السودان وسياساته الخارجية المتأرجحة
د. سعيد الشهابي

برغم الضعف الاقتصادي العام في السودان، الا ان احدا لم يتوقع ان تنفجر الاحتجاجات في مدنه بالحجم الذي حدث في الايام القليلة الماضية. فهذا البلد قد تقلص في مساحته الجغرافية وكثافته السكانية بعد تقسيمه في العام 2011. كما اكتشف فيه النفط قبل اكثر من عشرين عاما، ولكن فقد ثلاثة ارباع الانتاج النفطي بعد انفصال الجنوب.
يضاف الى ذلك ان حكومته غيرت سياساتها في الاعوام الاخيرة، واصبحت تقترب من المحور الأمريكي الذي يمثله التحالف السعودي ـ الاماراتي ـ الاسرائيلي في الشرق الاوسط. ومضى لأكثر من ذلك، فقطع علاقاته مع ايران التي كانت تعتبر الحليف الاساس لنظام البشير الذي رفع راية «تطبيق الشريعة» بعد انقلابه العسكري في العام 1989 وإسقاطه حكومة الصادق المهدي المنتخبة. مع ذلك ما يزال السودان مدرجا على القائمة الأمريكية للدول التي ترعى الإرهاب، برغم ان واشنطن خففت العام الماضي العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على السودان قبل اكثر من عشرين عاما. ويعاني السودان مما تعاني منه الدول التي تسعى لمسايرة الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تقبل بتنازلات محدودة، بل تطلب من الآخرين الاستسلام الكامل لها. وقد ابدى الرئيس عمر البشير استعدادا لتنفيذ اغلب ما تريده أمريكا بدءا باستهداف الحركة الإسلامية التي كان ينتمي اليها، مرورا بتقسيم بلاده وصولا للمشاركة في مسار التطبيع مع قوات الاحتلال الاسرائيلية.
وفي الاسبوع الماضي تردد ان السودان سيرفع الحظر عن الطيران الاسرائيلي وسيسمح له بعبور اجوائه للوصول الى عمق القارة الافريقية التي اصبحت مرتعا للدبلوماسية الاسرائيلية. وهذه خطوة لم تكن في الحسبان قبل سنوات. فالسودان، برغم بعده عن العمق الجغرافي العربي، كان يعتبر المدخل العربي الرئيس لافريقيا، وقد لعب دورا في العمل العربي المشترك وتناغم مع الاطروحات القومية والعروبية، وتأثر، كبقية الدول العربية، اولا بالمد الشيوعي وثانيا بالجوقة القومية العروبية وثالثا بالصحوة الإسلامية والإسلام السياسي الذي تمخض عنها. مع ذلك يتضح الآن ان هذا البلد الكبير بدأ يتصدع من داخله، تارة لاسباب سياسية وحزبية داخلية بحتة، واخرى بسبب الاختلاف مع الدول الجارة حول المياه خصوصا مع اثيوبيا، وثالثة لاسباب ناجمة عن تشبث الرئيس البشير بمنصبه وما يتطلبه ذلك من تنازلات للدول الاجنبية لتجميد مطاردته من قبل المحكمة الجنائية الدولية. واصبح واضحا كذلك ان مشاركة السودان الفاعلة في الحرب على اليمن بقيادة السعودية لم تشفع لهوان حكمه اصبح مهددا حقا.
على مدى ثلاثين عاما تأرجح البشير في سياساته الداخلية والخارجية، فعلى الصعيد الداخلي اختلف مع المرحوم الدكتور حسن الترابي، الاب الروحي للحركة الإسلامية التي كان البشير ينتمي اليها والتي كانت الجدار الذي استند اليه عندما نفذ الانقلاب، والتي كان عضوا فيها طوال شبابه. وبرغم حنكته السياسية وتجربته الطويلة، فقد أساء الترابي التقدير عندما دعم انقلابا عسكريا ضد حكومة منتخبة، فالعسكر لا يمثل خيارا لدعاة التغيير السياسي والديمقراطي. وفي الدول الحديثة يمنع العسكر من التدخل في السياسة ويفرض على القوات المسلحة حصر نشاطها بالدفاع عن الوطن والدستور والامن العام، وعدم الانتماء لأي من الاحزاب والحركات السياسية التي تصل الى الحكم.

وبلغ الاختلاف الى حد اعتقال الترابي عدة مرات منذ ان انفصل في 1999 عن حزب المؤتمر الوطني الذي يخضع لزعامة البشير، كان آخرها في العام 2011. كما احدث الرئيس السوداني قطيعة كاملة مع الحركة الإسلامية التي قادها الترابي حتى رحيله في 5 آذار/مارس 2016. وسوف يسجل التاريخ ان السودان قد تقسم في عهد الحكم العسكري الذي يقوده البشير منذ ثلاثين عاما، كما اصبح تحت حكم الرجل الواحد طوال هذه الفترة، وان السجون السياسية لم تغلق في عهده قط. وبرغم الطبيعة العسكرية للنظام الا انه لم يستطع الحفاظ على وحدة السودان، ولم يتمكن من اخماد تمرد الجنوبيين بقيادة جون قرنق الذي لقي مصرعه في حادث تحطم طائرة في 30 تموز/ يوليو 2005. كما ادت سياساته لحركة تمرد واسعة في اقليم دارفور نجم عنها جرائم حرب واسعة. صحيح ان الغرب وقف مع الجنوبيين عندما طالبوا بالانفصال عن السودان، باعتبار غالبيتهم من المسيحيين، ولكن ضعف الاداء العسكري والسياسي لحكم البشير ساهم في النهاية التي صدمت الكثيرين عندما تم تقسيم السودان باشراف دولي. وقد اتضح الآن ان الغربيين وقفوا مع البشير في استهدافه التمرد في دارفور، واستدرج لارتكاب جرائم ضد الانسانية ما تزال اصداؤها تتردد في مسامع الكثيرين.
اما على الصعيد الخارجي فقد سعى البشير ضمن استراتيجية مصلحية بحتة للبقاء في الحكم باي شكل. في البداية كانت علاقاته مع ايران حميمة لأن النظامين محسوبان على تيار الإسلام السياسي. وبرغم الدعم الايراني المادي للسودان الا ان طموحات البشير كانت اكبر من ذلك الدعم. وبقي السودان مهمشا على الصعيد العربي لأسباب من بينها حرب الجنوب ثم اضطرابات دارفور، وطبيعة نظامه وارتباطه بجماعة الاخوان المسلمين التي يمقتها التحالف السعودي ـ الاماراتي ـ الاسرائيلي. وربما كانت الحرب الاهلية في اقليم دارفور من كبريات الازمات التي واجهت الحكم العسكري في الخرطوم. فقد اتهمته الحركات السياسية والمسلحة بذلك الاقليم بتجاهل اقليمهم سواء على صعيد التمثيل السياسي في السلطة المركزية ام على مستوى الخدمات والتنمية. ونشبت حرب داخلية استمرت اعواما. وكان واضحا وجود بعد اخواني في ذلك التحرك، اذ ان حركة تحرير دارفور بزعامة خليل ابراهيم الذي قتل في احدى المعارك ثم استلم اخوه جبريل ابراهيم القيادة، حظيت بتعاطف من جماعة الترابي التي اتهمها البشير بدعم «التمرد». ايا كان الامر فقد نجم عن تلك الحرب الأهلية تطورات خطيرة واهتمامات دولية غير مسبوقة. فقد اتهم البشير بارتكاب جرائم حرب واصدرت محكمة الجنايات الدولية قرارا باعتقاله. وكان من نتيجة ذلك شعور البشير بالعزلة السياسية والاستهداف من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. واتهم نظامه بدعم الإرهاب وما يزال على القائمة الأمريكية للإرهاب. وكان واضحا ان الهدف من صدور الحكم بحق البشير دفعه لتغيير سياساته الداخلية وعلاقاته الخارجية. البشير استوعب الرسالة فبدأ بتغيير سياساته بما يحميه من طائلة العقاب الدولي.
المظاهرات الاخيرة لها رمزيتها الخاصة وانعكاساتها على النفسية السودانية بشكل عام. فهي تعبير عن سخط واسع لا ينحصر بالصعوبات الاقتصادية في بلد بلغت نسبة التضخم فيه اكثر من 50 بالمائة، كما انه صرخة من هذا البلد العربي المسلم للضمير الانساني والعربي والإسلامي لانقاذه من دوامة المماحكات السياسية الداخلية من جهة، والتأرجح السياسي على صعيد الخارج ثانيا، وركود العملية السياسية ثالثا. وفي وضع كالسودان الذي لم يشهد تداولا على السلطة منذ ثلاثين عاما لا يحتاج سوى لعود ثقاب لاشعال الوضع وانفجار الغضب الشعبي. وهذا ما حدث الاسبوع الماضي. ويتزايد الغضب العام في السودان بسبب ارتفاع الأسعار ومصاعب اقتصادية أخرى منها تضاعف أسعار الخبز هذا العام ووضع حدود للسحب من البنوك. ويبلغ معدل التضخم بالسودان 69 في المائة وهو من أعلى المعدلات في العالم.
ليس جديدا القول بان ارتفاع الاسعار بشكل مفاجيء في اي بلد من شأنه أحداث توتر في الاوضاع السياسية. وهذا ما حدث مؤخرا في الاردن وتونس. وما شهدته فرنسا هذا الشهر من اضطرابات بعد اعلان زيادة بعض الضرائب يؤكد حقيقة جوهرية وهي ان البشر يتحرك بدافع غريزي عندما تصبح مصالحه الحياتية مهددة. وهنا يكمن الفرق بين التحضر والتخلف. فالدول التي تتيح لمواطنيها مساحة من الحرية للتعبير عن الرأي والتجمع سرعان ما تسيطر على الوضع لأن المسؤولين يستقبلون الاحتجاج بمسؤولية ويعلمون ان الناخبين سوف يتخلون عنهم ان لم يكونوا «ديمقراطيين» في التعامل مع الحركات الاحتجاجية.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د. سعيد الشهابي

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/12/24



كتابة تعليق لموضوع : السودان وسياساته الخارجية المتأرجحة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net