسيحية فيحاول أن يسقطه كما سقطت أيام عصور أوربا السوداء .
سنحاول في الجزء الثاني من هذا البحث تسليط الأفكار على المفردتين ، فكرة الحاكمية في الإسلام وتطورها وصراعاتها وكيف جوبهت من قبل الحكام والتنويريين الجـدد .
                                                                       إنتهى    
                   
            
 
                          
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ فاتح كاشف الغطاء
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/11/16



كتابة تعليق لموضوع : قراءة نقدية في الفكر التنويري (( الإصلاح في الدين أم بالدين )) الجزء الأول
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net