صفحة الكاتب : د . عادل البديوي

مقاود التغيير نحو الاصلاح...  تجربة تحت الانظار
د . عادل البديوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

كثير ما يترافق مع التغيير الفوضى، والتمزق، والتفتت، لاسيما في الدول الهشة، كالتجربة العراقية الوليدة، إن لم يحدد ذلك التغيير برؤية واضحة، وأهداف محددة، ووسائل ناجعة وفاعلة، والاهم قيادة ونخب واعية، تترجم التغيير إلى خطط  استراتيجية قابلة التنفيذ، وتنقل شعارات الإصلاح إلى واقع ملموس. فالتغيير ليس هدف بحد ذاته، وإنما مرحلة انتقالية لهدف اسمى ينشده المطالب به أو الباحث عنه، يسعى من خلاله إلى إصلاح المسار، وتطوير التجربة، وتعزيز الإيجابيات، وتجاوز السلبيات، لعبور أخطائها وأخطارها، وعيوبها وعوائقها، نحو مسار أكثر نضجا وتكاملا وعقلانية.
لكن ما هي شروط التغيير نحو الإصلاح في البيئة العراقية؟ للإجابة على ذلك، لا بد من الاعتراف أولا بان العراق دولة هشة، داخليا بانقساماته الأثنية والطائفية ، وخارجيا بالتدخلات الإقليمية والدولية، التي جعلت منه ساحة لصراعاتها، وتصفية لحساباتها، لذلك فان التغييرات الكبرى المفاجئة فيه، قد تقود إلى خطر الفوضى غير المسيطر عليها، والفوضى في هذه المرحلة الشائكة تقود إلى خطر الانقسامات الداخلية وأهوال الحرب الأهلية، والتجزئة والتفتيت، لذلك فان أي مسار نحو الإصلاح لا بد أن يكون مدروسا ومحسوبا، تدريجيا وتراكميا، مرحليا وجزئيا، لان أي نظام هو عبارة عن أجزاء وعناصر متفاعلة مع بعضها البعض الآخر، وان أي تغيير في جزء سيقود إلى تغيير مستوى ونوع التفاعلات أولا، والى تغيير باقي الأجزاء ثانيا، والى تغيير أداء النظام بشكل عام ثالثا. وعليه لا بد من البدء بأهداف جزئية لكنها مهمة وحيوية، تقود بمسيرتها إلى تحقيق الإصلاح الشامل ضمن رؤية واستراتيجية واضحة ومحددة. لهذا وقع الاختيار على خمسة مقاود مهمة وحيوية، إصلاحها سيقود بالضرورة إلى إنجازات تراكمية كبرى بدون المرور بخطر الفوضى هي:
أولا: المحاصصة الزبائنية:
قد يستغرب البعض عندما نقول، إن المحاصصة بحد ذاتها ليست مشكلة النظام السياسي العراقي، فالمحاصصة هي سمة من سمات الحكومات الائتلافية كما في دول العالم المتقدم مثل إيطاليا، المانيا، بلجيكا، وغيرها من الدول الديموقراطية، فعندما تأتلف هذه الأحزاب قبل الانتخابات أو بعدها لتشكيل الحكومة، تتقاسم فيما بينها المناصب والحقائب الوزارية حسب الأحجام الانتخابية التي حصلت عليها، لكن معضلة ومأزق العراق هي المحاصصة ذات الأبعاد الزبائنية، والأخيرة نظام سياسي-اجتماعي قائم على أساس المحسوبية، تسمح للزبائن والرعاة من الاستفادة من الدعم المشترك كونهم يوازون بعضهم البعض على الأصعدة السياسية والاجتماعية والإدارية المختلفة، تقود إلى الفساد السياسي والإداري والمالي وغيرها من أوجه الفساد، وتعرقل مؤسسات الدولة، وتخالف قيم الديموقراطية التي منها شراء الأصوات الانتخابية، وتسخير موارد الدولة للخدمات الشخصية. لتتمحور في عدة خصائص قائمة على أساس المنفعة المتبادلة للقائمين على السلطة، وانعدام التماثل والتكافؤ، والخضوع والتبعية بين الرعاة والعملاء مقابل الفوائد التي سيكسبونها. بمعنى أخر، إن الزبائنية تبنى على أساس هرمية النفوذ السياسي والمالي، والمقايضة والمحاصصة في السلطة لخدمة مصالح أصحاب النفوذ، لتكون أساس لكسب المغانم، كما تتيح تعبئة أنصارها من منطلقات زبائنية طائفية-عرقية بغية التصدي للمرشحين الأخرين.
فالزبائنية تعكس التداخل بين الانتماءات الفرعية، والسلطة السياسية، وإرادة تعطيل المحاسبة والمساءلة، لتكون نظام الإقطاعيات الطائفية والعرقية في العراق، وليكون الموقع السياسي أساس لجني وزيادة الثروات.
ثانيا: ثقافة المعارضة:
تقوم النظم الديموقراطية الحقيقية في جانبها السياسي على ركنين أساسيين، الأول يمثل من يشاركون في تشكيل الحكومة، والآخر يمثل جانب المعارضة سواء تحت قبة البرلمان أو خارجها، والتي تمارس دورها في الرقابة، والمحاسبة للأداء الحكومي، لتشخيص أخطاءه وتعزيز أداءه، وتقويم تجربته، أو أسقاطه بصورة سلمية اذا فشل في أداء مهامها. غير إن النظام السياسي في العراق يفتقد إلى ثقافة المعارضة، فالأحزاب والقوى السياسية المشاركة، تعتقد إن السلطة تتجسد فيمن يشارك ويشكل الحكومة فقط، وهذا الاعتقاد والممارسة افقد السلطة والنظام في العراق أحد أركانه الرئيسة الفاعلة، مما جعله جنين ديموقراطي مشوه وهجين، بين كل مشارك في الحكومة، وفي الوقت نفسه مشارك في المعرضة اذا لم تتحقق مصالحه الخاصة، ليجعل هذا الأداء من المعارضة والمحاسبة أداة للتصفيات والصفقات السياسية منها إلى المحاسبة والرقابة الفعلية.
 
 
ثالثا: النظام الانتخابي الأنسب:
ينبغي أن تعكس النظم الانتخابية البيئة التي تطبق فيها، فأي قانون هو تعبير عن حاجة أو مطلب في البيئة التي ولد فيها، وهذا ينطبق على القانون الانتخابي، فاختيار قانون انتخابي لا يتناسب والبيئة سيخلق (اغتراب انتخابي) بين ناخبين لا يعرفون تطلعات النواب وأحزابهم وكتلهم الفائزة، وبين برلمان وحكومة لا تعرف احتياجات الناخبين، فالنظم الانتخابية الفاعلة هي تلك التي تعبر عن امتزاج تطلعات القائمين على السلطة من جهة، واحتياجات ومطالب الشعب من جهة أخرى، هذا الامتزاج يعبر عنه باختيار النظام الانتخابي الأنسب، غير إن ما شهدته النظم الانتخابية في العراق، إنها بقت أسيرة تطلعات القائمين على السلطة، وأغفلت وأهملت عن عمد مطالب ورغبات الجماهير في اختيار نظامهم الانتخابي، مما انتج نظم انتخابية عرجاء، بجناح واحد، لا تعبر عن الواقع الفعلي أو تستجيب لرغبات الجماهير، وكان من نتائجه عزوف انتخابي كبير من قبل الناخبين وصل إلى اكثر من 60% في الانتخابات الأخيرة.
رابعا: فصل الجهاز الإداري عن السياسي:
في النظم الديمقراطية الراسخة، هناك فصل وحدود واضحة بين الجهاز الإداري في الدولة، والمناصب والحقائب ذات الصبغة السياسية، هذا الفصل بين المهام الإدارية والسياسية يجنب هذه البلدان الوقوع في براثن الزبائنية، والمحسوبية، والفساد السياسي والإداري والمالي من جهة، والاهم إن هذا الفصل يرسخ المؤسساتية في الدولة، ويعطي الزخم والديمومة للمؤسسات، والخبرة المتراكمة، والاستقلال من جهة أخرى، وهذا بجموعه يؤدي إلى أداء حكومي فاعل ومؤثر داخليا وخارجيا. غير إن هذا الفصل والحدود بين  السياسي والإداري في العراق مفقود، بل يكاد يكون معدوم، فالوزارة أو الهيأة تتقاسمها الأحزاب والكتل ضمن مفهوم المغانم، وهذا أدى إلى القضاء على المؤسساتية، وافقد الأخيرة ديمومتها وخبرتها واستقلالها وكفاءتها في تقديم السلع والخدمات إلى المواطنين، وما تردي الخدمات سواء في قطاع الكهرباء أو الصحة أو غيرها من القطاعات إلا نتيجة لهذا الخلط، والنتيجة الأكبر في ذلك افتقاد الرؤية والاستراتيجية في بناء المؤسسات أو الدولة نفسها.
خامسا: الكفاءة والولاء:
الأحزاب الفائزة في الانتخابات، تسعى للحفاظ على هذا الفوز وإدامته في الانتخابات اللاحقة، ويكون ذلك من خلال تقديم المنجز سواء في الحكومة بمجملها، أو في الوزارة التي استحقها حزبها، عبر اختيار الأشخاص الأكفاء المناسبين الذين سيطورون المؤسسات التي سينتمون لها ويعززون من فعاليتها، وبذلك تحقق هذه الأحزاب مصلحتين في آن واحد، مصلحة عامة من خلال الإنجاز الذي قدمته، ومصلحتها الخاصة عبر استخدام ذلك الإنجاز كدعاية لها، والأساس في هذه الرؤية هو أولوية الكفاءة قبل الولاء، غير إن ما شهدته العملية السياسية في العراق في إدارة مؤسسات الدولة، هي تقديم الولاء قبل الكفاءة، لذلك نرى الشخص الواحد يتقلد العديد من المناصب ويتنقل من مركز إلى أخر، والأغرب إن هذه المناصب التي يتقلدها ذلك الشخص هي متناقضة ومختلفة جذريا.
 
نستخلص مما تقدم، إن مقاود التغيير في العراق، وتقويم التجربة تتلخص بواقعية في الأداء السلبي لدى الكتل والأحزاب السياسية التي تتولى الحكم والسلطة، فالنقاط أعلاه وجدت اغلب الخلل هو في الأداء اكثر منها في التشريعات رغم نقص الأخيرة،  مما يحتاج منها مراجعة واقعية للنهوض بأدائها وتعزيز فاعليته، والا فان التجربة ذاهبة إلى فشلها، والأخطر في فشل التجربة هذه المرة هو الدخول في غيابة الجب التي لا منقذ منها.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عادل البديوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/10/06



كتابة تعليق لموضوع : مقاود التغيير نحو الاصلاح...  تجربة تحت الانظار
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net