صفحة الكاتب : د . عباس عبد السَّادة شريف

رحلة في إيحاءات الوجع… قراءة في مقطوعة لحازم التميمي.. 
د . عباس عبد السَّادة شريف

 نعم سيبكي على أبنائه دجلةْ
على الذين مضوا في تلكم الرحلةْ

على المجاز الذي للان اسمعه
بأنْ يُقال َ لجرح ٍ مالح ٍ دولةْ

على جذوع ٍ هززناها ولا رطب
بالمعجزات وكم من مريم ٍ( حِبلة)

الى هناك ركضنا قال قائلنا
ما ثمَّ من عنب ِ فلترجعوا السلةْ

في التيه يصنعُ موسى جوعه قبساً
والسامريُّ بنى من جوعنا عجلَه

تلقّفتنا جهات ُ الواصلين بنا
وعذرهم اننا لا نعرف ُ القِبلةْ

صرنا وصاروا سليمانا وجحفله
لكن الى اين ماقالت لنا النملةْ

سبعة أبيات مثقلة بهم الوطن تحملها لغة حازم التميمي الذي عودنا على ملامسة أوجاع هذا البلد الجريح، ووجع العراق لا يمسه إلا المبدعون. 
وما زلنا نود الرحيل في سفينة الإيحاء الحازمي، فإن العدد سبعة للأبيات قدح في ذهني إيحاء لعجائب الدنيا السبع، فهل هذه السبعة من عجائب حازم التي بات صعبا عدها؟
لم تكن المقطوعة ذات عنوان، ويبدو أن حيرة الشاعر بما حوله ألقت بظلالها على نصه فأخرجته حائرا لا يدري ما اسمه، ولعل الحيرة هي اسمه. 
ابتداء من القافية التي جاء بها موصولة بالهاء وكأنك عندما تنطقها تتنهد بعد كثرة لهاث ليوحي بها للألم وسباق أبناء العراق معه. 
(نعم) حرف جواب لسائل مجهول، والسؤال مجهول أيضا ابتدأ به مطلع نص مجهول العنوان، وسرعان ما يبدد الحيرة صوت بكاء دجلة: 
نعم سيبكي على أبنائه دجلة
لكنه سرعان ما أدخلنا في حيرة جديدة، 
فما هو يا ترى السؤال عن بكاء دجلة؟ ومم يبكي دجلة؟ أيبكي من حاله إذ كشف الجفاف عورته أم يبكي للون الدم الذي ما زال يصبغ وجهه راسما لوحة عشوائية اسمها (سبايكر)؟ أم يبكي على ما حلَّ بالبلد الذي سقى خيراته قرونا؟
ومن أهم أبناء دجلة الذين يبكيهم النهر الغريب؟ أهم المرسومون على صفحات مائه الحاسر وجوها مثقبة الرؤوس؟ أم هم العاقون؟ الذين أغرتهم تفاحة السلطة فباعوا ماء وجوهمم قبل ماء دجلة فبانت سواءاتهم وسوءته وشتان بينهما. 
على الذين مضوا في تلكم الرحلة
من هم؟ وما هي الرحلة؟
لم يرفع هذا الشطر غموض أخيه فترك الحيرة تنساب في كلماته. 
ويخالف حازم هنا الجواهري في تذكير دجلة إذ أنثه الجواهري بقوله: 
حييت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين

وما دام دجلة يبكي والشاعر يريد وصف حال العراق المزري فإن التذكير أكثر دلالة إيحائية على شدة الحال وقسوة ما حلَّ به فالبكاء من الذكر أكثر إيحاء على شدة الألم.

على المجاز الذي للآن أسمعه
بأن يقال لجرح مالح دولة
(المجاز) مقابل الحقيقة، ومن إبداع حازم أن يجعل من المجاز مجازا جديدا، فعبر عن وصف العراق بالدولة بأنه مجاز موحيا باستنكاره أوضاع البلد والفوضى التي يعيشها وغياب النظام عن أكثر مفاصل الحياة فيه، لكنه لا يهجو العراق هنا، ولا يذمه وإن كان قاسيا في التعبير عن لواعجه وآلامه، وقد ألمح لحبه وطنه وتمسكه به في قوله: 
بأن يقال لجرح مالح دولة
(جرح مالح) إيحاء ثر مستعينا به بالثقافة الشعبية التي تعطي الملح قيمة معنوية في قوة الآصرة، والتمسك في العلاقة. 
وتستمر الثقافة الشعبية لديه في البيت الذي يليه إذ يوظف التعبير العامي (حبلة) وهي لفظة (مالحة) لمتذوق اللهجة العراقية أبدع الشاعر في توظيفها، والموالفة بينها وبين التناص مع القرآن، وما أبدعه نسج يمزج لغة القرآن عالية الفصاحة باللهجة العامية دون أن تختل لديه جزالة اللغة. 
ويبدو هذا البيت مكتنزا بالدلالات الموحية ابتداء من تكرار (على) ليربط هذا البيت بما قبله معلنا استمرار بكاء دجلة، إلى الجذوع التي تهز ولا رطب أفبخلت كريمة النخل في العراق أم أن الرطب رمز هنا للزراعة التي أيتمها جفاف دجلة، أم أنه يريد ضياع خيرات العراق وجوع شعبه، ذلك الجوع الذي صرح به في الأبيات اللاحقة.

إلى هناك ركضنا قال قائلنا
ما ثم من عنب فلترجعوا السلة

لعله يشير هنا من طرف خفي إلى قصة أصحاب المزرعة الذين حكى القرآن حالهم عندما عزموا على منع حق المساكين فأصبح زرعهم هشيما محترقا، فعادوا أدراجهم يتهافتون يلوم بعضهم بعضا، واختصر حازم القصة مستمرا بمزج التناص مع القرآن بالثقافة الشعبية عندما وظف متلازمة (السلة والعنب) المتداولة في الثقافة العراقية للدلالة على العودة بلا ربح، وتحصيل.

في التيه يصنع موسى جوعه قبسا
والسامري بنى من جوعنا عجله
تلقفتنا جهات الواصلين بنا
وعذرهم أننا لا نعرف القبلة

والسامري هنا إيحاء سهل ممتنع للدلالة على الذين سرقوا خيرات البلد، وعاثوا بمقدراته فسادا، وبنوا مجدهم الزائف، وأحاطوا أنفسهم بهالات من الألقاب الكاذبة وكل ذلك من جوعنا وبؤسنا فما أشبههم بالسامري وعجله. 
وهم يدعون الوصاية على هذا الشعب، وأنهم الأقدر على حفظ خيراته التي صدروها لأولياء نعمهم في الخارج، ولعل (جهات) إيحاء للدول التي صدرت لنا مئات السامريين، وصدروا لها ما صدروا من لحوم أكتافنا.

ويعود بنا حازم للتناص القرآني البديع ممتصا الفكرة بمعنى جديد فسليماننا ليس سليمان القرآن الكريم، وإنما سليماننا السامري نفسه بوجه آخر متلبسا التقوى، والحيرة هي الحيرة إذ لم تخبر النملة إلى أين. هكذا يختم ونختم بقوله:

صرنا وصاروا سليمانا وجحفله
لكن إلى أين؟ ما قالت لنا النملة


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عباس عبد السَّادة شريف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/08/18



كتابة تعليق لموضوع : رحلة في إيحاءات الوجع… قراءة في مقطوعة لحازم التميمي.. 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net