صفحة الكاتب : د . سمر مطير البستنجي

اليمن...أمّ الجنّتين!
د . سمر مطير البستنجي

 بسم الله الرحمن الرحيم

عذراء !ذاب في نحرها السِحر بالكبرياء ..فغدت تتقلّب بين رقّة الساحل وعنفوان الصحراء..
بدوية الطابع،أورثتها البداوة بعض ملامحها...فصبغت الوجنتين  برمادية رقيقة..وانعقد الخِضاب نقشاً على سهول كفّيها، ورائحة النِدّ والجَاوي والبُنّ اليافعيّ المحمصّ تُشاكس في الهوى نِثارعطرها .. 
حَوراء تجثو على ربوات تُطارح الندى ، والنسيم الريّان نايٌ يغازلها..يعزف لحنه الخمريّ ليراقصها ..فيتردد في الفضاء صدىً فيه رجفة العاكفين..فتغفو قناديل الرعاة ثَملة على أطراف مراعيها التي اعشوشبت إثر طلّ مفخّخٍ أسال ريقها الغافي..
مليحة !عزفت على حنجرة الشرق ألحاناً يمانيّة..وألبسها التاريخ عقيقاً من يمان..فإذا الحُسن والتاريخ فيها توأمان..فاستفاقت تتأبّط زاد الحكمة وذخائر الإكبار..وقت قرأت نجمها السعيد في المنام..وفازت بتعويذة رمت بها الشمس في البحر فترقرق الكبرياء على وجهها المليح ..وتوسّمت بالبهاء وفتنت بوهجها من اليها قد عبروا..فخلُدت في محراب أرواحهم ثُريّا لا تنفكّ النجوم تُدير رُحى ليلتها وتحكم قبّتها الفيروزية فأضاءت فجراً شهيّاً طاف على حواشي هيكلها المسحور.
جميلة..!تحطّم العشاق على ضفاف ثغرها الغجريّ فحملتهم على سفن أمانيهم في انطلاقة نحو المجهول الجميل لتقف بهم على شواطيء التاريخ،تُقرئُهم ماضٍ حملته شمس المشرق على عاتقها يمينا صادقا في رحلتها نحو الغسق لتبثّة رَهجاً من العين الشريفة ،وقت طافت توزّعه بياضاً على صفحات العابرين ،وبياناً قد تجلّى في عين الأفق به بعضُ تحدٍّ،وكثير كبرياء..
تضاريسها المسكونة بالدهشة ،والممتدة حلما نحو البعيد تستثير شهوة الأيائل لشقاوة ضامرة،وتتنفس شقشقة العصافير ولعاً..وتهِب الروح للزنابق المصبوغة بالهذيان فتتوسد تكايا الجبال لتغازل الألق.. ويتخضّب الجمال في سديم رحمها فيتمطّى البيلسان رغبة ،ويشرئب النخيل  نحو السماء بتيهٍ ووله..وينثر شجر السِدر بذور الخصب فوق تربة مسّها الشوق للبقاء.  
 
 
ساحلية المقام والتكوين! كل شيء يغدو حيّاً بلمسة من أزرقها.. زفير البحر معتّق ينسلّ من جَيشان الروح العميق..والريح تراقص بُنيّات الموج فتعلو لتَطال الشمس بيمينها وتهبِط  ككرة من حرير مصبوغة بألوان طيفها ...فيضجّ الموج وينبري للنضال ،ويتفصّد عَرقاً بلا توقف في حلقات الصراع من أجل البقاء ..ويواصل بهلوانياته ومناوراته مكوّناً دوائر عسجديّة سديميّةٍ فاتنة...وينثني حاملاً صولجان الإغراء لتأتيهِ السفن التي ما اجتهدت للخروج من غرق إلا وابتُليت بغرق ..فترفع السُّبّابة تُهللّ بشهادة الغرق..وتلهجُ بتراتيل المقيمين على طرقات الإياب..فيحملها بسلام حيث شطوط الأمان.
وما بين موج يقاتل وسفن تحطّ..!تتبدى في البُعد مراكب قذفتها الأنواء في خليج الريح فتاهت في زحمة الموج بلا أثير..
وتستمر حكاية البحر والبقاء وساكنيه... 
بيوتها! وحي من هَدي الحضارات العتيقة، والتي أرست أركانها روحانيات ما قبل الهندسة .. تقيم على أرضية رماديّة شاحبة.. ورغم  شّحّ أقواتها، وأُجاج مياهها وَغورِ زيت التُرب في أحشائها...!فلا زالت تُحيط هفوات البيوت بالكتمان..وتقرأ على أرواح الراقدين في جوفها تحاصين المساء..فاقمرتّ السماء بالصفاء ونامت العيون تحت هسيس الليل على وقع صلوات الأمهات واستفاقت تغسل تُرب الظلام عن أحداقها بدفق الصباح ... وبزغت الشمس تطوف لحاظها على الأماكن العتيقة تفتك بعفونة الزمن..وتغدق النور على آثارٍ استردّت من بعد الغفوة وعيها .
صبورة هي!
فبالرغم من  جمالية الأفق،ورعشة الصباح وعقيق جبالها... إلاّ أن الشقاء عاث فساداً بدرب ساكنيها الطيبين الذين امتهنوا الأصالة والبراءة فِطرةً... فلكم بعثرت الحاجة سجعهم كنوارس ارتحلت على خاصرة الوجع وقت فتكت بها قسوة الهجير.. فعشقوا البقاء ؛كما عشقوا دندنة البحر وتسابقوا على مطيّة من نور الى بحرهم يطاردون أسماكاً هيفاء تثنّت بدلال تحت انكسارات الشمس وعلى مرايا المياه.. وهرعوا يرتِقون بشِباك صيدهم رُقع أمنياتهم، ويردمونَ بالغناء فجوات القلق..ويلملمون أطراف أحلامهم ويعقدون عقدة فرح على ناصية صُبحهم لا تنفري إذا حلّ المساء..يستنسخون البقاء من رحم الوجود لينعموا برعشة انطلاقةٍ تُحيل عالمهم الى انتظامٍ مُحكمٍ بلا تَبعثر..
أمّ رؤوم هي!
 ما زالت تقدّس خلود نسلها وتقرأ في عين الشفق تباشير رحيل الهمّ عن الديار المنحوسة.. تسارع لجمع شتات من دُس لهم السمّ في كأس السراب ،وأُلقي في طريق مسيرتهم  قرص ظلام فاختلط الأمر عليهم..وتفرّقوا وهم لا يعلمون..وجهلوا وهم لا يشاؤون وغفلوا عن قضايا وطنهم الذي تعلّق  في أحلامه المشنوقة..
يا أرض الجنّتين.. !
يكفيكِ فخراً أنّ للكعبة نفحات تطالكِ ذات اليمين... فتأبّطي الفرح الممزوج بالبركات من ذات اليسار ..
 يكفيك فخرا!ان التاريخ قد عفرّ وجه حضرتكِ بالمسك والعنبر، وأن شهادة الفرقان فيكِ اكبر..فعرش بلقيس وعاد وثمود قد خلّد في آيات الله منكِ خبَر...
فهيا الى المجد ،وسارعي:
فجبالك الممشوقة القوام تعاتب الشفق المبثوث رَهقا...
ومياهك الملوثة بالهمّ تُلقي الطُعم للأسماك ليلاً، فيموت النسل في الصباح اختناقاً..وتغادر النوارس قلقا..وتهويمات البجع تُنذر بليل ديجور ينزّ أرقا..
والموج يلطم خاصرة الشطّ ،فيرتدّ حزيناً حاملاً ملحاً وطينا وينتحر في الفجر غرَقا..
 
يا مهد الحضارات القديمة !
أرض كِندة ما عرفت التهاون يوما..
فافتحي صدرك لخيوط الشمس كي تدخل..وحلّي خيوط الهمّ المنعقدة على جبينك وشماً..وانثري بذور القيام في فصلك المطريّ ،وتعهدي الفسائل رعاية وحُلماً.. كي تطرح في فصلكِ القادم زهراً..ولا تتركي الدود و القات يملأ الأحشاء سُمّاً ووهناً....
فنسلكِ الناشئ قد عبّ من أثير ماضيكِ عبّاً..ومضى يحملكِ على كتفيه قسَماً.. وأدرك قبل حلول الغرق أن بعد الليل فجراً...وأنّ بعد السُبات قياماً..وان للتاريخ وللحضارة بعد أفول الجهل ألقاً ...و للربيع الآخر فيكِ سِحراً لا ينفكّ يُمطرهم كديمةِ الصحو صَحواً...ويمسح على ماضيهم غفراناً وطُهرا..ويكحلّ الحلم بالفردوس القادم في عيونهم شوقاً ..
فما بينكِ وبين الحلم شهقه...وركائب الترحال هلّت تُشعل  فجركِ الأنقى..فالأماني يا أرض الجنّتين لا محالة آتية مع الصبح فَلقا...فابشري من بعد العِجاف بخيرات السماء وَدقا...وبالطلع النَضيد من بعد النحول رزقا وغَدَقا...فتصطبغ السنابل بحناء المتقين،،
وتنهلّ البشرى بياضاً على الأرض الملائكيّة كلما هزّت السماء جيدها تقبّل جبين العاكفين ...
 
*أرض الجنتين:من أسماء اليمن القديمة.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . سمر مطير البستنجي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/01/27



كتابة تعليق لموضوع : اليمن...أمّ الجنّتين!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net