صفحة الكاتب : د . عبد الهادي الطهمازي

الإسلام واستغلال الطاقة البشرية
د . عبد الهادي الطهمازي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يهتم الإسلام كثيرا بتنمية قدرات البشر سواء كانت روحية أم جسدية أم عقلية، واستغلالها بأفضل الإشكال التي تعود بالخير والنفع على الفرد وعلى المجتمع.
والطاقة البشرية التي أصبحت علما في عصرنا الحاضر معترف به عالميا ويدرس في الجامعات، وألفت فيه كتب وبحوث ومؤلفات، يقصدون به –الطاقة البشرية-: القدرة على بذل الجهد في انجاز عمل ما. وقد يعبر عنها باللغة العربية بالهمة والعزيمة وما شاكل ذلك من التعبيرات.
وعلم الطاقة الذي يتحدثون عنه اليوم موجود في كلمات آل البيت ع، غاية ما في الأمر أن التسمية أو المصطلحات تختلف فالروايات تسميها الروح بدلا من كلمة طاقة.
عن جابر الجعفي عن الإمام الصادق ع، قال: ((يا جابر إن في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس، وروح الإيمان –ويعبر عنه الآن بالطاقة الروحية-، وروح الحياة –ويعبر عنها حاليا بالطاقة الحركية- وروح القوة، وروح الشهوة –يعبرون عنها حاليا بالطاقة الجسمانية-))، وفي المؤمنين أربعة أرواح -يعني أربع أنواع من الطاقات- وهي الإيمان، والحياة، والقوة، والشهوة، والكافر فيه ثلاث طاقات، وهي: الحياة، والحركة، والجسمانية.
وعلماء الطاقة اليوم يقسمون الطاقة البشرية بنفس الترتيب تقريبا الى أربعة أقسام مهمة:
الأولى: الطاقة الروحيّة، والتي عبرت عنه الرواية بروح الإيمان.
وهي إحدى أهم أنواع الطاقة البشرية؛ وذلك لأنّها المسؤولة عن تغذية أشكال الطاقة الأخرى، وكلما كانت هذه الطاقة أعلى، كلما زادت قوةُ وقدرة الإنسان على القيام بأمور صعبة، أو تحمل أعباء شديدة قد لا يتحملها الإنسان العادي، أو من هو في ظروفه.
والأمثلة على استخدام الطاقة الروحية التي فجرها الإسلام في نفوس المسلمين كثيرة جدا، وهي أشبه بالمعجزات حققها المؤمنون بالله تعالى وفي ظروف استثنائية، منها على سبيل المثال:
1-حفر الخندق في غزوة الأحزاب، الذي بلغ طوله خمس كيلو مترات ونصف، وعرضه أربعة أمتار تقريبا، وعمقه ثلاثة أمتار ونصف، هذا الشق الطويل حفره المسلمون في ستة أيام فقط.
2-ومثال ذلك الصحابي الجليل زيد بن ثابت الذي طلب منه النبي الكريم محمد -صلّى الله عليه وآله وسلّم- تعلّم اللغة العبريّة، فتعلّمَها خلال واحد وعشرين يوماً فقط، وأتقنها تماماً كما لو كانت لغته الأمّ، وذلك يدلّ على قدرة ذهنيّة هائلة لا يمكن أن تتوفّر إلا إذا امتلك صاحبها قوّةً روحيةً قويّةً جداً تنبع من إيمان عميق بالله سبحانه.
3-ومن الأمثلة الواضحة التضحيات الكبيرة والعظيمة التي قدمها الإمام أمير المؤمنين ع، بدءا من مبيته على فراش النبي ص ليلة الهجرة، مرورا للجهاد المنقطع النظير في معارك الإسلام، وصولا الى قلع باب خيبر الذي عجز عن هزه أربعون رجلا.
والإمام ع نفسه يقول هذه الحقيقة في المأثور عنه: ((ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانية، ولكن قلعته بقوّة ربانيّة))، فالإمام ع يقول: لم أقلع باب خيبر بالطاقة الجسدية، بل بالطاقة الروحية.
هذه الطاقة يحرص الإسلام على استغلالها في البشر لخدمة الدين، وإقامة الشريعة، ومقاتلة الكافرين، وإعمار البلاد، وتنمية الانتاج الزراعي والصناعي والثقافي وغير ذلك مما يعود بالنفع على الإسلام والمسلمين،
والغذاء الأساس لهذه الطاقة هو: الإيمان بالله تعالى، والصبر، والعبادة.
فالمؤمنون رغم قلتهم ينتصرون على الكفار ليس بالكثرة العددية، ولا بسبب ما يملكونه من ترسانة عسكرية، بل لما يتمتعون به من روح الإيمان، قال تعالى: ((قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)). فالإيمان والصبر هو الذي أمدهم بهذه الروح التي صنعوا بها المعجزات في الحروب.
ولهذا أيضا إذا ضعف الإنسان المؤمن يحثه القرآن على الاستعانة بالصبر وبالعبادة ليزداد قوة وعزيمة، يقول تعالى: ((َاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)).
فالإيمان والصبر متلازمان؛ لذلك كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، والإنسان إذا لم يكن مؤمنا بعدالة قضيته فإنه لن يستطيع أن يبدع فيها، وإن لم يكن لديه صبر لا يستطيع أن يؤدي تكاليفه الشرعية.
فطاقة الإيمان أو الطاقة الروحية عندما تكون عالية يصنع الإنسان بها المعجزات
ومن شواهد ذلك في عصرنا الحاضر: زيارة الأربعين حيث ترتفع طاقة الإيمان في نفوس أتباع البيت ع فيواصلون العمل الليل بالنهار لخدمة الزائرين والسهر على راحتهم، وأغلبهم من الشباب، وهؤلاء الشباب هم أنفسهم الذين ينامون في الأيام العادية حتى الساعة الواحدة ظهرا.
لكن في أيام الزيارة تراه ينهض في الساعة الرابعة فجرا، وسر هذا التحول هو زيادة الطاقة الروحية.
بعض المؤمنين طاقتهم الروحية أو الإيمانية عالية، فتراهم رغم كبر سنهم يحضرون الصلوات في المساجد، ويحضرون مجالس الوعظ والإرشاد، بينما هناك الكثير من هم أقوى منهم في صحة البدن، ولكن يتعذرون بحجج واهية عن عدم الحضور لصلاة الجمعة أو الجماعة، والفرق بين هؤلاء وأولئك هو وجود الطاقة الإيمانية عند هؤلاء، وضعفها عند أولئك.
وأما المصدر الآخر الذي يزود الإنسان بالطاقة الروحية أو الإيمانية: فهو العبادة والارتباط بالله سبحانه وتعالى، لأن العبادة تمد الإنسان بالعزيمة، والشعور بالقوة والرضا عن الذات، كما يشعر بالقرب من مصدر القدرة في هذا الكون أعني الله عز وجل.
أما مصدر تدمير هذه الطاقة فهو الذنوب، لأن الذنوب تعمل بفعل عكس فعل العبادة، حيث تبعد الإنسان عن مصدر القدرة والقوة في الكون، وتحبط الإنسان معنويا، لهذا يقول علماء الطاقة البشرية أن الذنوب هي مصدر تدمير الطاقة الروحية.
وفي الروايات ما يدل على هذا المعنى، ففي جريمة الزنا يقول النبي ص: ((إذا زنى الرجل ذهب منه روح الإيمان))، فكلما ارتكب الإنسان ذنبا ضعفت طاقته الإيمانية حتى تتلاشى.
الثانية: الطاقة الذهنيّة أو الفكرية
وهي غير مذكورة في كلام الإمام الصادق ع المتقدم (الأرواح الخمسة)، لكنها مذكورة في موارد أخرى خصوصا في الباب الأول من أصول الكافي، وسنذكر بعضها حسب الحاجة إن شاء الله.
إن الإنسان لا يستطيع أن يفعل أي شيء من دون وجود فكرة في عقله، ويتخذ القرار المناسب إزائها، ثم تصدر أوامر من العقل الى العضلات أو الى طاقة الحركة بتعبير معاصر للتنفيذ.
فأنا وأنت وكل إنسان لا يستطيع أن يحرك رجله بالمشي ما لم يصدر أمر من الدماغ الى ذلك العضو.
فتسبق كل الحركة عملية تفكير في الموضوع، ثم اتخاذ القرار، فعندما يريد أن يأتي شخص الى المسجد تدور في رأسك فكرة أولا، وهي الحضور للصلاة والاستفادة من الخطبة مثلا، هذه الفكرة تصبح موضع إرادة له، ثم تصل الى مرحلة التنفيذ، فيأمر العقل العضلات والأعضاء بالتحرك، وهذه الحالة تحدث عندنا بشكل اوتوماتيكي لا نشعر بها، فالطاقة الذهنية أو الفكرية هي التي تعطي الأوامر للطاقة الجسمية بالحركة.
فالفكرة هي التي تغذي الحركة، ولا يمكن أن يتحرك الإنسان من دون وجود فكرة مسبقة، وإلا فإن حركته تصبح بلا هدف ولا معنى.
عن الصادق ع: ((العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا)).
إن في عقل الإنسان أعمالا جبارة لا نشعر بها، فالمخ يحتوي على (150) مليار خلية عقلية تؤدي أربعة وظائف: إدراك الأشياء، وتحليل القضايا، والمقارنة بين القضايا، واتخاذ القرارات في ضوء الفكرة....
وهذه النتيجة التي توصل إليها العلماء في عمل العقل موجودة في كلمات آل البيت ع أيضا، يقول الإمام الصادق ع: ((خلق الله تعالى العقل من أربعة أشياء: العلم –يعني الإدراك-، والقدرة والنور. –يعني تحليل القضايا والمقارنة بينها-، والمشيئة –يعني اتخاذ القرارات-)).
وفي الحديث عن النبي ص: ((العقل نور في القلب، يُفرَّق به بين الحق والباطل))، يعني باستطاعة العقل أن يعقد مقارنة بين الأشياء فيفرق بذلك بين الحق والباطل والصحيح والفاسد.
لذلك اعتبر الإسلام العقل شيئا مهما وبل مقدسا لا ينبغي أن يلوثه الإنسان بأمور تافهة أو لا قيمة لها.
وأهم مصادر هذه الطاقة يعني الطاقة الذهنية هي القراءة والعلم، وأهمّ مصادر استهلاكها عدم التفكّر، وإهمال العقل، والجهل بأشكاله المختلفة، واتباع الهوى.
الثالثة: الطاقة الجسديّة
وهذه الطاقة هي المسؤولة عن القيام بالحركة الجسديّة التي تعينُ الإنسان على تحقيقِ ما يريد من أشكال الحركة المختلفة من مشيٍ، وركض، وقيام، وجلوس، والعمل وغيرها الكثير.
وهذه الطاقة مهمة أيضا في العمل والانتاج، والإسلام يدعو الى استغلالها خصوصا عند الشباب، وينهى عن الكسل والتقاعس، ففي الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((عدو العمل الكسل)).
وأهمّ مصادر هذه الطاقة الأكل الصحي، والنوم الكافي للإنسان، وأن يكون الطعام من حلال لا من حرام، فإن استهلاك المال الحرام يبعث على الكسل وعلى البطنة، واضطراب الحركة، يقول تعالى: ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)).
الرابعة: الطاقة العاطفية
وهي من الطاقات المهمة في الإنسان، والتي يجب أن تستثمر في نظر الإسلام بشكل صحيح يعود بالنفع على الفرد وعلى المجتمع.
وعلى سبيل المثال من أوضح مصاديق الطاقة العاطفية: الحب، والذي يأمر الإسلام أن يستثمر في موارده الصحيحة، فلا تمنح طاقة الحب لمن لا يستحق، بل يجب أن يستثمر الحب في محبة الله تعالى، ومحبة النبي وآل البيت ع، ومحبة المؤمنين، ومحبة الأعمال الصالحة.
عن بريد بن معاوية العجلي قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام، إذ دخل عليه قادم من خراسان ماشيا، فاخرج رجليه وقد تفلقتا وقال: أما والله ما جاءني من حيث جئت الا حبكم أهل البيت. فقال أبو جعفر عليه السلام: والله لو أحبنا حجر حشره الله معنا، وهل الدين الا الحب!؟ ان الله يقول: ((قل ان كنتم تحبون الله)). وقال: ((يحبون من هاجر إليهم)) وهل الدين الا الحب)).
فالطاقة العاطفية يجب أن توجه في نظر الإسلام الى من يستحقها، ولا تصرف الى من لا يستحقها من مطربين ولاعبين فساق أو كفار وغير ذلك.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبد الهادي الطهمازي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/12/31



كتابة تعليق لموضوع : الإسلام واستغلال الطاقة البشرية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net