صفحة الكاتب : د . مصطفى يوسف اللداوي

محاولةٌ للهروبِ من كوابيس كورونا وهواجِسِه
د . مصطفى يوسف اللداوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أحاول بكل السبل الممكنة الهروب من موضوع فيروس كورونا، والتخلص من وساوس المرض وكوابيس الوباء، وغض الطرف عن سلسلة الشروط وقائمة الإرشادات ومطولة الممنوعات وجدول التعليمات، والابتعاد قليلاً عن نشرات الأخبار اليومية ومحطات التلفزة العالمية، والانقطاع عن البرامج السياسية والاقتصادية والطبية والصحية التي تتحدث عن الوباء وتحذر منه، وتعدد مظاهره وتسجل حوادثه، وتنقل صوره وتنشر أخباره، وتحصي ضحاياه من الموتى والمصابين، وترصد آثاره الاقتصادية وتداعياته على أسواق المال والبورصات العالمية، ومستقبل سكان الأرض ومستوى معيشتهم، وترسم صورةً قاتمةً للعالم الآخذ في الترنح والسقوط، والانهيار والضعف، فما أصابه من كورونا لا تُجدِ معه مشاريعُ الإغاثة ولا برامج التنمية أو خطط النهوض.

 

كوابيس الوباء وهواجس المرض ورعب الإصابة به، ضيقت علينا رحب الحياة وسعة الدنيا، وجعلت حياتنا فيها صعبة ومعقدة، مُرّةً وقاسية، وحرمتنا من متعة الاستمتاع فيها والإفادة منها، وحبستنا في دورنا، وحَرَّمَت علينا الخروج منها إلا فرادى وبضوابط صارمة، ومنعتنا من مزاولة أعمالنا والسعي لكسب قوت يومنا، فخلت الشوارع من المارة، وأغلقت الأسواق والمحلات التجارية، وتوقفت الحافلات والسيارات العمومية، وتعطلت الجامعات والمدارس، وأغلقت المساجد والكنائس، وضربت أطواقٌ على الحدود والمعابر، وأغلقت المطارات وتوقفت الملاحة الجوية والبحرية، وغدت الحيوانات الأليفة مكروهة، والقطط والكلاب مطرودة، ومنع صيد الطيور الوافدة والمهاجرة، فهي تثير الرعب وتخيف، وقد تنقل الأمراض وتصيب.

 

وتعطلت متعة النساء الفطرية، وتوقفت عن ممارسة وسيلة التسلية والتسرية التاريخية، فلم يعدن قادرات على التسوق والتجوال، والتمتع بمشاهدة واجهة المحال وجديد الأزياء، وامتنعن عن استخدام أدوات الزينة وأنواع المكياج الشهيرة، وقَبَعنَّ في بيوتهن بائساتٍ حزيناتٍ أسيراتِ الحالة، ينتظرن الفرج، ويسألن الله عز وجل السلامة لهن ولأحبابهن، وعاجل النجاة من المرض أولاً، وسرعة الخلاص من المطبخ ثانياً، فقد سَكَنَّ فيه وقَرنَّ، وتعبن من كثرة الطلبات وتنوعها، وضقن ذرعاً من حيرة الأولاد وتبرم الأزواج، الذين تتفتق أذهانهم عن مأكولاتٍ غريبةٍ وأطعمةٍ عجيبةٍ، يقضون الليل كله سهراً في أكلها والتلذذ بها، ثم يمضون سحابة النهار نوماً فلا يصحون حتى تميل الشمس نحو الغروب أو تغرب، لينهضوا من نومهم ويعيدوا تكرار ليلتهم السابقة من جديدٍ.

 

نزلت إلى الشارع الذي كان يضج بحركة السيارات والدرجات الآلية والمشاة، التي تبعث الحياة في سواكن الوجود، علني أستطيع الخلاص من أجواء البيت المشحونة بأخبار المرض، وتجنب سماع إحصائيات الجهات الطبية المثيرة للقلق، فوجدته خالياً من المارة ومن سكان الحي، إلا من قلةٍ منهم يضعون الكمامات ويلبسون القفازات، يقضون مشياً على الأقدام حوائجهم ويتجنبون الاحتكاك بأحدٍ، بينما السيارات فيه متوقفة على جانبي الطريق وقد طالت فترة وقوفها، وامتنع أصحابها عن استخدامها التزاماً بالتعليمات، وخضوعاً للإرشادات بالبقاء في البيوت، وأحياناً خوفاً من الغرامة المالية التي تحررها الشرطة ضد المخالفين.

 

أما إذا رغبت في شراء بعض حاجيات البيت الضرورية، فيفاجئني موظفون بالزي الطبي يقفون على أبواب التعاونيات ومحلات البقالة والخضار الكبيرة، يلزمون الزبائن بتعقيم أيديهم قبل الدخول إلى المحال التجارية، وينظمون دخولهم إليها لئلا يتزاحموا فيها أو أمام صناديق الحساب، ورغم ذلك فإن الناس حذرة تخاف من الاقتراب من بعضها، وتتجنب ملامسة ما سبق لغيره أن لمسها، وكأن الموت مزروعٌ في كل زاويةٍ من المحل، رغم أن أكثرهم يلبسون القفازات ويضعون الكمامات.

وإدا قررتُ الانزواء في البيت والاعتكاف بعيداً عن الناس، والانشغال بالهاتف والاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي، أو المباشرة بكتابة مقال أو التحضير لدراسة، انهالت علي الاتصالات من الأصدقاء والمعارف، ومن الأهل والجيران، من داخل القطر وخارجه، وكأنه لا موضوع بيننا غير الكورونا ولا حديث عن سواها، فهي الشغل الشاغل والموضوع المشترك، والكل خلالها بين ناصحٍ وموجهٍ، وعالمٍ وخبيرٌ وطبيبٍ ومعالجٍ، يصف ويحلل ويحذر وينبه، حتى بات الجميع لهول ما يسمع يعيش في حالةٍ من الهوس والهلع، فيخضع لكل نصيحةٍ، ويستجيب لكل توجيهٍ، ويعمل بكل أمرٍ نهياً أو استجابةً.

 

حرتُ وضعتُ وأنا أحاول نسيان المرض والتخلص من هواجس الإصابة فما استطعت، رغم أنني حاولت واجتهدت، ولكن كل ما حولنا في البيوت وخارجها، وعلى شاشات التلفزيون وصفحات التواصل الاجتماعي يذكر به ويتحدث عنه، حتى النكتة صارت عنه، والدعابة أخذت تستقي منه الفكرة وتنسج حوله الطرفة، والملاطفات الخفيفة والسمجة تعتمد عليه وتنسج خيوطها منه، فهل حقاً نستطيع أن ننساه قبل رحيله، أو نقوى على إهماله في ظل وجوده، أم أنه سيوجعنا قبل أن ننتصر عليه، وسيؤلمنا قبل أن نضع له خاتمة، فنخسر كما ينذر العالمون بالمرض والعارفون بمخاطر الفيروس أحبةً لنا وأصدقاء.

 

بيروت في 26/3/2020

moustafa.leddawi@gmail.com


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مصطفى يوسف اللداوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/03/26



كتابة تعليق لموضوع : محاولةٌ للهروبِ من كوابيس كورونا وهواجِسِه
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net