صفحة الكاتب : نادية مداني

فرصة عبر البريد
نادية مداني
كانت فتاة هزيلة الجسم ، سمراء البشرة تميل للبياض رسم القهر على خطوط جبينها ،انطلقت مسرعة مستندة على موجة من الأفكار لم تكن مشيتها توحي بالأنوثة الصارخة بل بدت كإحدى عداءات السباق الطويل مرفوعة الرأس تعلوها ثقة عمياء في نفسها كان ثمة شيء يجذبها لتتبع خيط الوهم هذا...
ترتدي بأناقة سروال كلاسيك أحمر لأنه كان موضة ذلك الوقت وتزوده بقميص طويل يفضح قوامها الممشوق مع خمار فاتح اللون يبرز جمال عيناها المكحولتين دون أن يخفي ما جمدته السنين من حزن بمقلتيها اللوزيتين
تخترق شوارع المدينة الضيقة ويخترق الأمل فؤادها المدفون بين طيات الكتب...تحمل بين يديها وصل بريد تسلمته أمس من والدها لا تزال قطرات الوضوء تعبق كشذا زهور الليمون فيه...وكان فحواه أن تستلم رسالة من البريد لم يعنيها شيء بقدرما كان يثير فضولها ما فحوى تلك الرسالة؟
تصل لأقرب مركز بريد لكنها لا تجد ما تبحث عنه ويتم توجيهها للبريد المركزي وهذا الأخير يبعد بكثير ويجب الاستعانة بوسيلة نقل ونظرا لعدم توفرها في تلك المنطقة تستعين بأرجلها وأطلقت العنان لقدرتها الرياضية وراحت تشق ذلك الموج من الناس  والضجيج ورائحة الدوارة تغازل أنفها ، تمر بقرب محطة المسافرين وتعاودها الذكريات لأيام الجامعة وتغزو ذاكرتها إحدى مواقف سائقي السيارات وفتاة مجهولة تعرفت عليها بامتحانات الماجستير وكيف ساعدتها ودلتها على أماكن بالجامعة وتلك الفتاة تبدي اتجاهها بالاهتمام وفي آخر لحظة حين تأكدت أنها وصلت لبر الأمان تركتها من أجل فرصة سفر وتخلى السائق عن شهامته من أجل عشرين دينار...
لكن صدق نواياها سهل لها الرجوع مع مجموعة من الزملاء القدامى ودار نقاش حاد بينهما حول نوعية الأسئلة والتي كانت سهلة جدا وأفصحت أن رغبتها في دخول الامتحان لم يكن إلا فرصة أخيرة نظرا لسنها...وتألمت وتنهدت من أعماق قلبها وتمنت أن لا تتكسر أحلام هؤلاء الطلبة ويصدمون بالنتائج وتتبخر آمالهم وتصبح رذاذا منسيا...
كانت الشمس تتوسط كبد السماء ، وهي تمر بقرب سوق "الردخة"الذي  يباع فيه كل شيء ما عدا أمك وأبوك...
تبطئ خطواتها للأنهاتحس أن كعب حذاءها قد ينزع كما حدث لها في السابق وبنفس المكان فالمسلم لا يلدغ من الجحر مرتين...وضحكت ضحكة يعلوها نوعا من التعجب لما اشتريت هذا الكعب العالي؟ هل ياترى كنت أشتري  الحذاء؟ أم أشتري الفرصة...لأن ذلك الحذاء كان ثمنه قليل جدا ولو عرض بمكان آخر ربما يكون أضعاف  ثمنه الذي اشتريته به...انتبهت من خلال ولوجها الشوارع الكبيرة للمدينة انه توجد بين كل حلاقة وحلاقة مقهى وبين كل مكتب محامي ومكتب محامي هاتف عمومي وبين كل عيادة وعيادة محل بيع الملابس الأجنبية آخر صيحة تلمح من بعيد وهي في أقصى درجات استغرابها "سوق النساء" ففيه اصطفت النسوة على حائط ووضعت بعض الحاجيات مثل "المسواك "و"الطيب "وبعض الملابس  الفرنسية القديمة فمن بين النسوة هناك من لا تحتاج لهذا العمل أصلا لكنها تأخذه كهواية وتمارس في الخفاء هواية أخرى وهي الثرثرة ...
ولو اقترحت عليها من باب التحسيس بمحو الأمية لقالت : إنها لاتملك الوقت...وفي الجهة الأخرى بعض من الشباب أحدهم وضع قطعة قماش ووضع فوقها أقلام ومنبهات فقط ما يفسر أنه  يعاني من عقدة ضياع فرصة وقت واندس شاب آخر بين النسوة يسرق أسرار مهنة بيع  الصياغة المقلدة وماهي إلا أيام حتى نافسهن في الحرفة اعني الفرصة...
ازداد اضطرابها عندما تذكرت أمر الرسالة وكيف تلاعب بها الفضول وراح خيالها  يسرح في فراغ ترعى  فيه الأوهام أحلاما ثكلى فتجف السواقي وتذبل الورود فتشبه الدموع قطرات الندى وعبرات البؤساء حبات المطر وتشرق ألحان الصبا بضوء الحنين وتنمو أزهار الأمل بأرض المليون ونصف المليون شهيد حينها تأخذها الرغبة أن تقرأ بودع العرافات سر غموض تلك الرسالة...وربما شكت أن تكون من طرف مجلة خارجية كانت تراسلها بالماضي والتي أخيرا سمعت صدى موهبتها في الكتابة وبعثت لها العدد الذي نشرت به قصائدها لأنها وعدتها ووفت بالعهد لكن العدد لم يصل ...وربما وصل ...؟ثم غيرت شكوكها نحو مجلة محلية كانت تلح أن تبعث لها بالنقد لمجمل الكتابات المرسلة لها ...عبرت كل تلك صور المدينة وخيالها لا تفارقه صورتها وهي تمشي الشوارع ونظرات بعض الشباب التي كانت ترسل بطياتها خبث وحرمان لكنها تدعو في نفس الوقت للشفقة...ترسل بنظراتها نحو محطة نقل أخرى ويخترق صوت أحد السائقين طبلة أذنها وهو يعرض رحلاته للبيع...بوجه منتفخ انتفاخ بطنه التي كانت تتقدم مسيره ورائحة وحشية كرائحة الجيفة تبعث من محل بيع الدجاج فكان منظر الدجاج يدعوك في سرية للضحك ليختلط صوت الدجاج مع صوت بائعي الخضر ليعطي موسيقى لحن فوضوي ينبئ بقدوم عام الشر...وكيف هجموا باعت الخضر على ملعب رياضي واستعمروا كل شبر فيه وفرضوا وجودهم فكانت لعنة الفقر فوق إرادة القانون,لم تنتبه من موج السيارات العابرة الطريق السريع فبانت كأنها قطيع غنم داهمته ذئاب البرية لأن شرطي المرور أعلن بصفارته التي أوقفت تلك المهزلة...فوجدت نفسها أخيرا أمام بائع التوابل المعروف جدا ورائحة "دواء الرقيق " الذي يجمع تقريبا جل التوابل تداعب حاسة الشم عندها وترجعها عنوة إلى مائدة رمضان حين تتفنن أياديها في تحضير أطباق تصرخ لها البطون بقدسية حين يسيطر الجوع على الجوارح فتلتهم كل الأطباق وينتهي بها الأمر تحت سيطرة المستشفى لأن ذنبها الوحيد أنها لم تضيع الفرصة...وصلت البريد المركزي وقبل  دخولها شعرت أن إدارة الخدمات التي ظهرت أجوائها على الهواء الطلق تفرض عليها تأشيرة المرور وبعيون موظفيها دعوة إجبارية للتعامل معهم...تدخل من احد الأبواب الزجاجية وتسلم الورقة لإحدى الموظفات على شباك ومعها بطاقة التعريف الوطنية فينتصر فضول الموظفة وينطق دون سؤال بحيث تجيب الفتاة لا ادري ما سر هذه الرسالة
تقول الموظفة :ذات العيون الزرقاء والنظرات القاسية وذلك الروتين الذي يظهر بارزا بتجاعيد مللها ربما مسابقة حينها تصفعها الذاكرة صفعة والد يؤنب ابنه لأنه ينسى دائما طبيعة المكان المتواجد فيه...
وتتلاشى علامة الاستفهام وتتذكر أنها ستشارك بمسابقة "متصرف إداري" فعلا تتأكد بفتح الرسالة وفضول الموظفة يستعين بأرجل وعيناها الواسعتان التي تضمان بحرا ترسل نظرة توسل
فقالت:هل تريدين معرفة تاريخ المسابقة 
الموظفة:من فضلك
إنه يوم السابع والعشرين من نوفمبر 
الموظفة: إن هذا التاريخ اليوم
تصرخ الفتاة بصوت يشبه صوت مدفع تلاشت حباله الصوتية لأنه شارك في الحرب العالمية الأولى فبدا كصوت غريق لا يظهر منه سوى أيادي تعلقت بوهم يسمى الفرصة.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نادية مداني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/01/18



كتابة تعليق لموضوع : فرصة عبر البريد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net