التربية بين الترغيب والترهيب [مهرجان الحسيني الصغير انموذجا ]

  د. ايمان الكبيسي - باحثة وكاتبة مسرحية

تميزت الفلسفة الإنسانية بالتركيز على التربية بوصفها المسؤولَ الاول عن تهذيبِ مختلف قدرات الفرد  وتثبيتها، فهي تنظرُ الى الإنسانِ بوصفهِ ذاتاً عاقلة يمكنه السيطرة على الطبيعة وظواهِرها، عبر ما يمتلكهُ من ثقافة إلى جانبِ التربية لتكمل هذه الطبيعة وتمدهُا بغايات تعطي لوجود الإنسانِ بُعده الأخلاقي. وهذا ما ارتكز عليهِ(جان جاك روسو) الذي اكدَ على اهميةِ فهم خصوصيةِ الطفل وميولهُ تبعاً لطبيعة الطفولة وعدم ثباتها، قدرتها دائمة على التحولِ والتكيفِ مع الطبيعة المادية، مسلطاً الاهتمام على احترامِ مشاعر المتعلم وتقدير كينونتهِ، وضرورةِ تنمية حواسهِ، ومراعاة مراحل نموه المتعاقبة عبر فسح المجال امامه للتعاطي والتفاعلِ مع الطبيعة والكشفِ عن اسرارِها، والخروجِ الى الطبيعة وعبور نطاق الكتاب والمدرسة في بناء العقل وجعل المتعلم المحور الاساس في التعليم. وقد اكد (روسو)على الربط بين التربية والثقافة والطبيعة البشرية عبر التربيةِ الطبيعةِ المرتكزةِ على الحريةِ في التربية في أن يعمل الإنسان ما يرغبه. إذ ذهبَ بآرائهِ الى التأثير في (مدام دي جينيلس) وجعلها تتخذ من المسرحِ وسيلة وتجربة تمارسها مع طلبتها في التعليم والتربية، كل تلك الطروحات والآراء دفعت بالعتبات المقدسة من خلال قسم رعاية الطفولة المتمثل باحد تشيكيلاتها الى التنبه لهذه الوسيلة الخطرة وضرورة تفعيلها مجتمعيا لغرس القيم والمبادئ المحببة في ذات الطفل، فانبثق مهرجان الحسيني الصغير نشاطاً فنياً تربوياً يُعنى باحتضان الطاقات الفنية المبدعة من الشباب والفتيان والزج بهم في مشروع جمالي برغماتي بامتياز واعني هنا (بالبرغماتي) الحق الذي يعنى التجربة وضرورة خوضها وصولا الى الخبرة المطلوبة وتحقيقا لاهداف تخدم الفرد ومن ثم المجتمع، فالتربية البرجماتية  تستشرف مجموعة اسس  اهمها، إن تكون أداة حل للإنسان مع بيئته الاجتماعية الاقتصادية، وان تمثل عملية الفعل والاداء نظام تجريبي مبرمج يؤسس خبرات ويعتمد على خبرات تسبقه، وعلى وفق الظروف المتعاقبة التي عانى منها البلد وكثرة الحروب وطوال امدها وتعدد الغزوات والانتهاكات في هذا البلد الجريح وما تخلفه تلك المواقف والمشاهد من مناظر قبح وتشويه للسلوك الانساني السوي، لاسيما في غياب الدور المؤسساتي المعني بالتربية الجمالية وتفعيل الفن والمسرح على وجه التحديد، إذ شمرت العتبة الحسينية عن امكانيتها من اجل استقطاب الطاقات والمواهب من كافة محافظات العراق، بل وتجاوزته نحو الانفتاح على العمق العربي والمحيط العالمي الذي شهدناه في المهرجان في دورته الخامسة والتركيز على نوعية العروض ودقة انتاجها وتنفيذها، فوجدنا عروضا سورية وتونسية وعراقية ومصرية واخرى من دول اجنبية جاءت متعاضدة لتشكل نتاج جمالي متكامل.

لم يقتصر دور قسم راية الطفولة في العتبة الحسينية على انتاج الجمال ورعايته واقامة الورش ومتابعتها، بل عمد  جاهدا الى نشره بعد ان مدّ افاقا تواصلية مع الجمهور عبر دعوة المدارس المجانية لإحضار تلاميذهم الى صالات العرض المسرحي ومتابعة الفعل الجمالي الذي قد يكون المتلقي مصدوما ومندهشا عند رؤيته بوصفه نشاطا غير متاح بشكله الفاعل ضمن جدران الابنية المدرسية والتربوية. ولا يفوتنا هنا ان العتبة الحسنية قد خلعت بذكاء وحنكة عن هذا النشاط صبغته الدينية التي قد يتهمه البعض بها نحو ثوب تربوي اشمل يتخذ من مبادئ الدين الحنيف وسير الصحابة والاولياء اهدافا ومرتكزات اساسية بعيدا عن النصح والمباشرة نحو فضاء لعبي ممتع يُدخل المتلقي(الطفل) في التجربة ويكسبه الخبرات والمعارف.

شكرا لقسم رعاية الطفولة وللعتبة الحسينية وللقائمين على هذا الجهد الجبار الذي عجزت عنه ولسنين طوال مؤسسات حكومية تعنى بالطفل وفنونه، لاسيما في انبثاق واستمرار مهرجان دولي لمسرح الطفل في العراق وللسنة الخامسة على التوالي. إذ لم تتقوقع في دورها الوعظي الشرعي بل عمدت الى كسر تلك الحدود نحو بناء شامل متكامل لشخصية الطفل بعد وعي ودراية ان التربية بالترغيب والامتاع هي اقرب الى النقش على الحجر.

المعاشة وعدم اعتماد المدرس كوسيط اساس للمعرفة)[1] وكما يقول ديوي (ان المعرفة لم تعد مادة جامدة غير قابلة للنقل، لانها اذيبت واخذت تنتقل من بحيوية في كل تيارات المجتمع)[2] فينبغي ان تحقق اعلى مراحل الاكتساب والنفعية في حياة الانسان اقتصاديا واجتماعيا، فضلا عن ضرورة كونها خلاقة مبدعة تشحذ قوى الابداع أي انها تربية تجريبية تؤسس لخبرات وتُنتج خبرات.

يؤكد (جان بياجيه) على الطرائق التي تأخذ بحساباتها طبيعة المتعلم الخاصة وقوانين التكوين السيكولوجي له ونموه وتطوره وصولاً إلى تكوين شخصية قادرة على التعلّم الذاتي عبر زجه في مواقف بيداغوجية لاكتساب الخبرة باستعمال أنشطة عملية وذهنية تكسر قيود الافكار الجاهزة المتوارثة، وهذه المواقف ترتكز على التالوث البيداغوجي المتمثل بـ(المدرس، والتلميذ، والرسالة التربوية) مرتبطا بتواصلية الرسالة كونها جزء من عملية التواصل من مرسل الى متلق شرط اعتماد مركزية المتعلم في الفعل البيداغوجي عبر مساحات من الحرية (تتحقق المعرفة خارج الذات وعملية الاكتساب ذاتية عبر التفاعل المباشر مع المعرفة يشكل المدرس وسيطا موجه بينها وبين والمتعلم)[3]وهنا يبرز دور المدرس في خلق توازن بيداغوجي يضمن فاعلية كل عنصر بما يحقق سيرورة بيداغوجية ناجعة.

يشترط في الموقف البيداغوجي دقة بناء الرسالة وإخراجها، عبر مراعاة الجانب النفسي للمتعلم وتوظيف الاساليب الاكثر قربا، والتنحي عن الاطالة لتجنب الملل، كذلك فحص الرسالة جيدا لتحاشي وجود الاخطاء النحوية والطباعية كي نحافظ على سلامة مضمون الرسالة من التشويه والتشتيت، مع انسجام بناؤها اللغوي مع المستوى الذهني للمتلقي الطفل، وضرورة احتواء الرسالة البيداغوجية قيماً بيداغوجية تعتمد في ايصالها على التكرار لترسيخها في ذوات المتعلمين وتشكل غاية لديهم في تلبية احتياجاتهم النفسية والمعرفية والوجدانية في جو من الاثارة والتشويق يعتمد التنويع والوضوح في المثيرات والعلامات المبثوثة.
[1] المصدر نفسه ، ص30.

[2] جون ديوي: المدرسة والمجتمع، ت: احمد حسن الرحيم، منشورات دار مكتبة الحياة، لبنان، 1978، ص47.

[3] مختار بروال. التواصل البيداغوجي ومعيقاته-مقاربة تحليلية من منظور العقد البيداغوجي الحديث. مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية. العدد الخامس، فيفري، جامعة الوادي، 2014، ص91. 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/02/01



كتابة تعليق لموضوع : التربية بين الترغيب والترهيب [مهرجان الحسيني الصغير انموذجا ]
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net