صوموا تصحوا .. الصوم وعلاقته بالصحة المعنوية والمادية
د . الشيخ عماد الكاظمي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . الشيخ عماد الكاظمي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الله تعالى كرَّم الإنسـان وخلقه في أحسن تقويمٍ قياساً لغيره من المخلوقات إذ كرَّمَه بالعقـل الذي هو أشرف شيء وأعظم، حيث به تُعرف حقائق الأمور وأسرارها، فكـان على أساس ذلك معرفـة الهداية والصلاح، ثم كرَّمه بعدها بوضـعِ أنظمةٍ وقوانين لها دور في المحافظة على فطرته السليمة التي خلقه عليها، وتحصينها من التلوُّثِ بالآثامِ والمعاصـي ومساوئ الأخلاق، فالشريعة المقدسة من خلال القـرآن الكريم والسنة الشريفة بيَّنتْ تعاليمها التي تحفظ بها كرامة الإنسان حيث قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ [آل عمران/73]، وقال تعالى: ﴿ِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَام﴾ [آل عمران/19]، فالدين بأنظمته وتعاليمه هو الكفيل الوحيد للحفاظ على هـذه المنزلة التي وضعها الله تعالى للإنسان، دون غيره من الأنظمة الوضعية التي نرى التناقض في مناهجها.
وقد تمثلت تلك التعاليم الإسلامية في أحكامها المقدسة من حيث الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحـة، فما مِنْ حكمٍ إلا وفيه التكامل للإنسان والصلاح المعنوي أو المادي، سواء في الدنيا أم الآخرة أم فيهما معاً ... ومن تلك الفرائض التي لها دور كبير في تحقيق تلك الغايات (الصوم) وما له من الأثر البالغ في المحافظة على الفطرة الإنسانية وتكاملها، ولذا نرى أنَّ الله تعالى قد شرَّعه على الأمم السالفة، وفي ذلك بيانٌ وتأكيدٌ على أنَّ أحكام الشرائع واحدة إجمالاً، وإنَّ غايتها هو الإنسان والحفاظ عليه من الزيغ والضلال، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة/183]، إذاً فليس "الصوم" فريضة عند المسلمين خاصة، بل كانت في الشرائع السابقة أيضاً، ومن خلال هذه الآية المباركة يتبين لنا إنَّ الصوم هو أحد الطرق الموصولة إلى تقوى الله تعالى وما لهذه المنزلة من تحصين الإنسـان عن كل ما يؤدي به إلى الأذى والضياع المادي والمعنـوي، ففي الصوم –وهو أحد تلك الفرائض– يتم المحافظة على ذلك التكريم، ولو أننا حققنا في الحديث الشريف (صوموا تصحوا) نرى تلازماً بين الصوم والصحة وعلاقة بينهما، فقد يسأل سائل هل المراد من هذه الصحة التي حبَّبَ إليها الصوم هي الصحة من الأمراض المعنوية؟
أم الأمراض المادية التي تصيب بدن الإنسان؟
أم كلاهما؟
إنَّ الحديث الشريف يهدف إلى الجانبين حتماً، ولكن بتفاوت من إنسانٍ لآخر، وبالتالي فهو علاجٌ وقائي لنفسِ الإنسان وبدنه من الأمراض والأعراض.
فمن الأول -الصحة من الأمراض المعنوية- إنَّنا نرى ذلك جلياً من خلال معرفة الغاية من تشريع الصوم وهو الإمساك عن المعاصي ورذائل الأخلاق التي يريد الشيطان بولايته أنْ يلوِّث النفس الإنسانية المُكَرَّمة، ولكن الله تعالى من خلال تكريمه يحافظ عليه من تلك الأمراض الفتاكة التي تهدم تلك الروح المقدسة التي هي من روح الله، فالقرآن الكريم يذكر إنِّ غايـة هذه العبـادة هو الوصول إلى منزلة التقوى (لعلكم تتقون) والابتعاد عن كُلِّ أذىً وإساءةٍ للإنسان، وكذا قد أكَّدت هذه الحقيقة الأحاديث الشريفة الواردة عن المعصومين (عليهم السلام)، حيث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: ((إنَّ الصيامَ ليسَ مِنَ الطَّعامِ والشَّـرابِ وحدهما، فإذا صُمْتُمْ فاحفظوا ألسنتَـكُمْ عَنِ الكذبِ، وغُضُّـوا أبصـارَكُم عَمَّا حرَّمَ اللهُ، ولا تَنازعُوا، ولا تحاسـدوا، ولا تَغتـابوا، ولا تـماروا، ولا تخـالفوا (كذباً ولا صدقاً)، ولا تسـابوا، ولا تشـاتموا، ولا تظلموا، ولا تسافهوا، ولا تضاجروا، ولا تغفلُوا عن ذكرِ اللهِ وعنِ الصلاة، والزموا الصمت، والسُّكوت، والصَّبر، الصِّدق، ومجانبة أهلِ الشَّرِّ، واجتنبوا قولَ الزُّورِ، والكذبِ، والفري، والخصومَةِ، وظَنَّ السُّوءِ، والغيبةِ، والنَّميمةِ، وكونوا مُشرفين على الآخرة...))، فلو أردنا أنْ نعرف حقيقة هذه الصحة المعنوية فلننظر إلى آثار هذه المعاصي على النفس وﭐبتعادها عن الله تعالى، حيث يقوم الصوم الحقيقي بعلاج هذه الأمراض، بل إننا نكون في ضيافته وما لهذه الضيافة من الآثار العظيمة كما ورد في خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((هُوَ شَهْرٌ دُعيتمُ فيهِ إلى ضيافةِ اللهِ، وجُعِلْتُم فيه من أهلِ كرامَةِ اللهِ)) فهذه لمحة قصيرة عن أثر الصوم في المحافظة على الصحة المعنوية للإنسان وفطرته وتكريمه.
وأما الصحة المادية لجسم الإنسان فنترك هذا الأمر لأهل الاختصاص لنرى كلماتهم في ذلك، لعل بعضاً يقتنع بهذه الكلمات أكثر من قناعته بكلام القرآن والسنة ! نذكر بعض الكلمات التي وردت حول ذلك ﭐعتماداً على كتاب (أسرار العلاج بالصوم) المترجم عن اللغة الفرنسية بعنوانLes surprenantes vertus du jeune) للكاتبة (صوفي لاكوست) ولننظر ما كتب في صفحات هذا الكتاب تقول: ((من حينٍ لآخر يحتاج الجسم لفترةِ ﭐستراحةٍ، فهو يحوي الكثير من الطاقة المخزونة ولكنه لا يملك الوقت المناسب لينقّـي ذاتـه، خصوصـاً أنه دائم الانشـغال في الهضـم، لماذا لا نوفِّر له هذه الاستراحة عبر الصوم الجزئي في بادئ الأمر "محاولة الاستغنـاء عن عشاء أو فطور" لست لا شخصـاً زاهـداً ولا حالمـاً فأنا لا أصوم بهدف الارتقـاء الروحي أو الوصول إلى حالة النرفانا، ولكنني ﭐقتنعتُ باختصارٍ عبر قراءتي والعديد من الشهادات التي سمعتها بأهمية هذه الوسيلة العلاجية للحصول على صحةٍ أفضل، فما كان مني إلا أنْ أجريتها فجاءت نتائجها مقنعة إذ أنها تعزز الطاقة الفكرية لا الجسدية فقط.. صِدقاً يستحق الصوم عناء التجربة، وأنا على اقتناعٍ بأنَّ الصوم ولو جزئياً بشكلٍ مستمرٍ يطيل أمد الحياة ويعزز الصحة الكبيرة)، وتتحدث الكاتبة عن آثار الصوم فتقول: (قام الدكتور هاربرت شلتون Herbert.m shelton الأمريكي في القرن الماضي بجمع كافة الأبحاث المنجزة حول الصوم بغية تحليها، وخلال ثلاثين عاماً من ﭐعتماده الصوم كعلاج للأمراض أشرف على (25) ألف صائم، وكانت فترات الصوم التي ينصح بها مرضاه تتـراوح ما بين (3) أيام وشهرين بحسب حاجتهم، ولكنه مَكَّن مئات الأشخاص من أنْ يصوموا ما بين (40-50) يوماً، وقد اثبت عبر تجربته تلك إنَّ الصوم لا يدرُّ على الإنسان سوى الفوائد إنْ تمَّت ممارستـه بتعقل وحكمـة، بالتـالي فإننـا لا نخسر شيئاً من عضلاتنا السليمة أثناء الصوم، بل نخسر الدهون المزعجة والمياه الآسنة وتلك الخلايا الخبيثة التي من مصلحتنا التخلص منها قبل أنْ تُنَظِّم نفسها وتتكاثر)).
* القدرات العقلية: تقول الكاتبة كثيراً ما يذكر المؤمنون بالصوم تأثيراته الروحانية على الإنسان، وربما يعود ذلك إلى أنَّ الصوم ينشِّط المادة الرمادية في الدماغ بعد أنْ ينظِّفَها من السموم التي تشكِّل عائقاً خفياً يعرقل وظائف الدماغ، وفي أواسط القرن العشرين حاولت مجموعة من طلاب جامعة شيكاغو دراسة تأثيرات الصوم لمدة أسبوع، فتابعوا دروسهم ومارسوا تمارينهم الرياضية كالمعتاد من دون أنْ يغيِّروا شيئاً من عاداتهم طوال ذلك الأسبوع، وخلال هذه الفترة القصيرة لاحظ أساتذة هؤلاء الطلاب تحسُّناً كبيراً في نتائجهم الدراسية، تم تكرار هذه التجربة مرات عدة فتبيَّن أنَّ هذا التحسين لم يكن وليد الصدفة، وأنَّ الصوم يطوِّر فعلياً القدرات العقلية.
* نوبات الصرع: أخضع الدكتور "شلتون" العديد من المصابين بالصرع للعلاج بالصوم، وقد أتى بنتائج جيدة إذ لم تعود نوبات الصرع بعدها إلا لاثنين من مرضاه، ولكن في مطلق الأحوال كان الامتناع عن الطعام منقذاً لهم، ويشرح الدكتور ويغر (Weqer) الأخصـائي في هذه المسألة أنه (من المعترف لدى الأطباء أنَّ معظم نوبات الصرع تتفاقم بسبب اضطرابات المعدة والأمعاء أو ارتفاع حموضة المعدة او التخمر المعوي وإنَّ أبرز مصادر التفاقم ذاك هو القولون) من هنا نستطيع إدراك أهمية الصوم في معالجة نوبات الصرع.
* إلتهاب المفاصل: يذكر الدكتور (Dr Bertholet) حالة الدكتور لويس ميلي بلان إنه كان يعاني من التهاب المفاصل، فاتبعَ علاجا لمدة (21) يوماً بإشراف الدكتور يرتولي، خسر بعده (10) كلغ من وزنه وأصبح يزن (69) كلغ بينما يبلغ طوله (1,71) وهذا وزن منـاسب .... ولم يعانِ في ما بعد من مشاكل في الهضم ومن الأوجاع التي عانى منها منذ طفولته.
* أوجاع الرأس: لقد صام المستشار الروسي الدكتور فون سيلاند (von seeland) في أواخر القرن التاسع عشر لمدة (36) ساعة أسبوعياً على مدى ستـة أشهـر، فتخلص من أوجاع الرأس التي كان يعاني منها منذ طفولته، وقال بعد هذه التجربة: (إنَّ أكثر ما أسعدني وثبَّتني على قراري في الصوم بانتظام هو الشعور الرائع بالارتياح والمزاج الجيد الذي يؤمنهما لي، فبعد كل فترة علاجٍ كنتُ أشعرُ بحيوية وتفاؤل فتىً في الخامسة عشر من عمره).
وأخيراً يقول الدكتور "برتولي" الذي أدار لمدة طويلة مركزاً للصوم على ضفة بحرة لمان (lac leman) وعرَّف مرضاه بفوائد الصوم على مدى أكثر من أربعين عاماً (إنَّ الامتناع عن الطعام لفترة طويلة بعض الشيء يريح الجسم قليلاً من عملية هضم المواد الغذائيـة ويسمـح بالتـالي للخلايا بتنقيـة ذاتها وطرد السمـوم التي تعيق عملها الطبيعي).
ويقول الدكتور أوسوالد (Dr oswald) الذي كان يعتمد العلاج بالصوم لشفاء مرضاه في أواخر القرن التاسع عشر: (تلجأ طبيعة الجسم عادة إلى القيام بعملية تنظيف عامة عندما لا تملك شيئاً لهضمه، وهو أمرٌ تتوق إلى القيام به تقوم بدراسة الأنسجة الزائدة وتحليلها فترسل تلك الصالحة منها إلى الجهاز الهضمي بينما نتخلص نهائياً من الفضلات الضـارة، خلاصةً إنَّ الامتناع عن تنـاول الطعام يتيح لجسمك القيام بعملية فرز، فيتخلص من الدهون الزائدة من دون أنْ يمسَّ العناصر والمواد الأساسية...)
فهذه بعض كلمات وشهادات الأطباء في أنَّ للصوم أثاراً ظاهرة في صحة الإنسان ودوراً كبيراً في تنقيـة البدن من آثـار الطعـام المستمر، لا نريد بهذه الكلمات الابتعاد عن الهدف والغاية الكبيرة والعظيمة للصوم بالالتزام بآثاره المادية على صحة الإنسان ولكن أردنا بيان بعض الجوانب المادية لهذه الطاعة، فإنَّ في تعاليم الشريعة المقدسة من الآثار الكبيرة التي لا تعرف إلا بالعلم والمداومة عليها والتأمل والتدبر.
نسأله تعالى أنْ يرزقنا طاعته ورضاه ويكتب لنا العافية والسلامة في الدين والدنيا إنه سميع الدعاء.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat