صفحة الكاتب : زعيم الخيرالله

أَخلاقٌ بِلا دينٍ !
زعيم الخيرالله

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

الذي دعاني لاختيار عنوان هذا البحث ، ومناقشةِ هذا الموضوع ، هو كتابٌ وقعَ في يدي عُنوانُهُ,BEYOND RELIGION "Ethics for a Whole World" ، كتبه زعيم البوذيين في التبت " DALAI LAMA (*).
والكتابُ كما يبدو من خلالِ عُنوانهِ "ماوراء الدين" ، اخلاق للعالم كله ، والمؤلفُ سعى لطرحِ اخلاقٍ لاتستمد اسسها من الدين ، ولاتتعارض مع مفاهيم الدين ومقولاته ،وهي صالحة لكل الناس على اختلاف مذاهبهم وافكارهم ودياناتهم ، وهي تستوعب حتى الملاحدة الذين لايؤمنونَ بدين، وتشمل اللاادريين والناس جميعاً.
والمُؤلفُ اطلق على هذه الاخلاق العالمية " الاخلاق العلمانية" ، ووضح الكاتب مايعنيه بكلمة "علمانية" ، فهو لايعني بالعلمانية ، العلمانية التي نشأت في السياق التأريخي للغرب ، وفي ظل مُناخات الغرب المشحونة بالصراع مع الدين ورجاله . مفهوم العلمانية الغربي مشبع بحمولة الكراهية للدين ، ونبذ الدين .اما الاستخدام الهندي للكلمة فغير مُعَبَأ بهذه الحمولة . الاستخدامُ الهندي لكلمة علمانية ، لايحمل عداء وكراهيةً للدين ، بل يحترم كل التدينات التي يتدين بها البشر ، ولكنه لايستقي مفاهيمه منها .
والسؤالُ الذي يَطرحُ نفسَهُ ، هل يمكننا ان نتصورَ اخلاقاً بلا دينٍ ؟ وهل يستطيع الملحدُ الذي لايؤمنُ بدينٍ ، ولابالهٍ ، ولابآخرةٍ ، ولابحسابٍ ، ان يُنشئ منظومةً اخلاقيةً ، وهل تستطيع المجتمعات المادية ان تقدِّمَ لنا وصفةً اخلاقيّةً شاملةً ، وهي تعاني من امراضها الاخلاقية . التقدم الماديُّ الذي وصلت اليه هذه المجتمعات ، ليس بالضرورة ، يصحبهُ تقدمٌ اخلاقيٌّ .
هناك من يرى أنَّ الاخلاقَ لايمكن ان نتصورها من غير دين ، منهم الفيلسوف الالماني "فيخته" الذي يقول: ( انّ الاخلاقَ من غيرِ دينٍ عبثٌ) ، والمهاتما غاندي يرى ارتباط الاخلاق بالدين ارتباطاً وثيقاً ، وان الدين هو الذي يغذّي الاخلاق ، يقول غاندي:(الدينُ يُغّذّي الاخلاقَ وينميها ويُنعِشها كما أنَّ الماءّ يُغّذِّي الزرعَ وينميه ) ويقول القاضي البريطاني "ديننج" :( بدون الدين لايمكن ان تكونَ هناك اخلاقٌ وبدون اخلاق لايمكن ان يكون هناك قانون )(1) .
وهذه الصلةُ القويةُ بينَ الدينِ والاخلاقِ تحدث عنها عالمُ الاجتماع ايميل دوركايم بقوله:(انّ الاخلاقَ والدينَ قد ارتبطا ارتباطاً وثيقاً منذُ أَمَدٍ بعيدٍ ، وظَلاّ طوالَ قرونٍ عديدةٍ مُتشابكينِ ، فلم تصبح العلاقاتُ التي تربطهما علاقاتٍ خارجيّةٍ أوظاهرة ، ولم يعُد من السهلِ فصلُهُما بعمليّةٍ يسيرةٍ كما نتصور).(2)
النظريات المتضاربة دليل العجز الانساني
---------------------------------------
النظريات الاخلاقيةُ المتضاربةُ في مُقارباتِ البشر ، دَليلٌ على عجزِ البشر على تقديم منظومةٍ اخلاقيةٍ متكاملةٍ تُنقذُ الانسانَ من انهيارهِ الأخلاقيِّ ، فمذهبُ اللّذة عندَ ابيقور ، الذي يعتبرُ اللّذةَ هي الخير الاعظم ، والغايةُ القُصوى يزري بانسانية الانسان ؛ اذ يجعله حيواناً باحِثاً عن اللّذةِ والمُتعةِ الحسيّة . هل هذه نظريةٌ اخلاقيّةٌ ترتقي بالانسان ام تهبط بهِ الى الحضيض والدرك الاسفل. وسقراط اعتبر الفضيلةَ هي الخيرُ الاسمى ، وخالفه ارسطو الذي اعتبر الفضيلة وسيلة لاغايةً ، هي وسيلة للوصول الى الخير الاسمى الذي هو السعادة عند ارسطو .
ولم يأتِ فلاسفةُ الاخلاق الاوربيين بجديد ، لم يضيفوا شيئاً لم يقلهُ فلاسفةُ الاغريق ، انما قدموا افكار اليونانييّن عن الاخلاق باساليبَ جديدة ، وبصيغٍ حديثةٍ .
الاخلاق عند ديكارت هي تكرارٌ لما قاله الرواقيون ، ومذهب سبينوزا هو مذهب الرواقيين ، واخلاق كانظ هي اخلاق الرواقيين باساليب جديدة ، وصيغ جديدة ، ومذهب بنثام وجون ستوارت مل في المنفعة ، هو صياغة جديدة لمذهب الابيقوريين .(3)
نعم ، اضاف كانط شيئاً جديداً ، الفيلسوف كانط طرح فكرة عظيمة ، وهي فكرة الواجب ، وفكرة الالزام ، وطرح فكرة الارادة الانسانيّة ، وان الانسان كائن اخلاقي مسؤول عن تصرفاته وافعاله . ركّزَكانط في فلسفته الاخلاقيّة على الدوافع بينما كانت الفلسفات الاخرى كمذهب اللذة والمنفعة ، والمذهب البراغماتي في الاخلاق ، اولت اهتمامها للنتائج .
الفلسفة الاخلاقية النفعية ، وفلسفة الاخلاق البراغماتية انتجت لنا الرأَسماليّة بوحشيتها ولاانسانيتها .... فهل هذه فلسفات اخلاقية ارتفعت باقدار البشر ، واعلت فيهم معانيهم السامية ، ام انها حولت البشر الذي كرمه الله الى مخلوقٍ يبحث عن اللذة والشهوة والمنفعة ، ويسحق الشعوب ، ويدوس على كل القيم من اجل تحقيقها.
الاخلاق والقيمُ الداخليّة
---------------------
فكرةُ الاخلاقِ تنبع من القيم الداخليّة ، والقيم الداخليّة كاستعدادات فطرية مزروعةِ في اعماق النفس الانسانيّة ، هي التي اشار اليها القران الكريم بقوله تعالى :
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10). (الشمس: الايات: 7و8و9و10) . ، فالنفس الانسانيّة لديها استعدادات الفجور والتقوى ، ودور الارادة الانسانيّة هو ابراز هذه الاستعدادات . بدون هذه الاستعدادات ، لايمكن ان نؤسس لمنظومةٍ اخلاقيّةٍ .
الدالاي لاما في كتابه ، طرح فكرة "القيم الداخليّة " ، ولكنه يرى انه بامكاننا زراعة هذه القيم واستنباتها ، وانا لااوافقه الراي. انا اقول هذه الاستعدادات فطرية ، لايمكن ان نقيم منظومةً اخلاقيّةً بدونها ؛ فهي حجر الزاوية في اقامة صرحٍ اخلاقيٍّ.
الانسان في اعماقه ، يدرك الخير من الشر ، ويميز بينهما ، ويستطيع ان يفرز الخطأ عن الصواب . وهذا ماعبّرّ عنه "بطلر" بالضمير حيث يقول: ( انَ اوامرَ الضميرهي صوتُ اللهِ ، وانها تمثّل قوانينّ العدالةِ الالهيّة ) فاعتبر الضمير اساس الاخلاق . وهذا يقترب من فكرة الواجب عند كانط ، اذ يرى كانط : " ضرورة القيام بفعلٍ عن احترامٍ للقانون" ، ويقصد كانط بالقانون القانون الاخلاقي . (4)
وهذا الالزام الاخلاقي المرتبط بارادة الانسان الواعية يتحدثُ عنه كاريل فيقول:(يجب على الانسان أن يفرضَ على نفسهِ قاعدةً داخليّةً حتى يستطيعَ أن يحتفظَ بتوازنهِ العقليّ والعضويَ . انّ اي دولةٍ قادرةٍ على فرضِ القانونِ على الشعبِ بالقوةِ، ولكن لاتستطيع ان تفرضَ عليه الاخلاق). (5)، وبنفس الاتجاه يتحدث عن هذه الفكرة (فكرة الالزام الاخلاقي) ، عالم الاجتماع اميل دوركايم : ( ان النظامَ الاخلاقيَّ يوجهنا نحوَ السيطرةِ على النفسِ بالذات ، ويعلمنا كيفَ نسلُك على غيرِ ماتريدهُ دوافعُنا الباطِنَةُ ، فلا يترك نشاطنا ينساب في مجراه الطبيعيّ ، ولكن يعلمنا كيفَ نُقَدِّمُ السلوكَ بمجهودٍ ؛ ولذا فانَّ كلَّ فعلٍ اخلاقيّ يتضمنُ مقاومةً يبديها لميلٍ معينٍ ، وكبتاً لشهوةٍ ما ، وتقييداً لنزوعٍ خاص) . (6)
الاشكاليّةُ الاخلاقيّةُ في فلسفةِ افلاطون وارسطو
---------------------------------------------
النظرة الاستعلائية عند الفيلسوفينِ الكبيرينِ افلاطون وارسطو ، تمثل اشكاليةً في فلسفتهما الاخلاقية ، فهما ينظران الى اليوناني نظرة استعلائية تجعله فوق الاخرين ، وهذا ماتحدث عنه الفيلسوف برتراند رسل بقوله :(لقد اخطأ اليونان خطأً فاحشاً حينَ احسوا شعورَ السيادةِ على الشعوبِ البربريّةِ ، ولاشكَّ ان ارسطو قد عبّرَ عن فكرتهم العامة في ذلك حين قال:"ان اجناس الشمال مليئةٌ بشعلةِ الحياةِ ، واجناس الجنوبِ متحضرة ، واليونان وحدهم هم الذين يجمعون الطرفين . فشعلةُ الحياةِ تملؤهم ، وهم في الوقتِ نفسهِ متحضرون . وافلاطون وارسطو كلاهما قد ذهب الى انه من الخطأ ان يتخذَ من اليونانِ عبيدُ لكنّ ذلكَ عندهما جائز بالنسبةِ للشعوبِ البربريّة).(7)
الاخلاقُ الوضعيّةُ
----------------
المدرسةُ الوضعيّةُ التي اسسها " اوغست كونت" ، حاولت ان تقيم كل شيءٍ على اساس التجربة ، حتى العلوم الانسانيّة كعلم الاجتماع وعلم النفس ، بل حتى الاخلاق ، اقامتها على اساس علميٍّ تجريبيّ .
والاخلاقُ الوضعيّةُ عند كونت تقوم على الاسس التاليّة :
1- تقوم على اساس العلم الوضعيّ
2- نسبيّةُ الاخلاق ، وتسنمد الاخلاقُ نسبيتها من نسبية المعرفة ، وليس لها طابع مطلق كما يرى كانط .
3- تتحدد المشكلة عند كونت في تغلب غرائز المودة على دوافع الاثرة والانانيّة ، اي بتغليب النزعة الاجتماعية على نزعات الفرد.
4- تغليب العاطفة الاجتماعيّة .
هذه هي الفلسفة الاخلاقية التي اقامها كونت على اساس تجريبي وضعي ، وغلّبَ فيها الجوانب الاجتماعية التي تشكل اسس الاخلاق عند كونت وفلسفته الوضعية ، وهذه النظرة موجودة عند دوركايم ، فالضمير الذي اعتبره "بطلر" صوت الله في الانسان ، واعتبره اساس الاخلاق ، جاء دوركايم ليقولَ لنا : ( ان الضمير يعكس بيئة الجماعة ، وتلتقي فيه تعاليمها ، فالانسانُ ابنُ عصرهِ ، ووليد بيئتهِ). (8)
وقد وجه الدكتور محمود قاسم سهام نقده لاوغست كونت وفلسفته الوضعية للاخلاق ، بقوله : ( لقد ظنت المدرسةُ الفرنسيّةُ ان المجتمعَ هو الذي يفرضُ القيمَ الاخلاقيّةَ فرضاً، ورأى ابن باديس ، ومثله جمال الدين الافغاني ، ان الاخلاق هي التي تنبع من اعمال الضمير المتدين ، لامن قهر المجتمع ؛ لان صوتَ الضمير اقوى من مئات القوانين ).(9)
الاخلاق واحدة والاداب متغيرة
------------------------------
اذا كانت جذور الاخلاق ، موجودة في اعماق النفس الانسانية ، فهي من الثوابت ، والاخلاق واحدة ، اما التخلقات فهي المتغيرة . الاداب هي المتغيرة ، والتي تختلف من ثقافة الى اخرى ، ومن مجتمعٍ الى اخر . فكما ان الانسان لايصنعُ ديناً بل يصنع تدينات وديانات ؛ لان الديانة تأتي صرفياً على وزن فِعالَة ، وهذا الوزن يتعلق بالحرف والصناعات ، مثل عمارة وسقاية ونجارة ، وكذلك ديانة فالديانة صنعة الانسان ، والدين صبغة الله ، وكذلك الامر مع الاخلاق .
ماقدمه الانسانُ من فكرٍ اخلاقيّ هو تخلقات لااخلاق .
نعم ، ادعو الى اخلاقٍ عالميةٍ تسع الجميع على اختلاف دياناتهم ، ومدارسهم الفلسفية ، تسع الناس على اختلاف دياناتهم وافكارهم، واطلقُ عليها " الاخلاق الحضاريّة " التي تستمد اسسها مما تركه الانبياء حملة رسالات الله ، التي تتناغم مع الاسس والقيم الداخلية الموجودة في اعماق النفس الانسانيّة والتي يسلم بها جميع البشر على اختلاف اديانهم ومذاهبهم الفكرية ؛ لان هذه "الاخلاق الحضارية" تعبر عن مشتركات انسانية يقبلها الجميع.
المصادر
--------
(*):BEYOND RELIGION,Ethics for a whole world.
1-القرضاوي، يوسف، الايمان والحياة ، ص 211 .
2-دوركايم، اميل، التربية الاخلاقية، ص 11.
3- كرم، يوسف، الفلسفة اليونانيّة، ص 233 ..
4- كانط، عمانوئيل ، تاسيس ميتافيزيقا الاخلاق ، ص 33.
5- اتجاهات الفلسفة المعاصرة ، ص 94.
6- دوركايم، اميل، التربية الاخلاقيّة، ص 47.
7- رسل، برتراند، تأريخ الفلسفة الغربيّة، ج1 ، ص 251.
8- الطويل، توفيق، الفلسفة الخلقيّة ، ص 270.
9- قاسم ، محمود ، الامام عبدالحميد بن باديس ، ص 51 .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


زعيم الخيرالله
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/07/05



كتابة تعليق لموضوع : أَخلاقٌ بِلا دينٍ !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net