صفحة الكاتب : ليث العبدويس

يوميّاتُ مَدينَةٍ مَذبوحة
ليث العبدويس

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 ما عَسايَ أقولُ لِصِبيةِ تِلكَ المَدينَةِ المَفتوحَةِ الشَرايينِ والمُستباحَةِ الأورِدة؟ ما مَعنى الهُراءِ والغُثاءِ والعَقائِرِ العاليةِ الصُراخِ لِطُفولَةٍ شاخَتْ سَريعاً على أنغامِ اختِراقِ جِدارِ الصوتِ والجَماجِمِ والجُدرانِ المَثقوبَة بمليونِ رَصاصَة؟

 
 وأيُّ عَزاءٍ تُراهُ سَتعنيهِ كَلِماتي لأُمّيَ الكَفيفَة التي تُحاصِرُها اليومَ قُطعانُ الذِئاب في ضَواحي بَلدَتي المَعزولة، أُمّي التي صَادَرَ عَصْفُ القَنابِلِ نورَ عينيها ومَحى مَلامِحَ أولادِها مِن صَفحَةِ ذاكِرَتِها المُتعَبة؟ مَدينَةٌ تَجلِدُ بِسياطِ صُمودِها ظَهرَ ضَميرِنا الضامِر وَرُجولَتِنا العَقيمة، تُذَكِرُنا كُلَّ يومٍ أننا خَذلنا البَراءَةَ وَتركنا الأقزامَ القَميئَةَ تَسحَقُ سوسَنَ الشامِ وأعشاشَ الحَمامِ، فيا بؤسَ ببغاواتِ الصَدى، وَيا رُخصَ المُتثائِبينَ بِكَسَلٍ يُنَقِبونَ عَنِ الدُرّ في مَزابِلِ أَزِقّةِ الدَهر المَهجورَة، وَعلى فُرُشِ الغواني الروميّة، تَبعثَرتْ آخِرُ مُروءاتِنا العَرَبيّة.
 
حِمصُ أتُراكِ لازِلتِ تَذكُرينَني؟ أمْ تُراكِ سَليتِ عَنْ ذِكرايَ اليوم؟ أتذكُرينَني وأنا الذي مَررتُ بِكِ يوماً مُرورَ الكِرام وَمُروقَ السِهامِ لِسويعاتٍ ثُمَّ رَحلتُ، لكِنّكَ تأبينَ الرَحيلَ عَنْ مَساماتي أو الانسحابَ مِنْ خُطوطِ تَماسي.
 
 رَحلتُ سَريعاً غيرَ أنَّ بِضعَةً مِنّي أو بِضعَةٌ مِنكِ – لا فَرق – استوطَنَتْ فيكِ تَلّةً أسمُها الحُب، وأزهَرَتْ تَعلُّقاً لا أفهَمُ كَنَهَهُ لَكنّي أُعاني شَظايا تَفجُّراتِهِ المؤجَّلَة وَتوابِعِهِ الواخِزة، بِكِ اختَصَرتُ كُلُّ تَشرُّداتي وَهَفواتي وَضلالي وَيقيني العابِرِ لِحُدودِ الشُكوكِ والقَلَقِ، تَحولتُ إثرَ ذَلكمَ المُرورِ العابِرِ إلى مُجرّدِ بوصَلَةٍ مُعطَّلة تُشيرُ باستِمرارٍ إلى حيثُ تَغفو عيناكِ الشاميتانِ الواسعتان، إلى قارَبٍ مُنجَذِبٍ صوبَ مَرفأكِ الهادئ الواعِد، الى الفَنارِ والمَنارِ والحُضنِ والجَناحِ الدافئ، إلى مَحضِ جوازِ سَفَرٍ تَلاشَتْ مِنْ عَلى صَفحاتِهِ كُلُّ تأشيراتِ الإقامَةِ إلّا التي صادَقَتْ عَليها سُلُطاتُ عِشقِكِ المَمنوعِ عَنْ التَفسيرِ والتأويلِ والتَحليل.
 
 يا حِمصُ يا أيتُها الحَسناءُ الأسيرة الهارِبَةُ بِقَدَميها العاريتينِ مِنْ قافِلةِ النَخّاسينَ وَتُجّارِ الرَقيقِ على رِمالِ الحُريّة الكاويةِ وَصَفيح الكَرامَةِ الساخِنِ ، يا عُشبَةَ الخُلدِ التي انشَقّتْ على جُمهوريّةِ الشوكِ والأدغالِ وَرَفَضتْ كُلَّ قَراراتِ الإقالةِ والتَنحّي وَتَمنطَقَتْ بالبارودِ والهولِ، ألا زِلتِ كَما أنتِ تتألقينَ في مُخيلتي؟ أمْ تُرانا إذا ما التَقينا أنكَرتُكِ مِنْ فَرطِ ما رانَ على وَجهَكِ الوضّاءِ الجَميل مِنْ قَتَرِ الحَربِ وَرَهَقِ المَعارِكِ؟ أتُراني قادرٌ اليومَ أنْ أُميزَ ذاكَ الحُسنِ الذي فَشِلَتْ كُلُّ المُدُنِ في تَنحيَتِهِ عَنْ عَرشِ القَلبِ وَمِحجَرِ العَينِ أمْ أنّهُ يَحتَجِبُ اليومَ خَلفَ اللفائِفِ والضَماداتِ السَميكة؟
 
 يا حِمصُ لستُ أدري أينَ أذهَبُ بِباقَةِ وَردي، وَعِطري، وَهدايايَ الصَغيرة، وأنتِ التي تَشَتَّتَ مَصيرُكِ بينَ المَشافي المُكتَظّةِ والمَدافِنِ الغاصّةِ وَصَقيعِ المَشرَحَةِ المُتخَمَة، أينَ أعثُرُ عَليكِ بينَ أنيابِ هذا الإعصارِ الهائِج؟
 
أعلَمُ أنّكِ أكبَرُ مِنْ كُلّ حَماقاتي وَنَزواتي، أنتِ الأسطورَةُ التي تتضاءَلُ بِجنبِها كُلُّ الحَقائِق والوَقائِعِ والأحداث، الطُموحُ الذي سَما على كُلّ الَمخاوِفِ، أنتِ البَراكينُ التي لَمْ يَستَطيعوا رَدمَها، مِعراجُ الشُهداء الذي سَتفشَلُ شياطينُهُم في اعتِراضِه، ثَمَنُ الكَرامَةِ التي يَستَحيلُ أنْ تَبخَلينَ بِها مَهما تَعَسّفَ اللِئام، الخُرافَةِ التي وُلِدتْ عِندَما صَمَتَ شُهودُ العيانِ أو تَراجَعوا عَنْ الإدلاءِ بِها أمامَ هيئَةِ المُحلّفينَ، القَضيّةُ ذاتَ الرَقَمَ (1) التي تُبدي استعداداً للاستمرارِ في التَرافُع مادامَ هُناكَ تاريخٌ يُكتَب وَذاكِرَةٌ تُسَجّل، المَتاريسُ التي لَقَنَتِ العِنادَ دَرساً في العِناد تتصاغَرُ بِجَنبِهِ كُلُّ الدُروس، الإصرارُ الذي لَمْ يَعُدْ بشريّاً في القياسِ والأبعادِ على الوُصولِ إلى حوافّ المُحالِ وتُخومِ الخيالِ.
 
أكادُ يا حِمصُ ألمَحُ في جُرحِكِ الغائِرِ تَباشيرَ الفَصلِ الأخيرِ لِسُلالَةِ الطُغاةِ وَنَسلَ أنصاف الوُحوشِ الآدَميّة، أرى التِماعَ جَبينِ الشَمسِ على قِمَمِ المَنائِرِ الدِمَشقيّة، أرى الرَبيعَ يَنداحُ رَقراقاً صافياً عَذِباً في خاتِمَةِ الشِتاءِ القارِسِ الطَويل، وَقَدْ آنَ للطُيورِ أنْ تَعودَ لأوكارِها وللنَحلِ أنْ يُغادِرَ قَفيرَهُ وللحَياةِ أنْ تُطِلَّ عَلى مُحيّاكِ بابتِسامَةٍ خَضراء.
 
 
 
 -  بغداد  - alabedwees@yahoo.com  

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ليث العبدويس
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/02/15



كتابة تعليق لموضوع : يوميّاتُ مَدينَةٍ مَذبوحة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net