صفحة الكاتب : د . عبير يحيي

دراسة ذرائعية لديوان ( سِلفي مع الروح ) للشاعرة عبير العطار
د . عبير يحيي

حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي

 

/سِلفي مع الروح/ عزف ناي حزين

 

دراسة ذرائعية لديوان ( سِلفي مع الروح ) للشاعرة عبير العطار

تقدّمها الناقدة الذرائعية الدكتورة عبير خالد يحيي

 

أولًا – المقدمة :

يقول المنظر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي -مؤلف النظرية الذرائعية- في كتابه ( دور الذرائعية في إعادة سيادة الأجناس الأدبية ):

"تتميّز قصيدة النثر بالميزات الغريبة التالية, والتي بحثت عنها كثيرًا ولم أجد فيها ما ينصف تلك القصيدة, وأنا أراها متناقضة وتخرج بالقصيدة النثرية من الإبداع الشعري الذي تتضمّنه بين جنباتها :

 

v بخلوّها من الوزن والقافية, والتفعيلة.

v عدم احتوائها على المحسّنات البديعيّة.

v تحررّها من الأنماط التفكيريّة وما يرتبط بها من قوانين وأحكام، أي أنّها تكتب وفقًا للفكر الخاص بالشاعر.

v وتمتاز بسكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع.

v إمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخليّة دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدة.

v الغموض وصعوبة الفهم والتفسير بشكل مطلق, لذا يتوجّب على قارئ قصيدة النثر التروّي والتأمّل في قراءتها،

v قابلية قصيدة النثر للتعديل، لذلك وصفت بإسفنجية البناء والتركيب….

 

ومن خلال تلك السمات الغريبة على الشعر العربي خرّجت "قصيدة النثر" من الشعر تمامًا، وهذا شيء خلافي حين تقرأ قصائد النثر لشعرائنا العرب في كلّ الحقبات، وينتفي هذا الخلاف الكبير بين النقّاد والباحثين العرب الذي زرعه فيهم رأي (سوزان برنار) وبعض الأدباء والباحثين والنقاد الغرب, حيث باتوا لا يفرّقون بينها وبين الشعر الحُرّ، إلّا أنّ الأمر في حقيقته يكمن في إطلاق تسميَتَين لنمط كتابي واحد، والبعض يرى بأن هذين الجنسين - الحر والقصيدة النثرية - مختلفان تمامًا…وفي رأيي أن هذا الأمر يقودنا إلى أنّ قصيدة النثر هي قلب الشعر الحر لكونها تمرّغت بكامل الحريّة في موسيقاها الداخلية, وهي الوحيدة التي تستحق التسمية ( قصيدة النثر الحر)، ومن جهة أخرى يقود هذا الأمر إلى أنّ قصيدة النثر قد رأت نفسها بين أيدي العرب بشكل أكمل وأجمل منها وهي بين أيدي شعراء الغرب....."

ولا أدلّ على ذلك أكثر من هذا الديوان( سِلفي مع الروح), للشاعرة السورية الأصل والمصرية الجنسية / عبير العطار/...

التي حلّقت بنا -عبر هذا الديوان- في فضاءات كونيّة شاسعة, جعلت أرواحنا تحطّ في مجرّات بعيدة, بعد أن أنهكنا الدوران في مداراتها حدّ اللذّة, و عندما أعادتنا إلى كوكبنا, ألقتنا على الشواطئ خُدارى.

السيرة الذاتية للشاعرة:

الاسم: عبير محمد شريف العطار – مصرية, سورية.

من مواليد دولة الكويت.

- حاصلة على بكالوريوس العلوم جامعة القاهرة 1987

- حاصلة على دراسات عليا في تجويد القرآن من معهد الدراسات الإسلامية بالكويت1995

- حاصلة على دبلوم ديكور داخلي من الولايات المتحدة الأمريكية بالمراسلة 1999

- عضو اتحاد الكتاب المصري.

- عضو مجلس أمناء في مؤسسة الكرمة للتنمية الثقافية والاجتماعية والمستشار الإداري لرئيس مجلس الأمناء.

- عضو في أكاديمية الفينيق للأدب العربي.

- عضو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب.

- عضو حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي.

- كاتبة وشاعرة وقاصّة وروائية.

مساميرها الأدبية على حائط الأدب:

· لحظات فارقة – صدر من مطابع الأهرام التجارية 2013

· الحب إنسان – صدر من مطابع الأهرام التجارية2014

· ديوان رهان مرآتي – صدر من مطابع الأهرام التجارية 2015

· تجاعيد زمن – قصص قصيرة جدًّا- صدر عن مؤسسة الكرمة للتنمية الثقافية والاجتماعية2016

تحت الطبع:

- بانسيه – رواية

- وحدك في الصورة تكفي – خواطر

 

ثانيًا –البؤرة الثابتة Static Core:

لا يخلو نصّ متّجه للتكامل من الشروط النصية البنائية والجمالية، من احتوائه على ديناميكية التنصيص(textualization motion).

وثباتها في الأفكار و الأيديولوجيات الإنسانية, وحتى في الشكل البصري، تتلمّس تلك المحطة المركزية، أيديولوجية الكاتب الأدبية والفكرية, ونظرته نحو مجتمعه، مرفق برسالته الإنسانية التي يتميّز بها عن غيره من الأدباء، وذلك واضح جدًّا في هذا الديوان قيد الدراسة, رسالته تبدأ من العنوان ( سِلفي مع الروح) تشي بالمحتوى الوجداني العميق, حيث البطولة للروح بكلّ ما يعتريها من مشاعر متباينة, وما تعكسه على عدسة الكاميرا لتصبح مرئية لكل من يحيط بها, ولا يحيط بها إلّا قلّة, ولكنّها القلّة الجوهرية المقصودة, العزلة التي فُرِضت عليها جعلتها بعيدة عن الكثرة ... لكنّ الشاعرة عبير العطارانتصرت لها, وأخرجتها إلى الحيّز المرئي, وفردتها على طاولات العرض ليراها كلّ أفراد المجتمع...

كانت صورة الروح هديتها لمجتمعها...! لذلك التقطت لنفسها صورة مع نفسها والمجتمع معا لتقول لنا إنّها فرد واحد من المجتمع, لكنّ الشعر فوّضها أن تنقل إرهاصاته في كلمات تعزف فيها مرة مرة, وترسم فيها أخرى...

 

ثالثًا-الاحتمالات المتحركة في النصوص شكلًا ومضمونًا

Dynamic Possibilities:

ومن هنا أنطلق للغوص في محيطات النص, بعد التبصّر بمجريات النص الداخلية وملاحقة حلقات الأفكار المتصلة فيما بينها بالتحليل, و ملاحقة الدلالات والرموز والأفكار المتعاقبة والمكمّلة لبعضها، كلّما غصت عميقًا كان صيدي وفيرًا ودسمًا، وعليّ ألّا يقع في شرك التناقض في الأفكار في نص واحد داخلي، بل يكون التلاحق النصي يسير بين مسلكين متوازيين, و بحبكتين كما يحدث في النصوص المدروسة رمزيًّا، الحبكة الأولى، إخبار صريح، والأخرى، دلالية مخبوءة، و كسر التوازي بين الحبكتين حتى لا يقود التقاءهما نحو التصادم الفكري، فالاستمرار بتحليل جزئيات النص يقود نحو الخروج من النص نحو صحراء العدم -وهذا شيء مناقض للواقع العلمي المادي- ودخوله في ميتافيزيقيا الأشياء، اعتباريًّا، فالنص شيء من تلك الأشياء، فلا شيء يفضي إلى العدم ولا شيء يخلق من العدم، وإنما ممكن أن تتغيّر الأشياء، وتتحوّل من حالة إلى أخرى، حتى الإنسان، كان طينًا ثم لحمًا, وهذا ما وجدته في قصائد هذا الديوان الذي قام على قوائم عديدة, الروح المقيّدة بمجال الإنسان( عقل ومشاعر متجذّرة), والروح المنعتقة بمجال الأكوان ( الأحلام الهاربة)...

وأبدأ بالتحليل الذرائعي عبر الولوج من المداخل العلمية التالية:

 

1- المدخل البصري External Trend:

نقد الشكل المرئي للعمل ...

وهنا أميّز بين الديوان المطبوع, وبين ما حواه من قصائد.

وأما الشكل المرئي للعمل, الغلاف, تماهت فيه الألوان من الأصفر والأخضر وما بينهما إلى الأزرق بدرجاته, ولا أدري لمَ أحسست أنني أرى عبير الأنثى التي تعشق اللون (الفستقي), وأعرف حقيقة أنّه لونها المفضّل, أمّا ما يخصّ الرسمة المختارة – والتي هي عبارة عن شجرة جذعها أنثى تمدّ ذراعيها فروعًا نحو السماء, وكذا وجهها مستجدية متضرّعة, أغصانها كثرة ومتشعبة, وهي أقرب ما تكون لشجرة الزيتون, وهذه بحدّ ذاتها دلالة- فشجرة الزيتون معمّرة وراسخة الجذور, مباركة ومثمرة- هنا مقاربة في التكريم بين الإنسان بالآية الكريمة {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) } سورة الإسراء, وشجرة الزيتون التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة النور { للَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) }...

واللافت أن أورق الشجرة ليست خضراء كما هو معروف, وإنّما بيضاء كندف الثلج, وكأنّها نجوم متلألئة بعيدة في سواد ليل. هذه الشجرة تنتصب على شاطئ بحر, والشاعرة -كما سنجد في قصائدها - لها من البحر السواحل والشطآن فقط ! في هذا البحر يبحر قارب خشبي صغير بشراع أبيض, تحلّق طيور النورس فوقه, وفي أسفل الغلاف حافة خشبية تناثرت فوقها قواقع بحرية وكتاب كبير مفتوح, تطير صفحاته محاكية طيور النورس...

كلمة " سِلفي" بلونها الفستقي تعلو وجه الشجرة الأنثى, محضونة بالفروع, تحتلّ مكان الشمس, تتلوها ( مع الروح) بأحرف كبيرة مدوّرة تحته اسم الشاعرة ( عبير العطار), وكلاهما باللون الأسود- بدلالة الحزن- ثمّ (لوغو) مؤسسة الكرمة الثقافية الجهة الصادر عنها الديوان, وتقديم الشاعر محمود حسن رئيس المؤسسة.

الغلاف الثاني : صورة الشاعرة مع جزء من إحدى قصائدها :

أقذف بالنجوم في ماء السماء

أحرّر نفسي

ليهون على الراحلين

الضياء

موؤودة هي الشمس

تنذر الميلاد

بالأحزان

تمنحه الوعود المجدبة

تشقّ صدر السماء

بآهتِها

وأنا آوي أخيرًا

إلى العتمة والمساء

وبالفعل لم أجد في الصورة شمسًا! كما لم أجدها إلّا مرة أو مرتين في النصوص! مع أن عالم الشاعرة السماء بأجرامها ومجرّاتها!.

العنوان ( سِلفي مع الروح), (سِلفي) مصطلح أجنبي معناه أن يلتقط الشخص صورته بنفسه, أصبحت مصطلحًا دارجًا مصاحبًا لمصطلح (موبايل) الذي يحوي كاميرا تمتلك هذه الخاصية, إن كانت ال( سِلفي) تلتقط صورة الجسد, فكيف إن كانت مع الروح؟ كيف ستبدوالصورة؟

هذا العنوان – وإن كان عنوان القصيدة رقم (13), إلّا أنه يطبع كلّ الديوان, لم تخلُ قصيدة فيه من ذكر الروح, كما لم تخلُ من ذكر كلّ معترياتها.

وبدخولنا بين دفّتي الديوان نجد إهداءً لافتًا جدًّا :

إلى الروح التي سكنتني

حتى أحالتني نبوءة للتائهين

ألبستني أجنحة الذهول

و قدّمتني مَهرًا للمحطات اللقيطة

أسكب محبرتي لترتعشَ الحكمة

وأدقّ أجراس الانتصارعلى محطّات الخيبة

فأمنحها أسرار الصعود.

هذا الإهداء عتبة واسعة نلج منها إلى الديوان من بعد البوابة الكبيرة ( الغلاف) والتي تفضي إلى الفناء الخارجي, ومن بعد العنوان باب الأسرار.

ثم ندخل حجرات الديوان ( القصائد), وهي كثيرة, حوالي (48) قصيدة, تواجدت كلمة ( الروح ) في أربع قصائد منها / سلفي مع الروح, عزلة الروح, إطلالة روح, هشاشة الروح/, أما داخل القصائد فتكاد لا تخلو أي قصيدة من قصائد الديوان من هذه اللفظة, سنطّلع على الترتيب المرئي للقصائد:

إن القصائد من هذا الديوان هي المجمل قصائد نثرية, لذا لن نبحث فيها عن الوزن والقافية ما عدا قصيدة (شيخ طريقة, قهوة انبهاري) فهي قصيدة التفعيلة, وإنما سنلاحق كلمات القصيدة, ترتيبها بجمل شعرية متتالية, أعمدة وتنسيقات بصرية, وملاءمة الألفاظ والسياقات الشعرية, وقد وجدنا ذلك محقّقًا في القصائد, الانتباه لأدوات التنقيط الفاصلة بين الجمل الشعرية, وهذا شيء مهم جدًّا, للأسف الشديد لم يكن محقّقًا بشكل مرضٍ في القصائد, آلية الاسترجاع تتيح لي أن أذكّر الشاعرة وألفت نظرها لهذا الأمر, وأبيّن لها أنّ أدوات التنقيط تمنح النصّ شكله ونسبه الأدبي الدقيق, وهويّته العربية الأنيقة, كما أنّها تحدّد موقعه من الشعر, وهي بحدّ ذاتها دوال تؤخذ بنظر الاعتبار حين نريد أن نعدّد الدوال الحسية, لتحديد شاعرية الشاعر, ومدى براعته في استخدام أدواته الأدبية, فخسارة أن تحرم الشاعرة نفسها من هذه الدوال.

استخدمت الشاعرة الأسلوب الأدبي المترع بالجمال اللغوي والبلاغي, ساقت عبره أفكارها وعواطفها وخيالها :

- مزجت بين الإخبار والعمق الأدبي, ما أكسب الكلام حيوية وحميمية, نجد الإخبار في قصيدة ( حديث الوفاء) التي استهلّتها بعبارة القول ( قالت لي العرّافة) :

قالت لي العرّافة:

سأذهب إلى مفترق الطريق وحدي

يختطفني السكون على طريق الأرض

فوحدي أقدّم قرابين المسافة

فتحاصرني الأسئلة

سأصادق عتمة القلب

لأدخل نفقًا بلا نهاية

 

نلاحظ كيف أنها استخدمت الأفعال( قالت, سأذهب, أقدّم, سأصادق... ) كلها أفعال إخبارية تقرّب المسافة بين الشاعرة والمتلقّي, وكأنها تحدّثنا حديث الأخلّاء, تخبرنا تفاصيل أحداث تخصّها, لتكمل بعدها القصيدة بالعمق الأدبي المنزاح إلى الخيال:

 

سألتها :

ما بال الحكايا خلف نوافذ الحب

لا أسطرها جوارَ النجوم ؟

 

بيد أنها أكثرت من أدوات الربط والسبك cohesion ( الأسماء الموصولة والضمائر, والعطف, بالمجمل أدوات الربط بين الألفاظ والتركيب) في بعض النصوص, ما جعلها تميل قليلًا إلى المباشرة في بعض القصائد.

 

كان يجب أن تحوّل الإخبارالمباشر إلى كلمات مقذوفة خالية من التعبير الإخباري( النسق السردي, التماسك الدلاليcoherence (.

كما أنه يفترض عدم استخدام الدواخل النحوية ( كان وأخواتها, إنّ وأخواتها) إلّا في حالات ضرورية, لتكون التعابير مقذوفة من خلف جدار التعبير, لتعطي شاعريتها خصوصيّة الاقتصاد في التنصيص والتكثيف الشعري, بميل راجح نحو الرمزية والعمق التعبيري, هذا ما عوّضت عنه الشاعرة بالانزياحات الخيالية, بمعنى أنها استغنت عن العمق الرمزي, بالانزياح نحو الخيال.

 

- انتشرت عندها الصور والأخيلة التي نقلت المتلقي إلى أجواء الخيال, حيث تجسّدت المجرّدات كوسيلة إقناع. في قصيدة ( على متن الهواء) جعلت الحنان محجّمًا بحقن تُعطى بجرعات في مواضع الاحتياج أي أنها أيضًا جعلت الاحتياج عضوًا حيًّا يتلقّى الحقن :

 

عواطفي لم تتأجّج

فأنت لم تحسن حقنَ الحنان

في مواطن الاحتياج

 

 

- أبرزت ذاتها في كلّ القصائد, شاعرة تملك الشجاعة للتعبير عن عواطفها وأحاسيسها, معتزة بكرامتها, أسوق من قصيدة ( بقايا عاشقة) :

لم يهزم المكان قصيدتي

لكنّه حملني جثّة

على سطح الأبجدية

والصدى الذي عاد إليّ متبرّمًا

نصّبه الهوى

قائدًا على البلاد

والكمين الذي سعى

لمصادرة عزّتي

واعتقال شواهدي

لم يجد الكرامة

في سراديب الغفران

في قصيدة( منتصف العمر) كانت تبرّر لمن اتهمها بأنها خائفة من فكرة الرحيل, تقول لهم كنت هناك, مقيدة في القصيدة :

لم يخذلني الوقت

الذي رافقته في الأمنيات

لم أتعب رغم الأوجاع

كنتُ مقيّدةً في حرفي

داخل كلّ قصيدة

 

وعندما تحدّثت عن أعماقها في قصيدة (أعماقي) ذكرت ذاتها الشاعرة, بل وحدّدت أنّها بلا قافية, وتلك حقيقة فهي قصائد نثر حزينة وحائرة:

لمَ أنا مبعثرة على الحروف

قصائدي لا تشتدّ بها قافية

ولا يتلوها شاعر ولا ترتمي

إلا في أحضان الحزن التام.

 

كما أنّها ملكت الشجاعة التي مكّنتها من التعبير عن رؤيتها الخاصة إلى القضايا المجتمعية العامة, وكذلك المفاهيم المختلفة, وفي نفس القصيدة تعرض علينا فكرتها عن الأوطان بمنظورها الخاص فتقول :

 

فلا غفران لوطنٍ شرّد الفرخَ اليتيم

طهّر المعاني التي اختبأت

حتى تبعثر جدواها

ولم تعد تعرف معنى الانتماء

 

- اعتنت باستخدام المحسنات البديعية كالجناس والطباق والترادف و الإطناب والاقتباس, لزيادة عمق النصوص الجمالية.

 

- الموسيقا الداخلية بوقعها الحزين والحميمي منسجمة ومناسبة لمضمون القصائد.

- انتقت مفرداتها الفصيحة بدقّة, منسجمة مع مواضيع القصائد.

وهنا محطة أقف عندها لأدرس الألفاظ والتراكيب بدقة, سأصنف المواضيع التي تعرّضت لها الشاعرة في ديوانها, الألفاظ و التراكيب التي انتقتها, وأدرس مدى الملاءمة بينهما لأحكم بعدها على درجة احترافيّتها الشعرية.

تنوّعت مواضيعها بين : التشاؤمية والتفاؤلية (والغريب أنها تكون مجتمعة في نفس القصيدة! ) والنفسية والرومانسية والفلسفية والخيالية والرمزية, نتناولها بالترتيب :

 

التشاؤمية :

 

لم يتنفّس عطري 3

أظنه تكبّر علي حين رأني وحيدة 6

لم تشرق كلماتي أظنها قاطعتني 5

القلم تكسّر في لحظة اختلاف 5

لم يكتمل الحلم أظنه أهملني 5

-لم تبتسم مرآتي أظنها حزينة, حين تراءت الخصلات البيضاء 9

-لم تختف تجاعيدي, أظنها يئست من فرط الدموع المتحجرة في المآقي,

  • لا أستغيث. 14
  • ألمح ذاتي الليلة, أظنها غادرتني, لتنام في أحضان القبور, وتلبس ثيابًا صفرا. 14
  • لم يفطم عقلي, أظنه قلّل حرصي على احتضانه, فآثر أن يشغلني بضجيج الصداع . 13
  • حتى الاهتمام أصابه الهزال. 4
  • شاحب وجه الحب. 4

- لا يعرف متى يفيق من أعيائه. 6

- أحيانًا يكفيك صمت غير مبرر, لتضمّد جراحك النازفة. 8

  • للاهتمام بعين الاستغناء. 4

-لا وجه للتصالح بين الاهتمام والحب. 8

  • الوله عناوين مفقودة. 4
  • تتسكّع في سراديبي قصص الحب المنسية كلّ ظلام. 8

-لا أرى أمامي إلّا المسافة الموجعة ولا أرى خلفي إلا عتمة الروح. 11

  • لكنّ الألوان أوجعت صدري فتحوّلت بعد الضيق سوادا. 9
  • ربما سعيدة, فاختلط ماء الحزن ببحر سعادتي. 10

-لكني أعترف أن ما خطّه طول الأمل يفتقد لعرض الحلم الذي اشتهيت. 13

  • سأصادق عتمة القلب لأدخل نفقًا بلا نهاية. 9
  • يستطيب الليل بأرقي. 4

-إنّي مهر الموت, حين أتصدّع بخيباتي, لا تبصرني الأرض, ولا أنا رصاصة القتيل. 14

-و أظل أركن إلى زاوية نسيتني, أقرّر فيها وحدي عزلة الروح. 11

-لا أفكّر إلا بخوف مشؤوم, حلّ جليسًا على أريكة محبّتنا. 10

  • بين الزوايا الحائرة, ذاتي تعيش برفقة قلبي العليل. 9
  • ضعفي, أسكت أنينه الصارخ فيّ. 6

 

 

تفاؤلية:

 

- لم تقفل نافذتي, أظنها تتفاءل بوجود بصيص من طاقات الكون المتسللة إلي كي أكون لها على انتظار. 18

  • لم يعلُ سقف غرفتي, أظنه يخاف من فرط خيالاتي أن يجد نفسه على حدود السماء. 15
  • أخبرك أن خيباتي, قد رصفت طريق نجاحي, ساهمت في إطلاق قمري. 12

-لم أعهد جفافًا إلا في ذلك الزمن المطموس من تاريخ الإرادة المقهورة.12

-لم أعد لممارسة رحلة ملؤها المطبات والخيبات. 8

  • يخذلني الوقت الذي رافقته في الأمنيات . 7
  • أرى الفصول مزهرة في ثنايا الألوان. 7

-ركبت سفينة الترحال, وأنا أمدّد الأمل بين جبال الحنين المبعثرة. 11

- أهدّد الوحدة بوجودي, على سطح حدث وسفح قلم. 9

 

النفسية:

سيطرت عليها المخاوف والظنون والغضب والفقد العاطفي, شكلت لديها فكرة الرحيل هاجسًا تتصارع رغبتها أمامه بين الإقدام والإدبار :

 

  • جام غضبك على ظنون الوقت. 6
  • الجاذبية, وتتهم الثقب الأوزوني بالتقصير. 6
  • على أنحائك, تهدّد بالاشتعال والاشتغال. 8
  • لم تحسن حقن الحنان في مواطن الاحتياج. 9
  • لن أتنازل عن فكرة الرحيل. 5
  • لا تسجد طمعًا في الرحيل. 5

- المغادرة هي صمت الألم مواجعي أيامًا. 6

- متشابهة التراتيل. 3

  • انزعيني من وحي القلم, انثري حلمي لأيام بعيدة. 8
  • وطّدي علاقتي بالأيام الخائبة على كاهلي. 7
  • حملتكِ كالثقلين خواءً على جدار الوجيعة. 7
  • هجرتني الدقائق المنسية. 3

- تهت على أجنحة الليالي, ورثني الضلال, أوحى للموت ليستردّ الوديعة 12

  • لم تقهرني فكرة الرحيل ذات موت. 6

- كنت فضفضة روح شقّ على الكون تقبّلها. 7

  • لأظلّ وعاء الحزن, و سراجًا في الليالي الحمقى لأحترق. 10

-كنت الحلم الذي لا تطاله مفردات الخيال, حتى أنّبني الواقع, كي لا أموت.

  • كنت أرضًا جاهزة للسقيا, ففاض عليها الماء بالغرق.
  • أخبئ في نفسي قاموس الهوى المعتّق من فرط الإهمال.
  • صوتي لأصوات الحزن مع الرحيل .
  • تجهش أحزاني, تذرف وعودًا منسية, تعتنق انفصال الشطوط, ويغوص في بحرك حزني, حيث النسيان.

 

 

الفلسفية:

استطاعت أن تبني من الألفاظ صورًا فلسفية مثيرة للجدل:

 

  • كل شيء في الحياة معلق على لفظ إيجاب, بعده الروح ترتفع. 11

- وما علّمتك الحياة, في خضم السقوط, تعلو الروح وتسمو, تحيل الجسد إلى قطع فخار, يستحيل معها الذوبان, ويعجز عن العودة لطينه, لكنه يقتبس من الحياة فرصة, تتساقط لها قطرات الروح. 33

- أستنكر السؤال المحمّل بالفضول, وأنتظر الإجابة الممزوجة باليقين. 10

  • أُلهمتُ رؤيا الحدّ الفاصل بين روحي المعلّقة على جدار الحب, وجسدي الطامح في تربة إبداع. 16

- وأفكاري التي تهيّأت في رداء الخيال, لتتزايد الرغبة في التشبث بالحنين. 12

  • أشرذم الفكرة المذبوحة بين الورقة و قهوة انبهاري. 8

 

الرومانسية :

 

وهنا ترقّ ألفاظها كثيرًا, تنافس رقّة الورقة و النسيم:

  • تعلّق الوجدُ برقاقات اشتياقي صُبْحًا كان إذا لاح. 10

 

-وتعلّقتُ أنا بأوراق التيه, رسَم لي من اشتياقي عَبرة. 11

 

-لا شيء يكملني قدرَ نظرتك العاشقة. 6

-لا يدهشني اغتسالك من دمع مقلتي, إذا ما فشل الكون في تجفيف الولع. 13

- تغلفني بحبّ سرمدي. 3

- تحفظ تفاصيلي عن ظهر حب. 5

- أقلّب صفحات الهوى, أبحث عن قصة جمعتنا قبل أن نولد من رحم لذّة لا تهجع. 15

  • أوحّد بين ذاتينا, وأتنازل لك عني. 7

- صلّ على قلب كبّله الهوى, يحرث المساحات المجدبة, و ينذر نفسه نورًا, و حِملًا للأغصان والألحان وكل الخطايا ليختصر عنك حريقًا قد يندلع. 24

-مكان لا يستريح إلّا بنبضك. 5

-كلّما ارتفع سقف الحب في القلوب, كلما أنزل علينا هدوءًا من السماء

-تعانقت والحب, واستبدلت به قريني, يضجّ من وجوده الحمقى, و يعشق سكناه الصامتون . 15

-فالحب يملأ شقوق النفس ليخفي أوجاعها, و يحيل سواد الروح إلى شفافية ابتداء. 13

  • وأنت وسكرات الحب, سكرة استمالة وسكرة استماتة, وسكرة تجمعنا على حرف. 16

-كلّما تاب النبض عنك انتحرت تفاصيلي. 6

-أتدثّر بعواطفك, كي لا تتجمّد عروق محبتي 8

- أشتعل شوقًا فوق الكلمات الراحلة 5

 

 

الخيالية:

انزاحت إلى الخيال بعيدًا, وكانت السماء فضاءها أحيانًا كثيرة, كما انعزلت في روحها أحيانًا أخر:

  • أمتطي غيمة ماطرة, كي تعلمني النماء والانتماء. 9
  • أهاجر لكل الخرافات, لأجدني بين التيه وعلامات الاستفهام. 10
  • توزّع عمري على الكواكب الحائرة. 6
  • أسقط سهوًا من مجرّات الألم. 6
  • وحدي على مقهى الاختيار. 5

- وحدي أجدني على جدار الوجع أسكن ظلّي. 7

  • وأنت وهمهمات البحر النازحة على خصلاتي, تنعت الجمال بوهم راقص, تستعيد معي زفراتي النازحة هي الأخرى مع النسيم. 21

-العروبة مسجاةٌ على أراضيهم, ميتةٌ بلا حراك. 7

-طفل عربي قد طفت جنسيّته على صفحة الماء. 8

  • أقتنع يومًا بذبح النهار, كنت أراها جريمة كاملة. 9

 

  • تصمد أبدًا دمعتي وأنا أشارك المغيب قطع رحم الشمس. 11

 

-أقذف بالنجوم في ماء السماء أحرّر نفسي ليهون على الراحلين الضياء. 11

 

  • هي الشمس, تنذرالميلادَ بالأحزان, تمنحه الوعود المجدبة, تشقّ صدر السماء بآهاتها. 14

 

-فالشفافية لا تظهر الغيمة الحبلى بالمطر. 7

  • لا يظهرالأرواح الصاعدة إلى السماء. 8
  • لا تنحدر إلى وعاء الحنان. 7
  • استغاثة الشوق لم تمنح ضغوط الفرصة إسدال الستار. 9
  • رحيل الوجد إلى ماء الورود. 6

-والأمطار خنقت بسيلها وعاء الانتظار. 5

-الابتسامات تصدّقت بفرحتها على الطيور المهاجرة في الهواء. 9

  • سلسلة ابتهالات ملّ الحاضرون منها, وما للموتى من دليل. 11
  • كنت جناحًا منكسرًا, يأبى فرص التضميد كي لا يضطهد. 9
  • قلبًا متسعًا آل على مشاعره التقلص حدّ الضمور. 9

 

الرمزية:

حاولت تحليل العبارات التالية بتمكينين, التمكين الاستعاري والتمكين الرمزي, فلو تعاملنا معها بحقل سيمانتيكي فهي استعارات تعبر عن اتجاه بلاغي تشبيهي أو استعاري, ولو تعاملنا معها بشكل براغماتي فهي مدلولات تشير نحو دلالات رمزية مؤجلة, لذلك أجادت الشاعرة بالتمكينين, وتلك سمة عبقرية توسم بالازدواج التعبيري تحسب لها إيجابيًّا:

 

  • لم آت كفكرة من البحر. 6
  • أوصِ الجبال بالاحتضان. 5

-استسمح الفكرة التي احترقت, لأنها لم تنل حظها من الظهور. 10

-استضافتني الأرض رغم أني جاورت النجوم. 6

  • أحجية توزّع الدموع على الفصول. 6
  • الأماني المخبّاة في البذور. 5

-على الشط البعيد نثر الموج أبعادك وثناياك بلا رحمة, كان الموج يحاول لملمة الأشياء, لكنه استغرق في إذابتها فلم تعد تصلح إلا لوداد على أطلال. 25

  • تُطلَق في السماء الروحُ المهترئة من فرط الضياع. 8
  • للأبعاد حفرة, تنام الأضلاع فيها, يغمرونها بكل قسوة, فتبقى على الشطوط ذكرى . 15

- والأمل قد تساوى مع الانتحار. 5

- فألجم الملك لسان الراوي حتى يحيلَ المشهدُ صمتًا وأسقط سيفه على رأس

الحب, لم ينزف دماءً أو أسماءً. 18

  • فتنة تحتلّ صدرَ الخجل. 5

 

· البناء الفني والجمالي:

ما دام الشعر الجنس الأدبي المتسيّد على كلّ الأجناس الأدبية وإلى الآن, على الرغم من من ظهور الأجناس الأدبية الحديثة من رواية وقصة قصيرة ومسرحية وغيرها, إلّا أنّه بقي الملك وسيد الصالونات الأدبية, فهو الأوسع معنى و تعبيرًا, وهذا يستلزم من الناقد أن يبسط تحليله على مساحة كبيرة ليحيط بكلّ التفاصيل الشعرية, وليحقّق التحليل الأولي الشمولية باستيفاء جميع الشروط النقدية علينا أن نلج النص المعروض للنقد والتحليل من خلال ما يلي:

 

· الموسيقى والصور الشعريةPoetic Music ::

 

الموسيقا: في القصائد موسيقا داخلية, محقّقة بالنغم الخفي الذي تترنّم معه النفس عند سماع أو قراءة القصيدة, وهذا النغم حزين بالمجمل, فيه الكثير من الحنين, كما لا يخلو من الكآبة, وقد أحسنت الشاعرة بانتقاء كلماتها التي تلاءمت مع ذلك النغم, وعندما رصفتها متجاورة تشكّلت التراكيب والجمل الشعرية القصيرة منسابة, فلا تنافر بين الحروف, فهي سهلة النطق, وكأن الشاعرة لا تريد عائقًا لفظيًّا يمنع انسياب أفكارها, فأكثرت من حروف المدّ ( الألف – الواو – الياء) لتناسب الحزن والحنين :

 

أجلس وحدي على مقهى الاختيار

أشتاق لك اشتياق الوليد

على رصيف مهجور

 

النعوت والإضافات والمتعاطفات, يعتبرها النقاد ضعفًا فنيًّا, لكنها تساعد الشاعر على التوسّع بالمعنى, كما تساهم بقوة في إيجاد نغم الموسيقا الداخلية:

من قصيدة نصف حالة:

 

ليتني أملك سلطانًا

يحيلني حجرًا أصمّا

ويشقّ قلبي نصفين

نصفًا يرجمني

ونصفًا يخدع وحدتي

 

الصور الشعرية :

 

هي اللوحات المرسومة بالكلمات, لا تخطئها العين, كما لا تغفلها بصيرة الناقد الذي يعتبرها صيدًا يسعى إليه, هي مركز نظر الناقد إلى مخبوءات النص, والتي من خلالها يتمكن الناقد من الإحاطة بالعلاقة التبادلية بين الألفاظ والبيئة الاجتماعية للشاعر, لقد استطاعت الشاعرة عبير العقاد أن تكتب نوعي النص الشعري :

 

النوع الأول :

 

التقريري المباشر الذي يميل إلى العقل والخطاب المنبري كما في قصيدة ( قلب كوني):

 

أيتها البشرية لا تتصارعي

بين مثقال رحمة

وقناطير ألم مدمجة

فيقيننا أن لا مجال للخلود

 

في قصيدة ( على حافة البئر) تخاطب القمر آمرة:

 

يا أيّها القمر الساكن بعيدًا

أعد إليّ جزءًا

من فتات النجوم

التي توارت

بعدما سهمُ قلبه رماني

 

 

والنوع الثاني :

 

مضاء بالصور الشعرية الجميلة, بميل إلى العاطفة والخيال, حيث تتجلّى تجربة الشاعر الشعورية بشكل واضح :

في قصيدة نصف حالة :

 

وتعلّق الوجدُ

برقاقات اشتياقي

صُبْحًا كان إذا لاح

 

وتعلّقتُ أنا بأوراق التيه

رسَم لي

من اشتياقي عَبرة

وخطّ بحماقاتي

درب ارتياح

 

لو شاء رسام أن يرسم هذه الصورة لانبهر وأبهر بها! الوجد( شدة العشق) يتعلّق كالندى على بتلات الاشتياق!

لو شاء الرسام أن يرسم وصف الشاعر لرسم دمعة معلقة بدروب الضياع !

 

ولندقّق في هذه الصورة المبهرة للغروب كما ترسمها الشاعرة في قصيدة (ذبح الخيبة) وهي القصيدة الفريدة التي وجدت فيها الشاعرة تأتي على وصف الشمس, ذكرتها موؤودة! والنهار ذبيح عند الغروب!تقارب بينهما وبين خيباتها:

 

لم اقتنع يومًا بذبح النهار

كنت أراها جريمة كاملة

لن تصمد أبدًا دمعتي

وأنا أشارك المغيب

قطع رحم الشمس

أقذف بالنجوم في ماء السماء

أحرّلر نفسي

ليهون على الراحلين

الضياء

موؤودة هي الشمس

تنذرالميلادَ

بالأحزان

تمنحه الوعود المجدبة

تشق صدر السماء

بآهاتها

 

 

وهناك الكثير من الصور, آتي على ذكر بعضها في المدخل اللساني بعون الله.

 

 

· البيئة الشعريةPoetic Environment : :

 

المحيط الإنساني المؤثر في ذهنية الشاعر وعواطفه, والعامل المحفّر الذي أثار ملكته الشعرية, لا شك أنها عامل أساسي يجعلنا نكتشف الجوهر النفسي للشاعر, لقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الشاعر يضع كلّه في شعره, والبيئة المعاشة بمكانيتها هي التي تؤثر على البيئة الداخلية النفسية للشاعر, وبيئة الشاعرة غريبة قليلًا, لها من الأرض اللون الأخضر والحجر, ومن البحر الشواطئ, أما عالمها فهو المجرّات والكواكب التي تبتلعها السماء!

ما جعلها تركن إلى العزلة حين تُمنع عن التحليق في السماء, لتعتكف مع روحها بما يشبه الانزواء, في (عزلة الروح) نجد ذلك واضحًا:

 

وأظل أركن إلى زاويةٍ نسيتني

أقرّر فيها عزلة الروح

وأختبئ داخل ذكرياتي

وهواجس المستحيل

لا أفكّر إلّا بخوف مشؤوم

حلّ جليسًا على أريكة محبّتنا

وتوارت دمعاتي

لا تجفّفها شمس النهار

ولا تصطدم بنجوم الليل

فلربّما نافذتي تمنع عني انعتاق التأجيل

 

أمّا الحيّز المكاني الواقعي الذي تنفعل فيه الشاعرة فتطلق فيه قصائدها بخيبة كل الشعوب العربية, المشرق العربي, في قصيدة( فارس ) توصّف الشرق بفرسانه الغائبين:

فما عاد للشرق

فرسان يقيمون الحق

صار صراعًا

على نبضٍ باطل

فألجم الملك لسان الراوي

حتى يحيلَ المشهدُ صمتًا

وأسقط سيفه على رأس الحب

لم ينزف دماءً أو أسماءً

كانت فتنة

تحتلّ صدرَ الخجل

 

 

 

· الموضوع أو الثيمة ومقاييس الدقة في الإبداع الشعري Theme and poetic creativity:

رسالة الشاعر الإنسانية واستراتيجيته الفكرية التي يقدّمها للمجتمع, هذه الرسالة التي إن خلا منها النص الشعري عُدّ تافهًا معدوم الجدوى لا يستحق لا أن يُقرأ ولا أن يُسمع, إذ ما قيمة الجسد إن خلا من الروح حتى لو كان الجسد لأجمل الجميلات؟ وما قيمة الجمال إن كان صاحبه أبلهًا أو سفيهًا؟

خيط رفيع قصيدة النثر الراقية عن تهويمات السريالية, هذا الخيط الرفيع المتين هو الرسالة المجتمعية, ولم تبخل شاعرتنا بهذه الرسالة على مجتمعها, بل أهدتها إلى كل من عاني ويعاني ما تعانيه من حزن وفقد للأحبة وحنين إلى دفء الأب والأسرة والحبيب, وقفت مع المهملين فكانت خير من يمثّلهم في قصيدة ( أنا مع وقف التنفيذ):

حتى الاهتمام أصابه الهزال

شاحبٌ وجه الحبّ

لا يعرف متى يفيق من إعيائه

فأحيانًا يكفيك صمتٌ غيرُ مبرّر

لتضمّد جراحك النازفة

تنظر للاهتمام بعين الاستغناء

فلن يملك رقبتك إلّا كبرياءٌ جامح

أينما لمسته سدّ لُهاثك

لا وجه للتصالح

بين الاهتمام والحب

كما أنها متفاعلة جدًّا مع ما حدث في بلادها, أبكاها غرق الأطفال الذين عضّتهم الحرب ولفظهم البحر, في (هجرة عيلان ) نقرأ:

العروبة مسجاةٌ على أراضيهم

ميتةٌ بلا حراك

الأمان قد اختفى

والأمل قد تساوى مع الانتحار

طفل عربي قد طفت جنسيّته

على صفحة الماء

وصعدت روحه هناك

 

من أبرز مقاييس نقد المعنى ما يلي:

-1مقياس الصحة والخطأ:

كل الحقائق التي أتت بها الشاعرة, سواء أكانت تاريخية, أم لغوية, أم علمية, أو حتى الأسطورية, لم ألحظ أي خطأ, حتى التناص الذي كثر في القصائد نمّ عن معرفة ثقافية واسعة.

2-مقياس الجدة والابتكار:

لا يشترط أن تكون المعاني التي يقدمها الشاعر في قصائدة جديدة , فذلك شبه مستحيل, لأن كل المواضيع والمعاني قد تم تناولها سابقاً, لكن المطلوب –حتى يكون للمعاني مكانة نقدية متميزة- أن تتصف بالطرافة والابتكار, بمعنى أن يتناول الشاعر معنىً مفيدًا من المعاني, يقدّمه بقالب يبدو فيه جديدًا أو كالجديد, وقد وجدت ذلك في الكثير من القصائد التي حملت مفاهيم وموضوعات مطروقة قبلًا, لكنها قدّمتها بطريقة مبتكرة ولنا في قصيدة( خارج الزمن ) خير مثال :

 

لنرَ كيف شبّهت شغب الزمان معها في ( خارج الزمن ) مستخدمة تقنية الألوان الشفافة و العاتمة, الطارحة والماصّة :

 

ويأبى الزمان أن يريحني

يظلّلني بفرشاته

يصنع مني لوحة بلا ملامح

فالشفافية لا تظهر الغيمة الحبلى بالمطر

والليل لا يظهر

الأرواح الصاعدة إلى السماء

والدموع لا تنحدر إلى وعاء الحنان

 

في قصيدة (التلة البعيدة) قدّمت تعاريف مبتكرة للعطاء والابتسامة بصور جميلة ورقيقة جدًّا:

إن استغاثة الشوق

لم تمنح ضغوط الفرصة

إسدال الستار

فالعطاء رحيل الوجد

إلى ماء الورود

والأمطار خنقت بسيلها

وعاء الانتظار

الابتسامات تصدّقت بفرحتها

على الطيور المهاجرة في الهواء

 

 

-3مقياس العمق والسطحية :

والعمق هنا هو المعنى الذي يذهب بالمتلقي بعيدًا, بدلالات رمزية ومعنوية عالية التأثير, تكون الأبيات عميقة إذا اعتمدت على الحكمة التي تختزل الكثير من التجربة الإنسانية, وتقدمها في عبارة موجزة بليغة, وعكس ما تقدم تكون السطحية ...

لنرصد هذا العمق في قصيدة ( شقوق النفس )ولنقدّر أبعاد, ما هو الوطن بنظرها :

لم يكن يدرك أن الحبّ مستقلٌّ بذاته

لا يعرف الانتماء إلّا للوطن

والوطن للحبّ ليس فردًا بشرًا

لكنّه ما قد يتّسع له

دون الشعور بالخوف أو بافتقاد الأمان

في كينونة بشرٍ أو ملاك أو إله

مقاييس نقد العاطفة :

العاطفة هي الحالة الوجدانية التي تدفع الإنسان إلى الميل إلى شيء أو الإعراض عنه, وما يتبع ذلك من حب وكره, وسرور وحزن, ورضى وغضب, ومن أبرز مقاييس نقد العاطفة ما يلي :

-1مقياس الصدق والكذب :

الدافع الذي دفع الشاعر لنظم قصيدته, إن كان دافعًا حقيقيًّا وليس زائفًا, فمؤكّد أنّ العاطفة ستكون صادقة, وعكس ذلك صحيح, وفي كلا الحالتين يتوقّف الدافع على مدى عمق التجربة الشعرية عند الشاعر, هي بالتحديد الموقف الذي عاشه الشاعر أثناء نظم القصيدة, الشاعر فقدت الأب وكان صرحًا كبيرًا في حياتها, ولا أدلّ على صدقها من إسقاط تجربتها الوجدانية على أنفسنا لندرك أنها جاورت الألم والفقد طويلًا فكان هذا إبداعها.

 

-2مقياس القوة والضعف :

يقصد به مدى تأثير القصيدة في نفس القارئ, إن هزّت وجدانه كانت عاطفتها قوية, وإن لم تترك أثراً في نفسه كانت عاطفتها ضعيفة, هذا المقياس يتبع لأمزجة الناس وطباعهم, ومدى تأثرهم بمواضيع القصائد, منهم من يتأثر بالغزل, ومنهم من يتأثر بالرثاء ..... وهكذا ....

وسيدرك كل من يقرأ الديوان أن العاطفة فيه قوية بشكل عام.

 

2- المدخل اللساني Linguistic Trend:

 

إن النظرية الذرائعية تولي المدخل اللساني أهمية كبيرةجدًّا, إذ أنه يحوي كل الدلالات الحسية التي سنحتاجها في تقييم شاعرية الشاعر, وفي حساب الميل البراغماتي الذي يحدّد لنا مقدرة الشاعرعلى استخدام أدواته, وتمكّن الناقد من رصد التجربة الإبداعية للشاعر ...

والذرائعية تتعامل مع الألفاظ ( المورفيمات) بالسياق, إذا تضافرت المورفيمات فيه كسياق، وأعطت معنى منطقيًّا، قبله العقل وفسره تفسيرًا ذرائعيًّا (براغماتيًّا)، دخل حينها في حيّز اللغة الذرائعية (Discourse Language)، حينها يتفرّد الأديب بصناعة المفردات والجمل بشكل مختلف عن الإنسان العادي, فالأدب صنعة بلا أدنى شك, لا يستطيعها إلّا من ملك الموهبة ودعّمها بالثقافة اللغوية كتغذية راجعة, وثقافة عامة علمية وتاريخية واجتماعية وفلسفية بالاكتساب, والمطّلع على قصائد الشاعرة عبير العطار يجد ذلك واضحًا لا غبار عليه, مخزونها اللغوي ثري وتجيد توظيفه في أماكنه, تشهد عليها المحسنات البديعية والصور البيانية, والاقتباس من القرآن الكريم بما يكشف ضلوعها بعلوم القرآن الكريم فهى حائزة على إجازة بالتجويد, قصائدها وجدانية من عمق الفقد والألم والحنين كما أنها من عمق الحياة والتجربة, لذا لم تتورّع عن نقلها من غور النفس إلى سطح الواقع, لتكون في خدمة الإنسان والمجتمع, منضوية تحت نظرية (الفن للمجتمع).

وأبدأ دراسة الديوان لسانيًّا من:

 

· البناء الجمالي والبلاغي :

استخدمت الشاعرة المحسنات البديعية التالية:

الطباق : الكلمة وضدها

ليلك# نهار

أمامي# خلفي

الحزن# سعادتي

طول الأمل#عرض الحلم

شهيقًا # زفير

كر# فر

الأنا # الأنت

ابتداء# انتهاء

راغبًا# راهبًا

إقبال # إدبار

خيباتي# نجاحي

نهار#ليل

الترادف: اتفاق بالمعنى واختلاف في اللفظ

لا حدّ لحبّه ولا شبع

تعلو الروح وتسمو

تمرّ تعبر

 

الجناس: اتفاق في اللفظ واختلاف في المعنى

ما زلت أكون وما زال الكون

لتدمج أعراقي في أعماقي

اختيار اختبار

راغبًا راهبًا

استمالة استماتة

احتضان احتضار

النماء الانتماء

الإطناب: زيادة باللفظ بأكثر من عبارة

لا حدّ لحبّه ولا شبع ( إطناب بالترادف)

سكرة استمالة وسكرة استماتة

لا إقبال ولا إدبار في البوح

لا هي غرقت في الملكوت, ولا هي استكملت

لا تستفيق بالتكبير والتهليل

تعلو الروح وتسمو

حين تمرّ أمامي وتعبرني

الاقتباس: تضمين أبيات الشعر شيئًا من القرآن أو السنة

يهوون بشهب الظنون

موؤودة هي الشمس

الحزن يتلوني صلاة

لاعاصم لها إلا روحي المحلقة

لأقذفه في بحر الحوت

قبلة هو موليها

كالسابحات من شرائد الكون

تهبط عليك كسجيل

تميل كل الميل

معلقة روحها

أنزل علينا هدوءًا من السماء

كان لنا عيدا

لا تول وجهك لقبلة القلب سرَّا

عينان لم يرتد طرفهما

كلما دخلتَ المحراب دواءً, كلما تأوّهت الأوجاع عندك روحًا

لأقذفه في بطن الحوت

تتنزّل بصمتك مائدة رحمة

أتدثّر بعواطفك

 

· التكوين البلاغي والتنضيد الشعري:

من خلال معرفة القافية والجرس الموسيقي في القصيدة, واستخدام الشاعرللمحسنات البديعية والصور البيانية, واستخدام التشبيهات والاستعارات:

التشبيه :

هل كانت طيبة مثلك

هل كانت جميلة كما تجمّلت

لم آت كفكرة من البحر

فكما الحيرة ثكلى كان عمري المختزل

أشتاق لك اشتياق الوليد لأمه بعد الفطام

حين تمرّ أمامي وتعبرني كالنسيم

انتظرتك انتظارالنحل لرحيق الزهور

أبحث عنك كطفل أضاعته أمه وقت الهجير

يمارس أدوار الوسيلة والفضيلة كشيخ طريقة بسر دعائه يزول احتضاري

كسيف معلم كتابه امتلأ طلبًا وعلمًا

تشتبه بأوجاعي, كأنها كسرة روح أو مشاعر مقدّدة

الكناية :

كنت أعشق الأيام التي لم تولد بعد ( كناية عن المستقبل)

إني مهر الموت

تجاورك أنت النجوم

كنت الأماني المخبأة في البذور

 

الاستعارة :

لم يتنفّس عطري هذا الصباح

لم تشرق كلماتي

أظنه أهملني حين تيقن أنني والأرق تسامرنا دون انقطاع

لم تبتسم مرآتي أظنها حزينة

لم يفطم عقلي

لم يعل سقف غرفتي أظنه يخاف من فرط خيالاتي

لم تهدأ رئتي أظنها شاغبت نسيم الصباح وعاركته

لم ألمح ذاتي أظنها غادرتني لتنام في أحضان القبور

شاحب وجه الحب

كم شاخ عطري

ضحكت مرآتي

ألملم أوجاعك

أحتضن حيرتك

الحب يملأ شقوق النفس

أتدثّر بعواطفك

وبي لوعة تستجدي جسدي ألا يرتعد

الأمطار خنقت بسيلها وعاء الانتظار

مراعاة التنظير :ذكر الشيء وما يتصل به في المعنى من غير تضاد

تهمسني ليلًا, و أهمسك نهارًا, نهمس معًا للشمس

كلما دخلتَ المحراب دواءً, كلما تأوّهت الأوجاع عندك روحًا

 

3-المدخل السلوكي Behaviorism Trend:

تحرص النظرية الذرائعية على التحليل على المستوى السلوكي النفسي للثلاثي ( المتلقي والأديب والناقد) على حد سواء كون الأدب هو سلوك إنساني وأخلاقي وثقافي, وعلى هذا الأساس تقوم الذرائعية بالبحث عن جميع التساؤلات والإشكاليات والجدليات الاستفزازية, التي يرفعها الأديب في عمله الأدبي, وهذه التساؤلات والإشكاليات والجدليات تحتاج إلى إجابات أو ردود أفعال فلسفية أو سياسية ...إلخ, الذرائعية تدرس هذه الإجابات أو ردود الأفعال التي أتى بها الأديب , أو لم يأتِ, بل طرح تساؤلاته للنقاش مع المتلقي, هذه النقاشات مهمة ومفيدة جدًّا للمتلقي والمجتمع على حدّ سواء من خلال عناصرها :

- المحفّزStimulation : تساؤلات الكاتب التي تثير الناقد فيقبل على اختيار النص دون عن غيره من النصوص لمحتواه الأدبي أو الفلسفي أو الاجتماعي.

- الاستجابة Response: التقبّل الفكري والنقدي للناقد حين يقبل الاستفزاز والتحدّي, ويستجيب لرصانة النّص.

من هذا المنطلق قبلت الخوض بتفاصيل هذا الديوان, وقراري صائب واخترت الغوص عميقًا في خبايا النصوص, دون أن أشرح المعاني الظاهرة, بل الخبايا التي يختلف فيها النقاد الواحد عن الآخر.

سأعرض لبعض التساؤلات في النصوص:

في نص( حديث الوداع ): تسأل الشاعرة عرّافة:

 

ما بال الحكايا خلف نوافذ الحبّ

لا أسطّرُها جوارَ النجوم؟

ما لي أتفقّد ذاتي

يتساقط بعضي

كلّما أعادت الشمس

كتلتها حول الذهول؟

 

سؤال وجداني سار عبر التاريخ البشري, تتخفّى قصص الحبّ بمنطق ( العيب والحرام) وحقّها أن تكون وضّاءة كما النجوم.

ثم تنقلنا الشاعرة إلى صراعها الداخلي, بحركة مفاجئة تاركة لنا أن نربط ونستنتج, تعاني من تهالك الذات, ننظر إلى هذه الصورة التي لم أجد أجمل منها في وصف الموات النفسي أو الروحي, فأي عضو يموت يسقط عن أصله جذعه الحي, تردّ على السؤال بسؤال تضمّنه جوابًا عاجزًا, إذ لا يملك المذهول الذي يموت في ذاته كل يوم شيء جوابًا لأي سؤال حائر.

 

في نص (التلّة البعيدة): تساؤلات فلسفية حيرى, ممزوجة بالأسى, تنتصب الأنا غاضبة محتجة حينًا, وموجوعة لائمة حينًا آخر, تسأل باستنكار عن النتيجة, وتجيب بمقدّمات تستوجب نتائج مغايرة للمفروض والمنطق, لم تتحقّق المتراجحة :

 

على التلّة البعيدة

لم تأت الحكاية

كانت موعدًا لانتهاك الطريق

لتوقيت لم يصالحه الشوق

كيف كنتُ أنا؟

وقد حمّلتُ الريحَ

جناية وصايته

على موج البحر

لِمَ أنا؟

وما حمّلت الظنّ

فوق طاقة أبعاده

حتى تهاوى الاشتباك

 

هل هذه أنا؟

وما حمّلت الغيرة َ

أثقال نقصٍ في وزن ثقتي

 

وكيف أضحيتُ أنا؟

وقد استنفذ الوعد

فرصته بالتحقيق

 

لِمَ مرّة أخرى أنا؟

و قد علت أوجاعي

في عنق الوهم.

 

(في منتصف طريق الاشتياق) أسئلة تخاطب بها الطرف الآخر, أيضا بلوم وعتب أداته ( لِمَ):

 

لمَ تأتيني وقت انتصاف الحياة ليلًا

لِمَ تتعلّل بقوة تزيد معها تشتيت قلبي

وغياب الحنين الذي تعوّدت؟

 

وأسئلة مواجهة متلاحقة, ماذا و كيف و هل :

أجلس وحدي على مقهى الاختيار

لأسألني ماذا حلّبه

حين اجتزت مراحل الاختبار

كيف للأنين أن يكفَّ وللدمعة أن تختفي؟

هل ستأتيني راغبًا أم راهبًا

بين أذرعي؟

 

 

أما في القصيدة التي تحمل عنوان الديوان, كانت الأسئلة رقيقة برقة الروح التي تأخذ معها صورة ( سِلفي), أسئلة تعرّي داخلها لتكشف فيها عن جوهرها , القصيدة بمجملها تساؤلات وجدانية بشاعرية عالية جدًّا, وبشفافية مرهفة :

قصيدة( سيلفي مع الروح):

 

ماذا لو التقطت لنفسك صورة

" سِلفي" مع الروح

تُرى أستعجبك؟

ترى ماذا رأيت؟

من سيخبرك بما

تخفّى في ثنايا الروح من عذاب

من سيرسم مِسحة الحزن

من سيزيح طبقة الخوف

من سيعيد ترتيب الحروف

في قصيدتك المهجورة

من سيصير حتمًا أنت

روحٌ على روح؟

 

 

في ( نبرة آهة ) تدخل خضم متاهات الحياة فتسمع آهاتها وتسأل وتجيب عقب السؤال مباشرة:

لِمَ تطلق المتاهاتُ نبرة آهٍ حزينة

وكأنّما الودّ عاجلها بطلقة رحمة

 

وسؤال كبير آخر تطلقه عن ماهية الكائنات وأيها أولى بالرعاية:

 

أي الكائنات أولى بالرعاية

أوكان القلب كائنًا

قبل أن يموت بيدي؟

 

المدخل العقلاني Mentalism Trend:

نقصد به تجربة الأديب المكتسبة من الاتجاهات الأدبية الفكرية من قراءاته وثقافاته السابقة المتوازية, والتي أثرت على إنتاجه الأدبي بالتوازي أو بالتناص مع أدباء آخرين, مضافًا إليها إرهاصاته الإنسانية الحاضرة.

لقد تناصّت الشاعرة مع آيات كثيرة في القرآن الكريم, وذلك أمر طبيعي بالنظر إلى نشأتها الدينية, و بحكم دراستها الشرعية المتخصّصة, فهي حاصلة على دراسات عليا في تجويد القرآن من معهد الدراسات الإسلامية بالكويت1995.

أمرّ على بعض الجمل التي تناصّت فيها مع آيات القرآن الكريم :

يَنْذر نفسه نورًا ( قالت هيت لك)

في قصيدة (قلب كوني) تخاطب الشاعرة الكواكب والشمس والبشرية, توجه الخطاب بأفعال وألفاظ قرآنية من سورة ( المدثر, البقرة, الزلزلة, آل عمران):

أيتها الكواكب الحائرة

دثّريني بليلك المستيقظ

أيتها الشمس المشرقة على منبري

حذار أن تخطفك الأرض

لتدوري حولها

بعدما ملكتك بميثاق غليظ

أيتها البشرية لا تتصارعي

بين مثقال رحمة

وقناطير ألم مدمجة

وكذلك في (عزلة روح) نجد نفس الأسلوب المنبري المدمج بالتناص مع سورة الفجر:

يا أيتها النفس الهائمة

على وجه الحب ارجعي أو تشبثي

في قصيدة ( أنا وأنت) تقول متناصة مع الآية31 من سورة طه:

أسكن ظلّي

أحاول أن أعد5 بالرضا

ليعتدلَ واقفًا ويشدّ من أزري

في قصيدة ( رِدّة القلب) تقول متناصة مع سورة طه :

قد جئتني بقبسٍ من قلبك الوضّاء

وبماء روحك توضّأت روحي

 

في قصيدة ( أفعى ) تناصت مع سورة مريم:

جاءت مريم تخرس الألسن

واستُنطق الحق

حتى صلبوها

جلدوا أفكارها الخائنة

قطّعوا لحمها إربًا

أشعلوا النار في قلب خطيئتها

وجاؤوا بقبائل الكراهية

وماتت مذمومة مدحورة

تناصت مع سورة المائدة في قصيدة ( شقوق النفس):

كلّما ارتفع سقف الحب في القلوب

كلّما أُنزل علينا هدوءًا من السماء

وكان لنا عيدًا

 

تناصت مع سورة يونس في قصيدة (خلعتُ قلبي ):

أعود ثانية بقلبي الذي خلعته

لأقذفه في بطن الحوت

و أكتب وصية أفكاري

 

 

-المنظور الاستنباطي( التقمصي ) Inference and Empathy Trend :

وهو نقديًّا مجموعة العبر والحكم والمواعظ والدلالات الإنسانية التي نستشفها من جوانب القصيدة وأركانها التعبيرية أو السردية, ونقف طويلًا على تلك العبر, لنحدّد مقدرة الشاعر الفكرية والتعبيرية والعقلانية, وقد فاض الديوان بذلك وكأن الشاعرة تعتلي منبرًا وتلقي من عليه خطبة عصماء, تكرّرت فيها تعريفات حِكَميّة تلخّص تجربتها بالحياة, فعلى سبيل المثال:

في قصيدة (على متن الهواء) تعرّف المغادرة والألم :

فالمغادرة هي صمت الألم

وما كلّ القلوب تتوجع حدّ الموت

وما أيّ موت

يوجع الأرض التي تسكنها

تقول في ( شقوق النفس) في تعشيق رائع بين الحب والوطن:

لم يكن يعرف أن الحبّ مستقل ٌ بذاته

لا يعرف الانتماء إلا للوطن

والوطن للحب ليس فردًا بشرًا

لكنّه ما قد يتسع له

دون الشعور بالخوف أو بافتقاد الأمان

فالحب يملأ شقوق النفس

ليخفي أوجاعها

ويحيل سواد الروح

إلى شفافية ابتداء

في ( هشاشة روح ) تعرض للبدايات والولادات بنظرة منطقية صائبة تفرّق بدقّة بين المفهومين, البداية خيال جميل, وليست كلّ الولادات ذريّة صالحة:

تقنعني أن البدايات

هي مدخل لرائعة تصبّ في خيالي

وأن الولادات

لا تثمر أجيالًا طيبة بالضرورة

كما لا نستعير الآلام

من دفتر الزمن الحزين

لا أحد يستطيع محايلة القدر, كما لا أحد يقدر أن يخدع العقل النشط:

فلا تحايل على مجمل القدر ولا خديعة

في مستقر القلب ولا متاهة

لعقل يرفض ثوب الخمول

في ( نبرة آهة) تعطينا تصوّرها عن الحياة التائهة :

إن الحياة التي لا محور لها

كالسابحات من شرائد الكون

تهبط عليك كسجيل

توقد في قلبك نيرانا حمقاء

لا راحة مع مثاليات قلبك

ولا هدوء مع تندرات الأحزان

 

رابعًا- الخلفية الأخلاقية أو الثيمة : Moral background

وتمتاز كل النصوص و الأعمال الأدبية الرصينة برمتها على موضوع خاص يبنى عليه النص بشكل كامل، كأن يكون سياسي أو اجتماعي أو إنساني، يلاحق السلبيات ويثبت القوائم الأخلاقية في المجتمع، وذلك هو واجب الأدب والأديب الحقيقي الرصين، ويشترط أن يلتزم الأديب بقوائم الأخلاق والمثل الإنسانية العليا، ولا يحق له التعرض لمنظومة الأخلاق العامة، والأديان والأعراف والقوانين بشكل هدام، حيث يشترط أن ينضوي الأديب الرصين تحت خيمة الالتزام الأخلاقي الأدبي، ويخضع لمقومات مذهب التعويض الأدبي (doctrine of compensation)، وهذا المبدأ يفرض على الأديب الالتزام بالقواعد الأخلاقية المنظمة في المنظومة الأخلاقية العالمية، ولا يسمح -على سبيل المثال- أن يشيع في نهاية عمله الأدبي نفاذًا للمجرم من العقاب، أو ينزلق من طائلة القانون مهما كانت شدة ذكائه، أو يؤيد مصطلح الجريمة الكاملة، بذلك يساهم الأدب بإشاعة الفوضى والإرهاب في المجتمعات، وهذا منافي تماماً لأهداف الأدب الإنسانية السامية، بل يبحث عن ثغرة ليجعل الرجحان دائماً لكفة العدالة، ولا يجوز أن يتعرض نص من النصوص لكاتب في أقصى الشرق لعرف أو قانون يحكم، ولو مجموعة صغيرة من الناس تسكن في أقصى الغرب من المعمورة، لذلك يجب أن يكون النقد هو الحارس الأمين لتلك التجاوزات الأدبية الهدامة، التي تخترق بنية الأعراف والقوانين والأخلاق لعالمنا بكل طوائفه وأجناسه، ولا يعد أديبًا من يخترق منظومة الأخلاق والأجناس والطائفية، وينشر العداء والفرقة بين الناس...وكانت الشاعرة عبير العطار في ديوانها هذا أنموذجًا للالتزام المثالي بالمنظومة الأخلاقية, فهي رغم رتم الحزن وأحيانًا الغضب لم تخلّ بتلك المنظومة.

خامسًا- التحليل الرقمي الذرائعي الساند supporting digital analysis:

 

بعد أن انتهيت من تحليل الديوان عبر مباحث ثلاث، أسند تحليلي إلى جدار نقدي علمي قوي، أولاً أختبر هذا التحليل بجمع جميع الدلالات الحسية والأعمدة الرمزية وتحليلها (test)، ثم أحسبها رقميًّا، لأثبت رجاحة الدلالات ومفاهيمها السيمانتيكية والبراغماتية، وأقوم بموازنتها مع بعضها البعض بميل حسابي، ثم أحدد درجة الميل لكل واحدة منها ...

بذلك أكون قد أسندت آرائي النقدية رقميًّا و حسابيًّا، بأحكام رقمية بحتة لا تقبل الشك، بل تزرع اليقين لدى كل متلق وناقد، ومن خلالها نحدد هوية الكاتب وهوية النصوص ( تجنيس النصوص)، أي فعالية استنباط هوية الشاعر والقصائد أدبيًّا وإنسانيًّا وجماليًّا ودراسة عمقه الأدبي ودرجة انزياحه ورمزيته، الآلية تقوم على استخراج جميع الأعمدة اللسانية والدلالات الحسية وحسابها ودرجة تكرارها في النص، أو ما ينوب عنها من مرادفات ومعاكسات، وتحويلها إلى أرقام بطريقة حسابية .. وكانت النتيجة ما يلي :

الدلالات التشاؤمية: 216

الدلالات التفاؤلية: 98

الدلالات الرومانسية: 180

الدلالات النفسية : 164

الدلالات الفلسفية: 107

الدلالات الرمزية: 190

الدلالات الخيالية : 215

الدلالات الدينية : 100

المجموع : 1277

بالتقسيم على (13) عدد المئات حقل المجموع نجد:

إن درجة شاعرية الشاعرة هي 98%

وبتسلسل نسب الدلالات نجدها شاعرة رومانسية تسبح في خيالات كونية ونفسية بمسحة تشاؤمية طاغية نتيجة لظروف نفسية انعكست على أدائها الحسي, من منطلق الشعر مرآة الإحساس.

سادسًا – الميل الدلالي :Final Critic Rubric

الميل البراغماتي = 12,7 من 13

الشاعر بمقياس الميل البراغماتي شاعرة تملك العمق الأدبي والتكثيف بدرجة عالية, تستطيع بكلمات قليلة أن تعبّر عن فكرتها, معتمدة على التكثيف بالانزياح الخيالي والرمزي, لكن الانزياح الخيالي عندها أعلى من الرمزي. فهي تسوّق الفكرة عن طريق الصور أكثر من الرمز.

 

سابعًا- التجربة الإبداعية للشاعرة :

1-هي شاعرة رومانسية من الدرجة الأولى

2-تتعكّز على الخيال لتسير بعمق نحو المعاني الخيالية

3-تعتمد التكثيف في جملها الشعرية, لكن بميل نحو الخيال بعيدًا عن الرمز.

4-تفتقد الاقتصاد في مفردات التنصيص, وهذا يجعلها أحيانًا تنزع ثوب التكثيف, وترتدي ثوب الإخبار, باستخدام مفردات الإخبار كالدواخل النحوية( كان وأخواتها, إن وأخواتها) ودواخل الإضافة ( واو العطف وجماعتها), ولكن ذلك لا يؤثر في حلاوة التنضيد الشعري المتقن والموشّى بجواهر الإحساس والموسيقى, والذي يظهر كمعزوفة متقنة يعزفها راعٍ لشويهات بناي حزين, يجعل المتلقي ملتصقًا بقصائدها حتى النهاية.

5- استخدمت عبارات تحتمل نوعين من التمكين, التمكين الرمزي بالمنظور البراغماتي, والتمكين البلاغي التشبيهي والاستعاري بالمنظور السيمانتيكي, وبرعت بالتمكينين, ما جعلها تمتلك تكنيك الازدواج التعبيري, وهو تكنيك عبقري.

 

ثامنًا-الخاتمة:

وأخيرًا نصل إلى المحطة الأخيرة, ونسلّم الوديعة التي أمّنتنا عليها الشاعرة, ملفوفة بما تستحقه, ولعلها تستحق أكثر وأكثر, لكن هذا مبلغي من العلم, فأنا لست ناقدة في حضرة جهابذة الأدب, وإنما متذوّقة للأدب, صقلت الذرائعية ذائقتي وشذّبتها, وأتاحت لي الجلوس على منبر النقد هذا لأقدّم في حق هذا الديوان والشاعرة شهادة, عساها تشهد لي لا عليّ يوم القيامة, تحياتي لأستاذي عبد الرزاق الغالبي, مرجعي العلمي والمنهجي, وتحياتي للشاعرة العميقة عبير العطار, وتحياتي لكل من قرأ أو سمع أو حضر هذه الدراسة المتواضعة.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبير يحيي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/02/04



كتابة تعليق لموضوع : دراسة ذرائعية لديوان ( سِلفي مع الروح ) للشاعرة عبير العطار
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net