صفحة الكاتب : حيدر الحد راوي

رفيق البعث (قصة قصيرة) ح2
حيدر الحد راوي

هكذا مرت عدة ليال , كنا نعلم ان الرفيق ابو رضاب كان يجالسنا للتجسس لا غير , يبدو ان دوريات البعث الراجلة وضعوا علينا علامة استفهام , فكلفوه بذلك , هذه الليلة قررنا التدخل بالسياسة , واختبار غبائه البعثي العميق , وبعد أن اظهر ميلاً كبيراً نحوي , قررت ان أستهل كلامي غير المترابط عن النظريات السياسية والتيارات الفكرية , فتحدثت عن البلشفية والشيوعية والشعوبية والرأسمالية والاشتراكية والتقدمية والناصرية والطائفية والرجعية والشوفينية , كلاما غير متطابق , لا يفهمه العاقل .. ولا حتى الغبي البليد , لكنه لاحظ تأييد اصدقائي فوقع في حيرة من أمره , من جهة كلامي لم يكن صحيحا ولا سليما , فلو كان الامر كذلك لماذا تأييد الاصدقاء ؟! , وإن كان صحيحا وسليما لم لم يفهم منه شيئا ؟ ولم لم يستطع الربط ؟ , ثم تركت هذه التيارات جانباً وشرعت بمناقشة افكار مفكري البعث , فعرجت على ذكر ميشيل عفلق اولا , ثم الياس فرح ثانياً , واخيراً أكتفيت بشبلي العيسمي , الرفيق أبو رضاب هش وبش لسماع ذلك , رغم انه لم يفهم شيئاً , قررت ان استغل عدم فهمه لمناقشة مسألة مطروحة لدى الشيوعية , فقلت :
-    لو إن رأسمال المال استأجر عمالاً لبناء عمارة , بعد اكتمال بناءها فلنفرض ان كلفتها 20 مليون , يأخذ العمال اجورهم كاملة وينصرفون , ليس في ذاك مشكلة , المشكلة ان رأس المال سوف يستغل العمارة في التجارة , وسيجمع منها دخلاً شهريا بصفة ايجارات , بعد مرور 10 سنوات سيجمع منها اكثر مما أنفق على شراء الارض وكلفة البناء , مع العلم ان ثمنها سيرتفع ذلك الحين , وهكذا سيستمر راس المال بحلب الدخل الوارد من هذه العمارة الى أجل غير معلوم , النقطة هنا , ما ذنب العمال الذين بنوها وأخذوا اجوراً زهيدة وانصرفوا؟ , هل لهم حق في واردات تلك العمارة التي بنوها بسواعدهم؟! , لم يستفيدوا منها شيئاً بعد اكتمال بناءها , بينما رأس المال سيستمر بجني الارباح الطائلة منها , والتي قد تصل به حد الترف.    
كالعادة , تظاهر الرفيق أبو رضاب بالفهم وقال:
-    نعم .. ان رأس المال كافر!.
هذه هيه الجلمة الوحيدة التي استطاع النطق بها  , وشرعنا بمناقشة الموضوع , فتظاهر بالتعب والاعياء بسبب الواجبات الملقاة على عاتقه , وغادر متفضلا .. منقلعاً . 
ذات يوم , كنت عائداً من المعهد , وبينما كنت في زقاق ما , استوقفني صوتا اعرفه , الرفيق أبو رضاب , مبتسماً ضاحكاً , شرح لي انه لم يفهم شيئا من كلامي في تلك الليلة , بحثاً عن مخرج ورغبةً في التخلص منه , قلت له : 
-    ليس من الضرورة ان تفهم كل الكلام .. وكما قال السيد الرئيس القائد المناضل المهيب الركن الرفيق صدام حسين بتاريخ 15/5/1986اثناء لقاءه ببعض قادة وضباط الجيش (( لا تراجع والى الامام)) !. 
التواريخ غير صحيحة , وكذلك اللقاء المزعوم , لكني قلتها بحماس , كي يقطع بصدقي , ولا يتسرب الى مخيلته الشك , عندها لا يمكنه الاعتراض , فلا يوجد هناك من يمكنه الاعتراض على كلام السيد الرئيس القائد المناضل المهيب الركن الرفيق صدام حسين , ثم رفعت ذراعي اليمين في الهواء وصرخت بصوت متوسط (الى الامام) , لا ارادياً , رفع الرفيق ابو رضاب ذراعه في الهواء صارخاً بصوت مرتفع (الى الامام) , (الى الامام , (الى الامام) , وبصورة جنونية , الى درجة ان المنازل فتحت أبوابها , وخرج أصحابها ليستطلعوا الامر , فتجمهر الاطفال حوله , واحتفظ الرجال والشباب بمسافة منه , وكمنت النساء على ابواب منازلهن , الجميع يحدق به , والاطفال يضحكون ساخرين , بينما اخفى الرجال سخريتهم , الى ان بادر احدهم موجهاً كلامه للرفيق ابو رضاب : 
-    خيراً ابا رضاب .. ماذا حدث؟!. 
عندها توقف عن الهتاف , لكن ذراعه لا زالت في الهواء , حدق في الجميع , والتفت حوله , فلاحظ الحشد الجماهيري , أبتسم وقال بصوت منخفض (الى الامام) , وأنزل ذراعه , ثم شق طريقه بين الحشود الجماهيرية لينصرف مبتعداً , تلاحقه ضحكات الاطفال وقهقهات الرجال وسخرية الشباب .
ذات مساء , كنت لدى الخباز المصري الغشاش كي اشتري بعضاً من الخبز , فطلبت منه ثمانية أرغفة , وضعها في كيس بلاستك , فتحت الكيس لأعدها , فوجدت خمسة ارغفة فقط , هذه ليست المرة الاولى , بل يفعلها مع الجميع , حتى عرف بالغشاش والسارق وغيرها من الالقاب , وخسر الكثير من زبائنه , فجرى بيني وبينه شجاراً كلامياً , طلبت منه الارغفة الناقصة , فما كان منه الا ان يتهمني انا بسرقة الارغفة الثلاث واخفاءها في مكان ما , الى يميني لاحظت قدوم الرفيق ابو رضاب , فنظرت اليه وقلت له (سوف ألقنك درساً لن تنساه!) .
حالما وصل الرفيق ابو رضاب استوقفته , وقلت له: 
-    لا ينبغي بقاء المصريين في البلد ! . 
مندهشاً تساءل :
-    لماذا؟.
-    لأنهم يسيئون الى البعث ! .
قطب حاجبيه وبدت عليه علامات الانزعاج :
-    ماذا ؟ ... كيف ذلك ؟ . 
بدون اي تردد قلت : 
-    أنظر كيف يلفظون كلمة البعث . 
  فطلب من الخباز المصري ان يقول (بعث) , لم يكن بوسعه الا ان يرد على الرفيق ذو الرداء الزيتوني , فقال : 
-    بعس ! . 
الخباز المصري لم يفهم شيئاً , فنظرت الى الرفيق ابو رضاب وقلت :
-    هل سمعت ؟ .. قال بعس ... هل فهمت ؟! .. أليس ذلك معيباً؟!.  
  أحمر وجهه غضباً , ولاحظ الخباز المصري ذلك جيداً , أدرك ان مصيبة سوف تنزل على رأسه , لكنه جفل ولم يبادر لفعل شيء , بسبب عدم فهمه لما يجري , لكني لم اكتفي , فبادرت مردفاً: 
-    لا يقف الامر عند هذا فقط .. بل أنهم يسخرون من السيد الرفيق المناضل مؤسس الحزب الرفيق عفلق .. فلا يقولون عفلق ابداً .
-    ماذا يقولون إذاً ؟ . 
-    أسأله .. وانت تعرف . 
   توجه الرفيق ابو رضاب الى الخباز المصري طالباً منه ان يقول (عفلق) , جاء الجواب "عفلأ " , فقلت له : 
-    هل سمعت ما قال ؟ .. قال " عفلأ" .. هل تعرف ما معنى العفلأ في اللغة العربية ؟ .
-    ما تعني ؟!. 
-    العفلأ مرض يصيب أدبار الابل ... 
صرخ في وجهي ( كفى .. كفى ) , طبعاً المعلومة غير صحيحة , لذا لا تعولوا عليها , كل همي هو ضرب الاثنين , البعثي الغبي والمصري الغشاش , هدأ من روعه قليلاً , شكرني على تلك المعلومات , وأنصرف . 
نظر الي الخباز المصري قائلاً : 
-    انت عاوز توديني بداهيه .. طب خد التلت ارغفه .. ولا أئلك خد اربعة ارغفة مجاناً ... لا.. لا .. وكمان خد فلوسك مش عايزهم .. عاوز تخرب بيتي .. هو حيحصل أيه ؟ .. عملت ايه ياض .. خلصني الله يخلصك !.  
تناولت حقي فقط ورميت عليه النقود وانصرفت .
صبيحة اليوم التالي , خرجت من البيت متوجهاً الى المعهد , كنت لا أزال نعساً جداً , أفتح عيناً وأغلق الاخرى , فمررت بمخبز المصري , كنت قد أغلقت عيني اليمنى من شدة النعاس , وفتحت اليسرى كي أرى المخبز مغلقاً , بالكاد فتحت عيني معاً وحدقت في القفل , كان هناك شيئاً احمر عليه .
عندما عدت من المعهد , لاحظت دورية راجلة لرفاق البعث , كان معهم الرفيق ابو رضاب , ألقيت عليهم التحية الرفاقية , فرحب بيّ اشد ترحاب , وشرع يعرفني على رفاقه , ويعرفهم بي قائلا : 
-    أعرفكم بالرفيق الشاب الطالب المعهدي .. أنه يعرف كل شيء .. كل النظريات في العالم .. ويعرف كذلك الشيوعية والفلبشية والشعوبية وكذلك الشيمفونية وحتى المنفلوطية! .. كما وأنه يعرف الفريق المؤسس ميشيل عفلق والياس فرح وشبلي العيسمي!.    
 رحب بيّ الرفيق قائد الدورية بدوره , واستفسر ان كنت رفيقاً او احضر اجتماعات البعث في المعهد , اجبته بنعم , ودرجتي (نصير) , فبادر الى مصافحتي ومن ثم عانقني بحرارة , وكذلك فعل الرفاق الاخرون , وجرى بيننا بعض الكلام , في الواقع لم يفهموا شيئاً مما قلت لهم , فقد اتبعت نفس طريقتي مع الرفيق ابو رضاب في الكلام المموه والسريع احياناً , لاحظت انهم يحدقون في وجوه بعضهم البعض , وسمعت احدهم يسأل رئيس الدورية مستفهماً : 
-    رفيقي ... ماذا يقول ؟! .
-    حسناً .. انه طالب معهد يا رفيق ابو عروبة .. ومثقف جداً ... عقولنا لا توازي عقله .. فهو لازال فتياً .. على كل حال .. أتنبأ له بمستقبل زاهر. 
بعد أن انهيت كلامي , توجهت الى الرفيق ابو رضاب سائلا عما حلً بالخباز المصري , فأخبرني انه بطريقه الى مصر العروبة , حسناً .. الترحيل أفضل من الإعدام , فشعرت بالاطمئنان , قلت له عندها أحسنت صنعاً , هذا ما كان يجب فعله منذ زمن بعيد , ثم بادرت الى توديع الرفاق وانصرفت بهدوء , لكن رئيس الدورية يلاحقني بنظراته , وسمعته يقول : 
-    أخشى انه كان يسخر منّا ! .   

*** يتبع


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر الحد راوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/05/12



كتابة تعليق لموضوع : رفيق البعث (قصة قصيرة) ح2
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net