أبو ذر الغفاري جدلية الاشتراكية والعدالة الاسلامية

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ابو ذر الغفاري شخصية اسلامية مرموقة في  الوسط الاسلامي وتعتبر من الشخصيات  المؤثرة في المجتمع العربي والاسلامي في بداية تكوينه ،وهو ركن من الاركان الاربعة الذي قال فيه رسول الله (ص) :( مَا أظلَّت الخضراء ومَا أقَلَّت الغبراء أصدَق لهجةً من أبي ذرٍّ) هذه الشخصية المميزة التي اثارت  الكثير من الجدل في الدراسات الاسلامية فمنهم من تطرف في تقييمها  الفكري حتى جعلها اشتراكية بامتياز ، لأنه كان يدعي ان يشارك الفقراء اموال الاغنياء وكانت نزعته الفكرية تتمثل في اغاثة الملهوف ورفع الظلم عن الفقراء والمظلومين ، يقول طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى ) ( وكان ابي ذر الغفاري يتصعلك ) وذهب الزّركلي في ترجمة ابي ذر الغفاري الى انه كان من المؤيدين والمنظرين للاشتراكية  حيث يقول لأبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه( "فسَكن دمشقَ، وجعل ديدنَه تحريضَ الفقراء على مشاركة الأغنياء في أموالهم، فاضطرب هؤلاء، فشكاه معاويةُ رضي الله عنه (وكان والي الشام) إلى عثمانَ (الخليفة)، فاستقدَمه عثمان رضي الله عنه إلى المدينة، فقدِمها، واستأنف نشرَ رأيه في تقبيح منع الأغنياء أموالَهم عن الفقراء، فعَلَتِ الشكوى منه، فأمره عثمان بالرحلة إلى الرَّبَذَةِ (من قرى المدينة)، فسكنها إلى أن مات .

وكان كريمًا لا يخزن من المال قليلًا ولا كثيرًا، ولما مات لم يكن في داره ما يكفَّن به، ولعله أولُ اشتراكيٍّ طاردته الحكومات")[1].

والغريب بالأمر ان نجد البعض يعده من الاشتراكيين الاوائل وانه اول اشتراكي قبل ان يخترع ماركس نظريته ، وان الاسلام يحمل في روحه مبادئ الاشتراكية الشيوعية ، يقول جمال الدين الافغاني في ذلك ((أول من عمل بالاشتراكية بعد التدين بالإسلام، هم أكابر الخلفاء من الصحابة، وأعظم المحرضين على العمل بالاشتراكية كذلك من أكابر الصحابة أيضا )[2]

جاء ذلك نتيجةً لتلك المواقف التي اتخذها ابو ذر المنددة بالسياسة المالية لحكومة عثمان بن عفان ، تلك السياسة التي تناقضت مع جوهر الاسلام ومبادئه  الاساسية ،الاسلام الذي جاء بشعار العدل والمساواة ،والتي انتجت الطبقية ، وتفاقم ظاهرة الغنى والترف والبذخ والتوزيع الغير عادل واللامسؤول للمال مبتعدةً عن منهج الرسول الكريم (ص) ولم يألف المجتمع مثل هذه النتائج من قبل، ولدت هذه السياسة الحمقاء قيام معارضة متكونه من النخب التي تمسكت بالمبادئ والقيم الاسلامية واختارت المقاطعة والتصدي للانحراف الذي بدا ينخر في جسد الامه وكان من اقطاب تلك المعارضة هو ابو ذر الغفاري ( رض) ذلك الصوت المرتفع في وجه هذه السياسة واختار المواجهة والتنديد بما ارتكبه الخليفة عثمان في جعل المال دولةً بين افراد قرابته وعشيرته من بني امية ومن ناصرهم ووالاهم ، وكان يرد على من يعترض على موقفه هذا في توزيع المال وطريقة صرفه وتصرفاته بقوله (ان ابا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وانا احتسب في اعطاء قربتي )[3] وكان يقول لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفي وان رغمت انوف اقوام) [4] ولم يكتفي بهذا فحسب بل وصلت به الحماقة ان ينسب ذلك الى رسول الله ليظهر للعامة ان تصرفه هذا جاء متوافقا مع فعل رسول الله (ص ) وسياسته المالية نابعة من سياسة النبي وحجة يستند اليها كما روى الهيثمي في الزوائد والشيخ المفيد في الامالي وغيرهم ، يوم دعا ناس من اصحاب رسول الله (ص) وفيهم عمار بن ياسر فقال : اني سائلكم انشدكم الله هل تعلمون ان رسول الله كان يؤثر قريشا على سائر الناس ويوثر بني هاشم على سائر قريش فسكت القوم فقال لو ان مفاتيح الجنة في يدي لأعطيتها بني امية حتى يدخلوا من عندي اخرهم والله لأعطيتهم  ولأستعملهم على رغم انف من رغم )[5].

وقد زخر التاريخ بشواهد كثيرة على استئثارهم بالمال وسوء توزيعه نذكر منها الاتي  

1ـ حين فتح عثمان  افريقيا عام 27هـ  اعطى خمس غنائمها الى مروان بن الحكم وزوجه من ابنته ام ابان [6]، ثم اقطعه فوق ذلك فدكاً وهي كل ارث فاطمة ابنة النبي من ابيها [7] .

2ـ وهب الحارث بن الحكم صهره من ابنته عائشة مائة الف درهم من بيت المال بعد ان صرف عنه عبد الله بن الرقم ، كما اقطعه سوق ( مهروز) الواقعة في المدينة التي سبق ان اوقفها النبي ( ص) على الفقراء المسلمين ، كما اعطاه من ابل الصدقة [8] .

3 ـ كانت حول المدينة مراعي خضر اباحها النبي ( ص) لمواشي المسلمين جميعا فانتزعها عثمان من ايدي المسلمين ومن افواه مواشيهم وحماها وجعلها وقفا على ماشية بني امية وحدهم [9].

والادهى والاغرب من ذلك ان عثمان كان يحسب ان خزان بيت مال المسلمين هم خزان له ولعائلته هذا ما نقلته لنا الاخبار الموثقة كما حدث مع عبد الله بن الرقم خازن بيت المال عندما بعث اليه يوما قال اسلفني مائة الف الف درهم فقال له الارقم اكتب عليك بها صكا للمسلمين ؟ قال: وما انت وذاك لا ام لك انما انت خازن لنا ...[10] ) . هكذا كانت سيرة عثمان وسياسته المالية ومن الطبيعي ان يكون  عماله على شاكلته وانهم يرون ان المال مال الله وهم خلفاء الله ، يستأثرون به لأنفسهم وحدهم كما وصفهم امير المؤمنين بقوله (يخضمون مال الله خضمة الابل نبتت الربيع ...[11]

ابو ذر الغفاري الثائر المظلوم

سوء السياسة الادارية والمالية التي اتبعها عثمان في ادارة الامور افرزت نتائج خطيرة  على المجتمع المسلم كما اوضحناه من خلال النصوص التاريخية الموثوقة ،وولدت ردود افعال غاضبة ،وعدم رضا لكن كل هذا لا يكفي  في تصحيح المسار ة وارجاع الامور الى نصباها ، كان لابد من وقفة جادة وحازمة  تنطلق من  منطلق  الشعور بالمسؤولية وثباتاً على المبدء والعقيدة ، من هنا تصدى ابو ذر لهذا الانحراف الذي اريد له ان يتجذر وصرخ بوجه المستبدين وكانت  صرخة العدالة الانسانية وصرخة شرف النزاهة والعفة الاسلامية ووقف ذلك الموقف البطولي وهو لا يخاف في الله لومت لائم كما قال اوصاني رسول (ص) بان اقول الحق وامرني ان لا اخاف في الله لومة لائم وامرني بحب المساكين وصلة الرحم )[12] . كان يذهب إلى الخليفة ويقول له إنك أنت السبب في فقر الفقراء وغنى الأغنياء، إنك حميت الحمى وقربت  أ و لا د الطلقاء وإنك عبثت بأموال المسلمين ووزعتها على أقاربك وأعوانك والمؤيدين لك وحجبتها عن 

مستحقيها وكان يقعد في مسجد رسول الله ويحد ث بما فيه الطعن على بني أمية دون خو ف أ و وجل و لا ينفي مسؤوليته عن كل كلام قاله ولم يسمعه الخليفة مباشرة فحين كان يسأله عن ذ ل ك ك ا ن يجيبه بنعم أنا الذي قلت ذلك دون خوف وتردد كما حصل حين سأله عثمان يوماً "هل أنت الذي نقلت عن الرسول للناس إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا وعباده خولا ودينه دغلا" كان يجيب أبو ذر نعم أنا الذي نقلت ذ لك ومرةً دخل على الخليفة عثما ن وهو في مجلسه وبين يديه مير ا ث عبد الرحمن بن عوف ، فوجه الخليفة سؤالا لكعب الأحبار : (ان المال الذي أديت زكاته هل يخشى  على صاحبه ؟ )   

وكان الخليفة يقصد بذلك عبد الرحمن بن عوف ، فكان جواب كعب الأحبار: ب ( لا) ثم استرسل في الحديث وقال: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه ، فنهض نحوه أبو ذر وضربه بعصاه وقال له: يا ابن اليهودية أنت تزعم انه ليس عليه حق في ماله إذا أدى الزكاة والله تعالى يقول( َالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  ) وقوله تعالى  (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم ) وقوله تعالى š وقوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)  ثم قا ل : لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف وقد ينبغي لمؤدي الزكاة  أ لاّ يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات [13].

وبذات  المنهج واجه  التضليل الذي مارسه معاوية من اجل التستر على البذخ والثراء الذي يعيشه هو ومن حوله ومنع الفقراء من ابسط حقوقهم ،حيث اختلف هو وابو ذر في قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ فقال معاوية نزلت في اهل الكتاب  وقال ابو ذر نزلت فينا وفيهم ،وكان يحث الاغنياء على البذل والعطاء واداء حق الله من اموالهم  وصرفها على فقراء ومساكين المسلمين  وكانت النتيجة ان يضرب ويهان وينفى الى الربذة وحيداً غريباً

لم يكن ابو ذر اشتراكياً

من خلا ل هذه المواقف  الرافضة للاستبداد  والظلم  وجور الحكام التي وقفها ابو ذر الغفاري ومن خلا ل حثّه الفقراء على اخذ حقوقهم  وحث الاغنياء على  وجوب الانفاق ظنّ البعض انه يدعو الى الاشتراكية التي تعني الغاء الملكية الخاصة ، ولكن ابو ذر الغفاري لم يكن يدعي الى الغاء الملكية الخاصة كيف وهو العالم العارف بأحكام الاسلام الذي شرع حق الملكية الخاصة ووفر لها الحماية من خلال التشريعات والاحكام المتعلقة بالسرقة وتلك الحدود التي تقام على السارق ماهي الا تأمين للملكية الخاصة ، وتعتبر من ابرز مواضيع الاقتصاد الاسلامي هو الملكية الفردية فلم يكن ابو ذر يدعو في دعوته الى الغاء الملكية  بل كان يدعوا الى الانفاق من الموال المكدسة في بيت المال .

إن أبا ذر لم يكن يؤمن بوجوب إنفاق كل ما زاد على النفقة، ولا كان ينكر على الهيئة الحاكمة تملك الأموال.. ولا كان يدعو إلى التزمت وترك الدنيا، والإعراض عنها بحيث يضر بالعيش، وعمران الحياة.. ولا كان يدعو إلى الانفاق الواجب الزائد على الزكاة، مما لابد منه في السبيل الواجب وإنما هو يقول بجواز ملكية كل ما يأتي بالطرق المشروعة، بعد إخراج حقوق الله منه، من الزكاة والخمس، وما إلى ذلك، ولا يجب إنفاقه. ولكنه ينكر على الحكام، والولاة، وعلى معاوية والأمويين استئثارهم ببيت مال المسلمين، وانفاقه على شهواتهم، ومآربهم، ولذائذهم الشخصية، وحرمان الآخرين منه [14] . فحقيقة موقف ابو ذر هي من اجل العدالة الاسلامية والحفاظ على مبادئ الاسلام الحنيف .

واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين .

                                       سيد احمد الغياض   


ـ الاعلام 2/140[1]

 ـ الاعمال الكاملة للأفغاني ،ج1/170[2]

 ـ انساب الاشراف ،للبلاذري  6/ 133[3]

ـ تاريخ الطبري ،3/382[4]

 ـ مجمع الزوائد ، الهيثمي 9/292، وكذا الامالي ، الشيخ المفيد ص70ـ71[5]

 ـ الطبقات الكبرى ، ابن سعد ،3/64[6]

ـ  شرح النهج ، ابن اي الحديد ، 1/ 67[7]

 ـ  شرح النهج ،1/ 198 ،وكذا انساب الاشراف ، البلاذري  6/127 [8]

 ـ  شرح النهج 1/ 199[9]

 ـ الأمالي ، المفيد ، ص7 [10]

ـ  معاني الاخبار ، الصدوق ص361[11]

ـ الخصال ، الصدوق ص345[12]

 ـ معارضة ابي ذر الاهداف والغايات  ص19[13]

  ـابو ذر الغفاري / جعفر العاملي ، ص  13[14]


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/03/04



كتابة تعليق لموضوع : أبو ذر الغفاري جدلية الاشتراكية والعدالة الاسلامية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net