صفحة الكاتب : محمد صادق الهاشمي

يوم من ليالي شهر رمضان في معتقلات المجرم صدام حسين.
محمد صادق الهاشمي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 أروي للتاريخ حلول الشّهر الأوّل من شهر رمضان عليّ وأنا وأخوتي السّجناء في زنزانات المعتقل الصّغيرة التي تقدّر بثلاثة أمتار في ثلاثةٍ ، ومن ضمنها دورة المياه التي لا منفذ  لها إلّا إلينا ، تزكم أنوفنا برائحتها ليل نهار . وعددنا في كلّ زنزانة يتراوح ثلاثين سجيناً ، وأحيانا يخفف العددُ بسبب أنّهم يعدمون بعضنا فنصبح عشرين أو أقلّ وأكثر. نومُنا من جلوس ؛ لأنّ المكان لايستوعبُ أنْ ننام مضطجعين.

وصادف شهر رمضان المبارك أنّه في صيف العراق القاسي بحرارته ، ولا شيء من الهواء إلّا كوّة صغيرة جدّا ، وكلّنا صائمون ، والسّياط في أثناء التحقيق تلهب ظهورنا ، والجوع يحزّ أحشاءنا, والخوف محيط بنا من كلّ جانب ، يرسم على وجوهنا صور المأساة ، ونحن نقرأ شعارات حزب البعث المكتوبة على زنزاناتنا : «بالروح بالدم نفديك ياصدام»!!! .

نعم الكلّ هنا صائمون ، متهجّدون ذاكرون الله بالتّحميد والاستغفار والتوبة والإنابة ، ولا زلت أتذكر عمّنا «عبد العالي أبا مفيد» رحمه الله ، كان صُلب الإيمان ، راسخ العقيدة ، وهو يحدّثنا عن صمود الأنبياء ، ومواقف الصّالحين ، ويحكي لنا قصص الخالدين ، ويروي لنا عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السّلامُ) قوله لميثم التّمار:  «والله لتُقطعنّ يداك ورجلاك ولسانك ولتقطعنّ النخلة التى في الكناسة فتشقّ أربع قطع ، تصلب أنت على رُبعها ، وحجر بن عدى على رُبعها ، ومحمّد بن أكتم على رُبعها ، وخالد بن مسعود على ربعها» .

ويروى لنا شهادة زيد بن عليّ بن الحسين (عَلَيهِ السّلامُ)، قال : أمر والد الحجّاج بصلبه على جذع نخلة عاريا، وبقي مصلوبا  لمدّة 4 سنوات ، ثمّ بعدها أخذوا ما تبقى من الجثة المصلوبة وأحرقوه وذرّوا ترابه في مياه الفرات.

نعم  كان يرسم لنا بذلك صورا للصّمود والتّضحية ، ثمّ يذكّرنا بالجنة والنّعيم بتلاوة آياتها، كلّ ذلك لأنّ ما نتوقّعه من جلادينا لا يقلّ عمّا لاقاه أولئك الصّالحون ، والجوّ السّائد عندنا كان بأشدّ الحاجة إلى مثل هذه الأحاديث.

 ثمّ ينطلق  عمّنا «أبو مفيد » بصوته الرّخيم بدعاء الافتتاح ثمّ حديث الكساء ، كلّ ذلك بسريّة تامّة بعد أنْ يهدأ جلادونا ويتعبوا منّا . 

في الزّنزانات أكاد أقول : إنّي رأيت كلّ تاريخ العراق المرير ، وأنا شاهد على أقسى صور تاريخ حقبة البعث ، شاهدتُ شباباً تموت جوعا، وجلادين يحفرون أجساد أطهر البشر بسياطهم ، ورأيت علماء دين من النّجف الأشرف كانوا مصداقا لما روي عن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) أنّه قال (بما مفاده) :

 «تذكِّركم اللّه رؤيتهم ويزِيد فِي عِلمِكم منطِقهم ، ويرغِّبكم فِي الآخِرةِ عملهم» ، رأيت أساتذة جامعات ، ورأيت مفكّرين ، ورأيت أبناء أسر علمية كريمة وكنت صابراً محتسبا خائفاً، ولكنّي لم أتمالك نفسي فانفجرت بالبكاء حينما رأيت بعيني سماحة السيّد علاء الحكيم يقتاده الجلّادون بعنفٍ وبكلّ هوانٍ ، وشفتاه تتحركّان بذكر الله بالتّسبيح والتّهليل.

  وكانوا جلّادين لم تحمل الأرض أقذر منهم ، ولم تطهّر كلّ مياه الدّنيا نجاستهم  يقتادون ثلة مؤمنة من أطهر أبناء العراق إلى التعذيب والإعدام !!!

وكان كلّما اكتظّ بنا المكان ، وأضافوا إلى أعدادنا أعداداً أخذوا منّا وجبة ،  حتّى عاد عندنا مصطلح «الوجبات» يعني إخراج مجموعة منّا إلى المجهول ، إلى أين يسوقون هؤلاء العبّاد الورعين، الذين هم أطهر أبناء العراق , لا ندري!! ، لا ندري إلى أين يمضون بهم ، وإلى أين تسوقهم الأقدار ، وقد علمنا فيما بعد أنّ البعض منهم دُفن حيّاً ، وآخرين انهالوا عليهم بالرّصاص ثم واروهم الحفر ، وبعضهم مات تحت سياطهم ، و...

وفي ليلة من ليالي هذا الشهر الرّمضاني نادوا بأسماء  : الدّكتور مزهر الطّحان ، والاستاذ عبد العظيم من الناصرية , وهاشم عبد الدّراجيّ ،  و... و... وعشرات الاسماء. ..

وكان  أحد السّجناء وهو المهندس عدنان ، رأيته يضطرب خوفاً ، وكأنه كان على يقين أنّه سيُعدم ، وأنّه عبر تحليله العميق عَرف أنّه سيساق إلى الموت ، صاحوا باسمه ، فقال لي : قاسم ، هذه صمّونتي كنت ادّخرتها لأفطر بها ، هي لك ، أريد أنْ أذهب إلى الله صائما قد نال أجر مَنْ فطّر صائماً ، ناولني  تلك الصّمونة اليابسة ، ويداه ترتجفان ، وهو يهتزّ كسعفة يلوي بها ريح الخوف والذهاب إلى المجهول، عانقته وبكيت طويلا ، بكيت على  فراقه وعلى شخص كان يشدّ أزري ويصبّرني ، لقد راح منّي ناصري ، ثمّ قلت له : عسى أنْ يكون خروجك لأجل أنْ تلتقي بأهلك ،  فقال لي : قاسم ، لا أظنّ ذلك ، ولا زالت كلماته ترنّ بأذني : «لا خويه آني خايف ، ذول ماعدهم رحمه،  ما يريدون يطلعونه لأهلنا ، هاي مو طلعة أهل ، يجرّونه مثل الخرفان للذّبح».

لقد شاهد هذا المهندس ثوبي ممّزقاً متعفّنا من الدّماء ، فخلع ثوبه وألبسني إيّاه بيديه ، وقال لي : «أعطني ثوبك المخرّق هذا أتبرك به ، فأنا ذاهب للشّهادة ، ويكفيني مثل هذا الثوب المخرّق، وأمّا ثوبي فأنت أحوج إليه منّي ، ثمّ قال لي : الله معاك ، وأهل بيت العصمة وجدتك الزّهراء معاك ، ولك قاسم ، الله يصبرك ، ولك أنت بعدك طفل».

ما أطهر هذا الرّجل ، لقد كانت دموعه تنساب في هذه اللّحظات التي يساق فيها إلى الموت تنساب لأجلي ، علي لصغر سنّي ، وفقدي لأهلي وتشتت حالي ، وهو يعلم أنّه سائر إلى الموت ، ولا يفصله عن الشّهادة إلاّ لحظات .

دخل عدنان مسرعاً إلى الحمّام وتوضّأ وصلّى ركعتين ، وكان الجلّادون يتنقّلون بين الزّنزانات وقبل أن يصلوا  إلى زنزانتنا أكمل صلاته وهو يدعو : «يا ربّ إنْ قدّرت لي الشّهادة فقدّر لي مَنْ يدفنني».

استغربت لهذا الدّعاء ، قلت له : «شنو هذا الدّعاء ، أنت  راضٍ بالشّهادة ، وخايف محد يدفنك ، ليش ، أهلك وين»  ؟.

 قال بعبرةٍ وصرخةٍ واختناقٍ بالبكاء ولحظاتٍ محرجة : « ولك قاسم منين لي أهل ، أهلي كلّهم مسفّرين».  وكانت هذه أخر لحظة لي معه في هذه اليوم الرّمضانيّ.

هذا هو العراق وشرفاؤه لا تجفّ دماؤهم ، نثروها أزهارا بدربه ، فهل لهم منه وفاء؟؟؟، وهل يصدّق عقلي أنّ أخوتي ، وأصحاب المحنة عادوا اليوم من محنتهم ليكّرموا جلّادينا!!!!!

كتب بتارخ 12 / 5 / 2019 م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد صادق الهاشمي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/05/12



كتابة تعليق لموضوع : يوم من ليالي شهر رمضان في معتقلات المجرم صدام حسين.
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net