صفحة الكاتب : حاتم عباس بصيلة

الاقنعة والحياة
حاتم عباس بصيلة

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يخطئ من يظن ان القناع المسرحي يختص بعالم التمثيل على خشبة المسرح فحسب، ذلك ان الحياة اكبر من المسرح ذاته، والحياة ليست مسرحاً وانما هي فوق المسرح في حقيقة الأمر لذا كان من المهم ان ينهل المسرحيون منها تفاصيل ابداعهم الجميل!! ويدخل علم النفس في هذا المجال دخولاً سافراً وهو يدلف الى عالم الشخصية الباطن ليكشف اسرار الشخصية الكامنة في (كهف) النفس الانسانية ذات الرموز والالغاز، من هنا كان لتناقض الانسان وصراع المتناقضات دور في تحديد أقنعة الشخصية الانسانية في صراعها الحياتي.
فالملك يحرص حرصاً كبيراً على ان يظهر بمظهر القوة امام الشعب وربما اختلى مع نفسه ليتهكم من ضعفها وهوائها امام زوجته في الفراش. ومثل ذلك تكون الشخصيات المتزمتة في معتقدها سواء كان دينياً او فكرياً او سياسياً ورغم ذلك فقد سخر منها طفل لا يعرف المجاملة ليزيل القناع بلحظة من لحظات الحدس والإلهام الفطري فتنهدم التلال التي كانت تغطي الحقيقة، لأن الناس على دين ملوكهم فان ذلك يشمل المدراء في المدارس او مدراء الادارات، فقد ترى احدهم قيصراً في دائرته ولكنه داخل بيته (امام زوجته) ارنب مذعور!! وهي تقرأ قائمة الطلبات اليومية!! وفي المذكرات التي يكتبها الأدباء والمثقفون تتجلى الأقنعة التي تظهر صاحبها بصورته المثالية.. خوفاً من القيم المقدسة السائدة!! ونادراً ما نجد جرأة حقيقية كجرأة الجواهري في مذكراته حين يذكر خوفه من العقرب في السرداب النجفي!! ويظهر مغامرة من مغامراته العاطفية في مجتمع شديد التحفظ!!
وكان الوردي مصيباً في كثير من آرائه الاجتماعية والسياسية وهو يزيل قناع الحقائق الجوهرية في تحليل الشخصية العراقية. وقد كان الامر واضحاً في عروجه على حقيقة الأدب وتحليله الدقيق لطبيعة الصراع كاشفاً زيف الاساليب الأدبية المقرونة بالأقنعة الخاصة في الشعر –خاصة- كما هي الحال في كتابة (اسطورة الدب الرفيع) فهو يزيل القناع الأدبي حتى ان كان جميلاً ليكشف جوهر الحقيقة!
ومن مظاهر الأقنعة في الحياة قولُ أحدهم: صباح الخير لزميله في العمل فيجيب الآخر في اعماق ذاته \"لا هله ولا مرحبه\" بينما كان الجواب في ظاهره المكشوف \"صباح الورد\"!!
وفي تقاليد الزواج والطلاق يظهر القناع بشكل واضح امام المدقق في تفاصيل تلك الحياة. حيث تحاول العروس ان تظهر بمظهر \"الفتاة\" الحاذقة في العمل والمتذوقة لمفردات الجمال في الحوار بينها وبين عريسها المنتظر حتى اذا كان الزواج وقد استنفذت أيام العسل كلها ظهرت بشاعة الفتاة!! وتحولت من رقة الاسلوب الى وحش كاسر بالالفاظ حين يتعلق الأمر \"بالمادة\" ولا يختلف الرجل \"الجنتلمان\" عن هذا الأمر حين يظهر بمظاهر \"الشرف والفروسية في الايام الاولى للقاء المحب حتى اذا حقق المآرب انقلب الى جوهر شخصيته الحقيقي في السلوك وظهرت (عقدة الملة عليوي) الى السطح!!
ولا أدري لماذا يخطر في بالي ديك يحاول ان يغري الدجاجات بقطع الطعام وهي معلقة في منقاره مطلقاً صوتاً خاصاً بذلك. ثم يستدرج كل دجاجة ليقوم بطقوس الخصب الحيواني وتعرف الدجاجات بالغريزة ان قطع الطعام هي قناع من نوع آخر تستدرج بها الى طقوس التزاوج اللذيذ!!
ويكون السياسي أقرب الى العمل المسرحي وخاصة في وضع قناعه المطلوب حسب الحالة السياسية حين يتطلب الأمر ذلك. ففي بداية صعوده على خشبة مسرح الحياة يكون قائداً غارقاً في مبادىء الحرية والعدل والمساواة فيلمع صورته مع زبانيته التي تجيد الفن المسرحي بشكل ممتاز حتماً ثم تظهر حقيقته بعد تسلم السلطة لتنهار القيم وتذوب مظهراً حقيقة ما يريد.
وقد يقع الانسان فريسة (القناع الثقافي) حين تكون الثقافة تقليدية تعيش اوهام (المقدس) فتنهار فجأة امام حقيقة الحياة والوجود، وقد أجاد الكاتب يوسف ادريس ذلك في قصة \"لي لي\" وهي قصة تحكي \"انهيار\" مصلح ديني امام \"لي لي\" الفتاة الرائعة الجمال والتي تجعله ينهار في خياله المنطلق \"وهو يصلي جماعة\"!! وكأن الكاتب يوحي باسلوب ذكي بان \"لي لي\" هي الشيطان الجمالي الواقعي الذي يصحّي \"ميتافيزيقية\" الرؤى والافكار التي غلفت المصلح في شيء من التخدير عن رؤية الحياة الواقعية.
وتكثر هذه الحالات في المجتمعات الرازحة تحت الحكم الدكتاتوري كانعكاس نفسي اجتماعي!!
والقناع المسرحي على نوعين في الفن المسرحي، الاول قناع مادي يلعب \"المكياج\" دوراً في اظهاره بطريقة فنية تظهر الشكل الخارجي للشخصية والثاني القناع الذي يظهر الحقيقة النفسية في صراعها مع الشخصيات الاخرى.. وحين يجمع الفنان الحقيقي بين الحالتين فانه يصل الحالة المثالية في ذلك.
وينعكس مفهوم القناع المسرحي على الفكر الفلسفي بصورته العامة فالخيام يكشف زيف الافكار القديمة في الحكمة والفلسفة في قوله:
اشرب وخذ هذي الحقيقة من فمي
كل الذي قالوا لنا اوهام
فالفكر الفلسفي يلبس قناعه هو الآخر ولولا الأقنعة التي يلبسها الفيلسوف بارادة منه لما كان الصراع الفلسفي بين الفلاسفة الذين يحاولون كشف الأقنعة والغوص الى الحقائق الجوهرية في الكون والوجود، فيما بينهم.
ويظل الفقراء يكشفون زيف الأقنعة من خلال الاسلوب الساخر الذي يلجأون اليه في الصراع الطبقي الذي لا ينتهي... وهناك لابد من الالتفات الى طبيعة الأمثال الشعبية التي تعكس الحقائق في مرآة الرأي العام حين تنقد شخصية متسلطة في الحياة او ذات شأن طبقي معين. ليتطور الموضوع الى الامثال التي تطلق في كشف الواقع الاجتماعي بقناعة المزيف كما في حالة وصف النفاق بين الأقارب \"فالاقارب عقارب\"!!
لقد فطن الفلاسفة الاولون بل فطن الانسان الاول على كشف هكذا أقنعة تلبسها الشخصيات كما هي الحال في عشتار التي حاولت استدراج (جلجامش) في الحب ليكون جوابه: (انت نعلٌ يقرص منتعله!!) وهو بذلك يكشف قناعاً من اقنعتها المتعددة!!.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حاتم عباس بصيلة
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/02/12



كتابة تعليق لموضوع : الاقنعة والحياة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net