صفحة الكاتب : د . الشيخ عماد الكاظمي

حديث العقول -4--قراءة في وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم في العقل-
د . الشيخ عماد الكاظمي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

تحدثنا في الحلقة السابقة عن هذه الوصية المباركة للإمام الكاظم (عليه السلام) ضمن فقرة معينة تحت عنوان (العقل والاستدلال على الخالق)، وتم بيان ما يتعلق بذلك، وفي هذه الحلقة نتحدث عن فقرة أخرى من فقرات الوصية الشريفة.

(العقل والرغبة في الآخرة)

قال (عليه السلام): يا هشام بن الحكم: ثم وعظَ أهلَ العقلِ ورغبهُمْ في الآخرةِ فقال: ﴿وَمَا الحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ([1])، وقال: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾. ([2])    

إنَّ الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع يبيِّن العلاقة بين العقل والرغبة في الآخرة، وقد ذكر بعض الآيات الشريفة التي يمكن الاستشهاد بها، ولا يخفى أنَّ القرآن الكريم في كثير من آياته الشريفة يدعو الناس إلى التأمل والتفكر في المبدأ والمعاد، وعظمة خلق الإنسان، والسموات والأرض وغيرها من الآيات التي تدل -حقيقة- على وجود خالق عظيم، مدبِّر للكون، ومن إحدى المحطات المهمة التي تدعو إلى التأمل والتفكر هو الاستعداد للآخرة، وتهيئة الزاد لذلك السفر العظيم، وعدم الركون إلى الدنيا، والاغترار بكُلِّ ما فيها، فكُلُّ ما فيها إلى زوالٍ حتميٍّ، وإنَّ منادي الموت ينادي في كُلِّ يوم وليلة للوداع والرحيل ومفارقة كُلِّ ما ملكه الإنسان إلا العمل الصالح.

فالإمام (عليه السلام) ٱستعمل في هذا المقطع من وصيته المباركة لفظَي (الوعظ، والرغبة)، فالإنسان بطبيعته البشرية يحتاج إلى الوعظ والإرشاد من الآخرين، ويجب أنْ تكون الموعظة حسنة وبأسلوب معيَّن؛ لتكون في كُلِّ الأحوال نافعة، بل تكون أجدر نفعًا للعاقل الذي يتفكَّر في كلام مَنْ يعظه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في بيان أسلوب الدعوة إليه، فقال عز وجل: ﴿ٱدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ([3])، وقد وردت روايات كثيرة في أهمية الموعظة، فهي حياة القلوب كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابنه الإمام الحسن (عليه السلام): ((أَحْيِ قَلْبَكَ بالمَوْعِظَةِ)) ([4])، بل إنها من أعظم الهداية التي تُهدى إلينا كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((نِعْمَ الهَدِيَّةُ المَوْعِظَةُ)) ([5])، فإذا كانت للموعظة من الآخرين هذه الآثار فكيف إذا كانت من الله تعالى !! وخصوصًا للإنسان العاقل الذي يعرف المعنى الحقيقي للموعظة الإلهية.

وأما الرغبة إلى الآخرة فهي من أهم السبل التي تدعو إلى التفكر في الدنيا ولذاتها الزائلة، والاستعداد للآخرة ولذاتها الدائمة الباقية، وقد أكَّد القرآن الكريم على هذه الحقيقة ودعا إليها في كثير من الآيات الشريفة ومنها قوله تعالى وهو يصف نعيمها وثوابها: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا المُقَرَّبُونَ﴾ ([6]) فما أعظم هذه الصورة التقريبية لنعيم الآخرة، وإلا فالصورة الحقيقية هي كما ورد في الحديث القدسي: ((أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ)) ([7])، ومما ورد من الأحاديث في الرغبة إلى الآخرة  والاهتمام لأجلها قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((مَنْ أصبحَ وأمسى والآخرةُ أكبرُ هَمِّهِ، جعلَ اللهُ الغِنى في قلبهِ، وجمعَ لَهُ أمرهُ، ولم يخرجْ من الدنيا حتى يستكملَ رزقَهُ)) ([8])، ومما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: ((ما بالُكُمْ تفرحونَ باليسيرِ من الدنيا تدركونَهُ، ولا يحزنكُمْ الكثيرُ من الآخرةِ تحرمونَهُ)). ([9])      

ومن الآيات الشريفة التي ٱستدلَّ بذكرها الإمام (عليه السلام) في هذا المقام ما تقدم من الآيتين الشريفتين اللتين تدلان على بيان حقيقة الدنيا وما فيها من لذات زائلة، ويقابلها ما في الآخرة من نعيم مقيم، ففي الآية الأولى بيان وتوكيد على حقيقة الحياة الدنيا بأنها (لعب، ولهو) وقد جاء أسلوب الجملة  بأحد أساليب القصر وأهمه (النفي والاستثناء) فالنفي تقرر في قوله: ﴿وَمَا الحَياةُ الدُّنْيا﴾ والاستثناء تقرر في قوله: ﴿إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾، وفي ذلك كمال التوكيد وحث الإنسان على عدم الاغترار بها والركون إليها.

قال الشيخ "الطوسي" (ت460ﻫ/1068م) في بيانه للآية الشريفة: ((بيَّنَ اللهُ تعالى في هذهِ الآيةِ أنَّ ما يُتَمَتَّعُ به في الدنيا بمنزلةِ اللعبِ واللهوِ، اللذينِ لا عاقبةَ لهما في المنفعةِ، ويقتضي زوالَهُما عن أهلِها في أدنى مدةٍ، وأسرعِ زمانٍ؛ لأنَّهُ لا ثباتَ لهما، ولا بقاءَ، فأمَّا الأعمالُ الصالحاتُ فهي من أعمالِ الآخرةِ، وليستْ بلهوٍ ولا لعبٍ، وبيَّنَ أنَّ الدارَ الآخرةَ وما فيها من أنواعِ النعيمِ والجنانِ خيرٌ للذينِ يَتَّقونَ معاصي اللهِ؛ لأنَّها باقيةٌ دائمةٌ، لا يزولُ عنهُمْ نعيمُها، ولا يذهبُ عنهم سرورُها)) ([10]) فكُلُّ لذة تكون في الدنيا فإنَّ نتيجتها الزوال والانقضاء بمنزلة اللهب واللهو الذي له مدة محددة ثم ينتهي، فلا دوام له ولا بقاء، ويجب على الإنسان بحكم العقل والفطرة أنْ يبحث عن النعيم المقيم، ويتجنب موارد خسرانه، فالإمام الكاظم (عليه السلام) في وصيته لهشام وٱستشهاده بهذه الآية إنما لتأكيد البيان على هاتين الحقيقتين الثابتتين اللتين تحتاج إلى دوام البيان والتأكيد؛ ليكون الإنسان على ٱستعداد تام لهذا الاختبار الإلهي، وذلك الجهاد القائم في النفس بين الركون إلى لذات زائفة زائلة، أو التقوى والصبر للفوز بما أعده الله لعباده، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ﴾. ([11]

والآية الشريفة الثانية تؤكِّد على حقيقة ما يحصل عليه الإنسان في الدنيا من لذات زائلة وما يقابله من النعيم الأبدي الذي لا يزول، فأيُّ نعمة في الدنيا فمآلها إلى زوال، ويقابلها الخلود الدائم في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ([12])، وقال تعالى في الترغيب على ذلك: ﴿وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ([13]) وغيرها من الآيات الشريفة التي وعدت الإنسان المؤمن بمنزلة عظيمة عند الله تعالى.

 قال "الفخر الرازي" (ت606ه/1209م) في بيان ما يتعلق بهذه الحقيقة في الآية الشريفة: ((ٱعلم أنَّ حاصلَ شبهتهم [الذين لا يؤمنون بالآخرة] أنْ قالوا تَرَكْنا الدينَ لئلا تفوتنا الدنيا، فبيَّنَ تعالى أنَّ ذلكَ خطأ عظيمٌ؛ لأنَّ ما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقى، أمَّا أنَّهُ خيرٌ فلوجهينِ أحدهما: إنَّ المنافعَ هناكَ أعظمُ. وثانيهما: إنَّها خالصةٌ عن الشوائبِ، ومنافعُ الدنيا مشوبةٌ بالمضارِّ فيها أكثر، وأمَّا إنَّها أبقى فلأنَّها دائمةٌ غيرُ منقطعةٍ، ومنافعُ الدنيا منقطعةٌ، ومتى قُوبِلَ المتناهي بغير المتناهي كان عدمًا، فكيفَ ونصيبُ كُلِّ أحدٍ بالقياسِ إلى منافعِ الدنيا كُلِّها كالذرةِ بالقياسِ إلى البحرِ، فظهرَ من هذا أنَّ منافعَ الدنيا لا نسبةَ لها إلى منافِعِ الآخرةِ البتةَ، فكانَ من الجهلِ العظيمِ تركُ منافعِ الآخرةِ لاستبقاءِ منافعِ الدنيا ولمَّا نَبَّه سبحانه على ذلكَ قالَ: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ يعني أنَّ مَنْ لا يرجِّحَ منافعَ الآخرةِ على منافعِ الدنيا كأنَّهُ يكونُ خارجًا عن حَدِّ العقلِ)). ([14])، وقول "الرازي" في ختام كلامه: ((يعني أنَّ مَنْ لا يرجِّحَ منافعَ الآخرةِ على منافعِ الدنيا كأنَّهُ يكونُ خارجًا عن حَدِّ العقلِ)) كلام مهم جدًّا يحتاج إلى تأمُّلٍ وتفكُّرٍ.

بعد بيان الإمام (عليه السلام) في وصيته علاقة العاقل وترغيبه بالآخرة، فإنه ينتقل في وصيته إلى منزلة مهمة أخرى في وصيته في بيان تخويف غير العاقل فيقول: ((يا هشام: ثم خوَّف الذينَ لا يعقلونَ عذابَهُ فقالَ عز وجل: ﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. ([15])  

والآية ظاهرة البيان في تحذير الراغبين بالدنيا، الراكبين للشهوات واللذات، المرتكبين للمحرمات، والمتعدين على حدود الله تعالى، المؤثرين معصية الله تعالى على طاعته، وهذه الآية الشريف في سياق ما أصاب قوم نبي الله "لوط" لمَّا ٱرتكبوا المعاصي، وخالفوا نبيهم جهلاً بعاقبة أمورهم.

وبهذا نكون قد بيَّنا بعض ما يتعلق بوصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لتلميذه هشام بن الحكم من جانب ترغيب العاقل وترهيبه، ونسأله تعالى أنْ تكون موعظة لنا وتذكرة للحث على العمل الصالح، والاستعداد للآخرة، وعدم الاغترار بالدنيا ولذاتها وشهواتها الفانية .. وإلى لقاء آخر

 

([1])  سورة الأنعام: الآية 32

([2]) سورة القصص: الآية 60

([3])  سورة النحل: الآية 125

([4]) الشريف الرضي، محمد بن الحسين: نهج البلاغة 3/475

([5]) الريشهري، محمد: ميزان الحكمة 11/4740 الحديث 21988

([6]) سورة المطففين: الآيات 22-28

([7]) المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار 8/92

([8]) الريشهري، محمد: ميزان الحكمة 1/45 الحديث 135

([9])  الآمدي، عبد الواحد: غرر الحكم ودرر الكلم: 695

([10]) التبيان في تفسير القرآن 4/117-118

([11]) سورة يوسف: الآية 90

([12]) سورة المائدة: الآية 119

([13]) سورة التوبة: الآية 72

([14])  التفسير الكبير 8/9

([15])  سورة الصافات: الآيات 136-138


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . الشيخ عماد الكاظمي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/01/15



كتابة تعليق لموضوع : حديث العقول -4--قراءة في وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم في العقل-
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net