صفحة الكاتب : د . حميد حسون بجية

قراءة في كتاب الفروق الدلالية في الأسلوب القرآني تأليف: الدكتور حسين عودة هاشم
د . حميد حسون بجية

 

         كلية التربية| جامعة البصرة

الطبعة الأولى 2013 م- 1434 هـ

دار ومكتبة البصائر| بيروت| لبنان

   لا يمكن الوصول إلى الدلالة القطعية للنص القرآني. فدلالته ذات طبيعة متعددة، الأمر الذي أدى إلى تعدد الدراسات القرآنية، فمنها الفقهية والأصولية والتفسيرية واللغوية، وهذه الأخيرة هي الأخرى ذات مسارات متعددة، فمنها الصوتية والصرفية والتركيبية والمعجمية.

   ولكثرة الأمثلة في الكتاب وضيق المجال، ستكون اختياراتنا محدودة. ففي الفارق الدلالي على وفق المستوى الصوتي، للتنوع الصوتي في القرآن الكريم أسلوب متميز في تناسب بعضها مع بعضها الآخر. فتلاءمت الأصوات القرآنية مع محتوى السور والآيات واختلاف أحوال المخاطبين. فمثلا كلمة (بكة) التي تشير الى (مكة)، فثمة من قال أنهما تدلان على معنى واحد. ومنهم من ذهب مذاهب شتى في التفريق بينهما. لكن الكاتب يذهب إلى أن البك في هذا السياق أكثر تناسبا من المك. فالبك يوحي بالازدحام الشديد(لأن الباء صوت انفجاري مجهور شديد...)، بينما المك يوحي بانفراج الزحمة عندما ينصرف الناس لأن الميم، رغم أنه مجهور أيضا، لكنه(لا هو بالشديد ولا بالرخو). وهذا يؤيد ما ورد من أن (بكة) موضع البيت، ومكة ما سوى ذلك.

   وثمة فروق دلالية في المبحث الأول على المستوى الصوتي يذكرها المؤلف مثل: (هز وأز، يصرخون ويصطرخون، صبر واصطبر، الوسيلة والوصيلة، الصراط والسراط، بسطة وبصطة، الجفاء والجفال، نضاختان ونضاحتان، شغف وشعف، سكت وسكن). وفي المبحث الثاني من نفس المستوى، وبعنوان(اختلاف الفاصلة لاختلاف الموضوع)، يذكر سورة (ق) وسورة الفجر وسورة العاديات.

 وفي القرآن الكريم ثمة ظاهرة، ألا وهي الوصف بالمصدر. ومن اللغويين من يعتبر المصدر جامدا ولا يمكن الوصف به، وبدلا من ذلك يؤولونه بمشتق. ومنهم من عده مشتقا ويجوز الوصف به. فمثلا قوله تعالى في الآية 18 من سورة يوسف: (وجاؤوا على قميصه بدم كذب)، قدر اللغويون أن المقصود هو (مكذوب). لكن الظاهر من النص غير ذلك. فقد أراد تعالى الكذب بعينه. ويقول الزمخشري أنه عبر بالمصدر للمبالغة. فقد تمكن منهم الكذب فأصبحوا كأنهم جزء منه, فلو قال مكذوب لكانت صفة للدم فقط. لكن المقصود أنهم كانوا كاذبين في كل شيء: بدءا من اصطحابهم ليوسف ورميه في الجب. ومن الأمثلة الأخرى كلمة (غور) بدل (غائر) في الآية 30 من سورة الملك.

     وبخصوص ظاهرة التعريف والتنكير، فقد استخدم القرآن الكريم تلك الظاهرة على أدق وجوهها. وقد نظر علماء اللغة عندها، فأدلى كل بدلوه. ولنأخذ الآية 30 من سورة الأنبياء: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) حيث وردت مفردة الماء معرفة. مقابل ذلك، قال تعالى في الآية 45 من سورة النور: (والله خلق كل دابة من ماء) وردت نكرة. فلا بد أن تكون للماء الوارد في الآية الأولى خصوصية تختلف عن تلك الواردة في الآية الثانية. فقيل أن التعريف في الأولى جاء (لإفادة أن المسند إليه هو الحقيقة نفسها)، فالماء هنا مبدأ كل شيء حتى جنس الماء. أما في الآية الثانية، فقد جاءت منكرة (لأن المقام مقام إفراد وتشخيص وتنويع). فقد أراد بذلك نوعا من أنواع الماء الخاص بتلك الدابة، وهي النطفة، وليس كل الماء. أي أن التعريف كان فيما يتعلق ببيان أساس الخلق، فأراد بالتعريف التعميم. لكنه أراد بالنكير التخصيص. وهكذا الأمر في الآية 5 من سورة الحج: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت)، والآية 22 من سورة البقرة: (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)، ومثلها الآية 32 من سورة إبراهيم. وهكذا الأمر مع (الرسول) و(رسول) و(الحياة) و(حياة)و(النار) و(نار) وغيرها. 

    وفي التذكير والتأنيث، جاء الذكر الحكيم مخالفا لما يقوله النحويون واللغويون. بيد أن القرآن الكريم أورد نفس المفردة مذكرة مرة ومؤنثة مرة. وخير مثال مفردة(الريح).  فهي مذكرة في الآية 22 من سورة يونس: (هو الذي يسيركم في البر والبحر....جاءتها ريح عاصف...). وفي الآية 81 من سورة الأنبياء، وردت مؤنثة (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره...). ويقول اللغويون والنحاة أنها مؤنثة على اللفظ ومذكرة على المعنى. لكن السياق القرآني ميز بين نوعين من الرياح: الطيبة  والعاصف، فقال اللغويون أن القرآن يستعمل (الرياح) لأمر سيء والريح لأمر حسن. وفي ذلك إلماح للفرق. على أن الريح عندما تكون مذكرا، فيراد بها الشر، وتكون مؤنثا فيراد بها الخير. وهذا ما يسير عليه القرآن الكريم في آيات من مثل: (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا)(فصلت| 16) وهي تدل على الهلاك والموت. وقوله (ولسليمان الريح عاصفة...)(الأنبياء| 81)، فهي ريح طيبة تحت إمرة سليمان(ع).    

    وفي المجال التركيبي، هنالك من الفروق الدلالية الكثير. ففيما يخص الجملة الاسمية والجملة الفعلية، فقد اهتم النحاة بتقسيمات الجملة، لكنهم (لم يشيروا إلى الفروق الدلالية بين الاثنين الأمر الذي أشار إليه البلاغيون والمفسرون). فعند البلاغيين والمفسرين أن (الجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد والجملة الاسمية تدل على الثبوت). فمثلا الآية 142 من سورة النساء: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا)، فقد عبر عن أعمال المنافقين بالجملة الفعلية (يخادعون، قاما، يراءون، يذكرون)، وهذا دلالة على أنهم متبدلون في علاقتهم مع الله وموقفهم من بعضهم. لكنه عبر عن موقف الله منهم، عبر بالجملة الاسمية(وهو خادعهم) الدالة على الثبوت. وفي الآية 28 من سورة المائدة: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)، فعبر عن موقف قابيل بالجملة الفعلية(بسطت) وعن موقف هابيل بالجملة الاسمية(ما أنا بباسط)، فكان موقف قابيل مبنيا على الانفعال الغرائزي وليس له مرتكزات عقائدية ثابتة، لكن موقف هابيل كان له نصيب كبير من تلك المرتكزات.             

     وفي مجال التغير النسقي في النص القرآني، يتطرق الكاتب إلى الكثير من الحالات. منها التغير النسقي في قرينة الإعراب. فالنص يأتي دائما على نسق تركيبي واحد تحدده العلاقات التركيبية، فمثلا المعطوف يتخذ نفس الحركة الإعرابية للمعطوف عليه ان كان مرفوعا أو منصوبا أو مجرورا، والصفة تتبع الموصوف، وإلى ما غير ذلك. لكن السياق يأتي أيانا مخالف لكل هذه الضوابط الإعرابية. فمثلا الآية 162 من سورة النساء: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما). فالنسق السياقي لهذه الآية هو الرفع لاعتماده على العطف والمعطوف. لكن النص قطع ذلك بالنصب(والمقيمين الصلاة) ثم عاد إلى الرفع ثانية. فقال النحاة من بين أقوال أخرى أنه نصب على المدح أو أنه معطوف على الكاف في (من قبلك) أو في (إليك). لكن كل تلك التأويلات ابتعدت عن بيان المدلول من النص، لكن في رأي البصريين إلماحه إلى سبب النصب: فكون كلمة (مقيمين) وردت في المنتصف بين الطرفين المتساويين، وكأنها أصبحت المرتكز لهذا السياق، (فهي بمثابة الثيمة الأساسية للسياقين)، فكان النصب مثيرا للقارئ، منبها إياه إلى أن الصلاة من أهم العبادات، وكل ما ذكر قائم عليها لأنها قوام العبادات والميزان لها. فلو كان السياق على نسقه، لما لمسنا هذا المعنى بهذه الدقة، أي لرأينا أن الصلاة شأنها شأن العبادات الأخرى. ولهذا كان النصب أولى من الرفع. ومن أمثلة ذلك الآية 69 من سورة المائدة: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى..).

  ويخلص البحث إلى نتائج مهمة بهذا الصدد. وختاما فقد عالج البحث قضايا كثيرة قدمت رؤى مختلفة عن تلك التي قدمها النحاة واللغويون. ولمن يبغي الفائدة، لابد له من أن يطلع على كل تلك المسائل الكثيرة التي تطرق إليها الباحث مأجورا.

                                قراءة

                       أ د حميد حسون بجية    


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . حميد حسون بجية
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/03/26



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في كتاب الفروق الدلالية في الأسلوب القرآني تأليف: الدكتور حسين عودة هاشم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net