شوائب في حساب الإنتاج المحلي الإجمالي
محمد رضا عباس

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

الى القراء الذين ليس لديهم فكرة عن حساب الإنتاج المحلي الإجمالي , فان هذا المقياس الذي يسجل حجم التنمية الاقتصادية وتقدم الأمم هو مجرد حساب يدخل فيه جميع قيم الإنتاج الوطني من السلع والخدمات في السنة الواحدة. الحساب عبارة عن قائمة طويلة يدخل فيه قيم المنتوجات الزراعية خلال العام , قيمة الطاقة الكهربائية, قيمة الإنتاج النفطي والغاز الطبيعي وبقية المعادان , قيمة البضاعة المباعة في القطاعي المفرد والجملة , قيمة خدمات المحامين والأطباء و التعليم , والاف من قيم السلع والخدمات المنتجة في البلد الواحد خلال العام الواحد. التعريف ليس بالدقيق ولكن لا يبتعد بعيدا عن حقيقة هذا القياس المهم .

هذا الحساب مهم جدا , لأنه يسجل حجم التقدم او التراجع الاقتصادي لبلد ما , في السنة الواحدة . في الدول الديمقراطية يستخدم السياسيون هذا الحساب من اجل اسقاط خصومهم عندما يسجل هذا الحساب تراجع في الاقتصاد الوطني , وبعكسه , فان الزيادات في هذا الحساب يستعمله الرؤساء ورقة دعائية من اجل انتخابهم مرة ثانية . ارتفاع حساب الإنتاج المحلي الإجمالي بنسبة 10% ستكون ضمانة اكيدة لانتخاب الحكومة لفصل اخر , بينما انخفاض في الإنتاج المحلي بقدر 10% يعد علامة من علامات فشل الحكومة , ومن ثم عدم انتخابها مرة ثانية.

الا ان المشكلة مع هذا الحساب , انه ليس مقياسا دقيقا للنجاح او الفشل , وليس قادرا على ضم جميع التعاملات القانونية والغير قانونية . على سبيل المثال , ان زيارتك الى مطعم المدينة وتناولك صحن " الباقلاء والدهن" سيدخل في حساب الإنتاج الوطني , ولكن اعداد هذا الطبق من قبل الوالدة او الأخت او الزوجة لا يدخل في الإنتاج المحلي. وعليه فان هناك مثل يقول " زواجك من الخادمة سوف يخفض حجم الإنتاج المحلي ", والسبب ان اعداد الطبق من قبل الخادمة يقابله ثمن وهو مرتبها الشهري , ولكن قرارك زواج منها سوف تنفي الحاجة لدفعها أجور شهرية , انها زوجتك الان , ومن العادة لا ندفع أجور لزوجاتنا عند اعداد وجبة الإفطار او العشاء.

وعليه, يمكن اعتبار حساب الإنتاج المحلي اقل من حجمه الحقيقي . يضاف الى ذلك ان هناك سوق كبير للمخدرات , مع كل الأسف, في معظم محافظات العراق وان تجار هذه المادة الخطرة على صحة وحياة المواطنين تدر ملايين الدولارات على العاملين فيها , الا ان هذه التجارة لا تدخل في حسابات الإنتاج المحلي . وعليه , مرة أخرى من الممكن القول ان حساب الإنتاج المحلي اقل من حقيقتيه. الحساب لا يدخل فيه الدمار التي تخلفه الكوارث الطبيعة مثل الزلازل , البراكين, السيول, و الحرائق . كانت قيمة الخسائر من الكوارث الطبيعية في الولايات المتحدة الامريكية, 304 مليار دولار. هذه الاضرار لم تدخل في حساب الإنتاج المحلي الأمريكي , بذلك يمكن القول ان هذه الحالة تضخم حجم الإنتاج المحلي. كما وان اضرار الحروب هي الأخرى لا تدخل في حساب الإنتاج المحلي , على سبيل المثال , ان اضرار القضاء على تنظيم داعش في العراق والتي تقدر بمبلغ 100 مليار دولار لم تدخل في حسابات الإنتاج المحلي العراقي في عام 2014, 2015, 2016, و2017.  

كثيرة جدا الحالات التي لا تدخل في الحسابات الإنتاج المحلي وبالتالي يجب اخذ العناية الكافية عندما يتم استعمالها لقياس درجة النجاح او الفشل او درجة التقدم الاقتصادي و الاجتماعي. على سبيل المثال , ان رعاية الاهل والاقرباء لجرحى الاعمال الإرهابية لا تدخل في حسابات الإنتاج المحلي , على الرغم من ان رعاية المرضى حالة إنسانية يشكر عليها ويتقبلها الله قبولا حسنا . و قبل خمسين عام , كان ارسال معاملة عقد قران من دولة الى أخرى يتطلب أيام وربما اسابع , ولكن هذه الأيام لا تحتاج هذه العملية اكثر من دقائق من وقت الحاسوب , ومع هذا فان حساب الإنتاج المحلي لا يدخل هذه المنفعة ضمن الحساب. جهاز الحاسوب والتليفون الذي اصبحا يقدمان بحرا من المعلومات حول كل ما يريده البشر , ولكن منفعتهما لا تدخل في حساب الإنتاج المحلي . قبل 100 عام , كان الملايين من البشر يموتون بمرض الجدري , وملايين من البشر ماتوا من جراء امراض الطاعون , الا ان هذه الامراض أصبحت من الامراض التاريخية ولم يبقى لها اثر , ونتيجة لذلك ازداد اعداد البشر و طال  أعمارهم واصبحوا اكثر منتجين. ولكن منفعة القضاء على الامراض الوبائية لا تدخل في حساب الإنتاج المحلي.

حتى ان مخترع هذا القياس Simon Kuznets)   )   حذر من استخدامه لقياس النجاح او العافية للأمم . ولكن الكل تجاهل هذا التحذير واصبح يستخدم كقياس لتقدم الأمم , والويل للسياسيين الذين  يرفضون النمو الاقتصادي من اجل العناية بالطبيعة او نظافة الهواء , او تقديم مساعدات مالية للدول الفقيرة. وأخيرا , فان الحساب غير دقيق لأنه يعتمد على المعدل , وبذلك لا يعطي معلومات دقيقة عن من هو المنتفع او المتضرر من النظام الاقتصادي المعمول به .على سبيل المثال , ان معدل  دخل المواطن الأمريكي لعام 2017 هو  59,609  دولار سنويا , ولكن هناك بعض الأمريكان من يكون دخله السنوي يفوق المائة مليون دولار في السنة , واخرون لا يتجاوز دخولهم 15 الف دولار .  حساب الانتاج الإجمالي المحلي يتجاهلها ولا يكشفها . وهذا صحيح أيضا في العراق , هناك مواطنين من يزيد دخله السنوي على اكثر من 150 الف دولار , و بالمقابل هناك مئات الالاف من المواطنين من ليس لهم دخل , ولكن في نهاية العام يخرج علينا وزير التخطيط العراقي ليصرح ان معدل دخل المواطن العراقي السنوي لعام 2017 هو 5,120 دولارا.

الموضوع السابق قطاع محدودي الدخل، ودوره في انتشال الاقتصاد (2)

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat