صفحة الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي

الشيخ المعتكف والأديبة العراقية.. وحظر التجول
محمد جعفر الكيشوان الموسوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قبل خمس سنواتٍ وازدادوا شهرا، كتبتُ تعليقاً حول موضوع نشرته إحدى الأديبات العراقيات وذكرت مختصرا لقصةِ شيخٍ مُعتكِف. إليكم القصة كما أنزلت.

إعتكف احد الشيوخ مدة طويلة وإنقطع عن خلق الله أجمعين. خرج  بعد ذلك يسأل عن أحوال العباد، وقبل أن يجيبوه. سألوه: شيخنا الفاضل، ألم تضجر كل تلك المدة الطويلة وتشعر بالوحدة في خلوتك وإعتكافك؟

أجابهم الشيخ: أبداَ. لم يكن ذلك كذلك.

قالوا بتعجب شديد: كيف ياشيخنا؟

قال: لم اضجر لأني لم أكن وحيدا. فقد كنت مع الله، أكلمه ويكلمني. ومَن كان حاله مثل حالي لايضجر.

قالوا شبه منكرين عليه: أن تكون مع الله نفهم ذلك، فمن كان مع الله كان اللهُ معه. ثم تابعوا: لكن أن تكلمه ويكلمك هذه صعبة الفهم.

قال الشيخ: إذا أردتُ أن أستمع لله تعالى وهو يكلمني فأقرأ القرآن. وإذا أردتُ أن أكلم المولى الكبير المتعال، فادعوه وأناجيه، فهو تعالى أسمع السامعين. كتبتُ في التعليق وقتئذٍ مختصرَ هذه القصة، لكن السيدة الفاضلة أستاذتي الموقرة، إعترضت بأسلوب مهذب وقالت: سيد، بمثل هذا تتوقف عجلة الحياة وتُشَل حركة المجتمع.

كان بإمكان هذا الشيخ أن يقرأ القرآن ويدعو  الله تعالى بفنون الدعوات بلا إعتكاف. إنتهى.

تعليق..

بعيدا عن الخوض في الإعتكاف لغة وشرعاَ،والذي هو من السُنّة النبوية عند عموم المسلمين. وبعيدا عن واجبات ومستحبات ومحرمات وأماكن وأوقات الأعتكاف عند المدرستين. أقول أن ذلك الشيخ العالم الجليل كان قد إعتكف إستحبابا، أي من تلقاء نفسه دون أن يكرهه أحد . أراد أن يتفرغ لنفسه ويشتغل بإصلاحها ويشكوها لخالقها: (( إلهي إليكَ أشكو نفساَ بالسوءِ أمّارة، وإلى الخطيئةِ مبادرة، وبمعاصيكَ مولَعَة...)).

ثم يرجوه لخير الدنيا وخير الآخرة: (( إلهي مَن الذي نَزَلَ بكَ مًلْتَمِساً قِراكَ فَما قَرَيته، ومَنِ الذي أناخَ بِبابِكَ مُرْتَجياَ نَداكَ فما آويْتَه، أيُحسَنُ أن أرجِعَ عن بابكَ بالخيبةِ مصروفا...)).

ذلك الشيخ كان عالماَ ربانياَ يدعوا للعباد أن يرحمهم خالقهم ويرحمه معهم وبهم، فلا توقف لعجلة الحياة بإعتكاف الصالحين الورعين المتقين عباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا. ليس في ذلك عجبا. عجبتِ لسقمي صحتي هي العجبُ.

 ليس العجب في الإعتكاف. إنما العجب هو في زماننا. نلزم البيوت من غير إعتكاف!!!

وشيخ آخر إعتكف بنذر..

كنت حاضرا بل كنت مدعوا لتناول العشاء مع ذلك الشيخ الجليل. كلما أراد الشيخ  الزاهد الورع أن يعظني وينير طريقي، دعاني لتناول لقيمات معه كي لايكون اللقاء كدرسٍ في الأخلاق،يورث الملل لصغار السن أمثالي آنذاك.

كعاته التي دأب عليها  كل مرّة يقوم إحتراماَ لي أنا الصبي الذي لم أكن ابلغ الحلم بعد. تلك الليلة رأيت الشيخ مهوما كئيبا حزينا وما شاركني الالعشاء ولو بلقمة واحدة. طلب مني أن أبدأ، بسم الله على أوله وعلى آخره. علما أن طعامه ليس في آخره. فهو لايجمع نوعين من الطعام في وجبة واحدة. أفسح لي وتنحى عن مجلسه قليلا وقال لي  بأنه سوف يأكل فيما بعد. ولم يفعل. قلت: مولانا الكريم، وعدتني أن تأكل ولم تفعل. وإنما تركتني لوحدي أنسف الصحن نسفا، فلم أبقِ لك من باقية.

تبسم على مضض، لكنه سرعان ماعاد إلى ماكان عليه. بدأتُ اقلق على الشيخ ولاأدري كيف أبدا الحديث معه، فليس لائقا من كان بمقامي أن يسأل الشيخ عمَّ أصابه. شردتَ بذهني عن الشيخ فإنتبه لحالي وقال:

أعرف أنك تفكر بحالتي يابني. سأجيبك على سؤالك عن الأكل معك ثم أخبرك بحالتي الليلة.

نعم.. وعدتك أن آكل معك ولم أفعل. لكني وعدتك بسوف وليس بالسين. عرفت أنه سوف يأكل فيما بعد ولكن ليس معلوما متى بالتحديد. قاطعته: خيرا ان شاء الله مولانا الكريم!!!

كان فعلاَ كريماَ حتى مع البخلاء. وكان كريماَ بنصحه ومواعظه  مع الغافلين أمثالي.

أمّا حالتي الليلة فيرثى لها. لقد إرتكبتُ معصية بسبب إهمالي، وقد عاقبتُ نفسي بعدم تناول العشاء حتى الصباح، ونذرت أن اعتكف من غدِ لإصلاح نفسي. أني خجلَ منك الليلة فقد حضرتَ لتتزود بشيء ينفعك فوجدت الشيخ  ـ الكلام للشيخ ـ ينطبق عليه االقول ( طبيب يداوي الناس وهوعليل). زاد قلقي على الشيخ وقلت حاشا الشيخ أن تكون له معصية. كان الشيخ في ذلك اليوم متعباَ فإستلقى على أمل أن يصلي الظهر بعد ان يستريح بعض الشيء، ولكنه غط في نومِ عميق ولم ينتبه من نومه إلاَ والشمس قد غَرُبَتْ. عاقب نفسه الشيخ بالإمتناع عن تناول العشاء وبقى جائعا حتى الصباح وهو يردد(( رَبَّنا اصْرِفْ عَنّا عذابَ جّهّنَّمَ إنَّ عّذابها كانَ غَراما)). وصام ثلاثة أيام معتكفا ليؤدب نفسه. طلب مني الشيخ أن أدعو الله تعالى أن يسامحه وأن لايأخذه ( بجريرته) وقال وهو يشيعني بعدة خطوات: أعتذر لك يابني، فلم تكن هناك موعظة الليلة بعد تقصيري وإسرافي على نفسي. قلت في نفسي: أنها لعمري أبلغ وأحسن موعظة يحتاجها أمثالي. هؤلاء العظماء يُحاسبون أنفسهم قبل أن يُحاسبوا، ويخافون يوماَ عبوساَ قمطريرا. ((فهلْ مِن مُدّكِر))!!!!

أقول..

الآن.. نعم الآن.. هذا الآن العجيب..

أعتكف الخلق كلهم بالإكراه وحتى أن بعضهم أخذ يتمرد على الحجرالصحي وحظر التجول وربما التجوال أيضاَ. بعض الدول تستقبل الشَرَطَة فيها المتمردين الذين يكسرون الحظر أو المنع، تستقبلهم بالعصي الغليظة والهراوات وأخيرا بالغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه، واذا لم يرتدعوا ويعودوا لبيوتهم، فربما يستعملون معهم خراطيم أخرى. والله اعلم.

الشيخ أعتكف ليتجرد عن ملذات الحياة وهؤلاء يكسرون الحظر ليتجولوا في الأسواق. لالشراء مايتقوون به على أمر دينهم ودنياهم. بل لأنهم لايطيقون البقاء في المنزل لأنهم إعتادوا على الأراكيل والمقاهي لسد فراغ التخلف والجهل. قال احدهم  غاضبا أن الأمر فظيع فماذا عساي أفعل في البيت. هل أقابل الزوجة أم سأكون مربيا للأولاد. ألا يكفي أني أكدح من أجلهم. وآخر وثالث... .

الشيخ المعكتف يكلم الله ويكلمه الله. وفي الحجر الصحي والحظر لزم الناس مساكنهم لضرورة أُسْتُحدِثَت ولم تكن في الحسبان. الأمر صعب لايُحتمل قالها قائل من الحجر الصحي. لقد تكأبنا وأصبنا بعقد نفسية قالها أحد ممن حظر عليه الخروج إلاّ لضرورة. علماَ ان الأرشادات والتعليمات الصباحية والمسائية وبعضها على مدار الساعة من أجل محاربة الملل والضجروعدم الشعور بالوحدة. برامج متنوعة، ترفيهية، تعليمية، علمية، أدبية،دينية،لادينية، أخلافية وحتى لاأخلاقية. برامج وحلقات بأسماء مختلفة وعناوين شتى. معكم قي البيت، أكيد أنتو في البيت، في البيت أيوه برا لا، نحن معكن في البيت، إحنه وياكم ياجماعة. حتى تمارين رياضة كمال الأجسام وتمارين الكارديو( حرق الدون) وتمارين شد الأرداف وبناء العضلات وشد البطن وسكس باك، كل تمارين الجيم أُستُبدِلَتْ بتمارين منزلية. وكذلك تمارين الجري والمشي السريع أصبحت وأنت في مكانك من غير صالات رياضية. تأمل سيدي الكريم المنظر!!! وتأملي سيدتي الكريمة الموقف!!!

الشيخان المعتكفان كانا يسعدان بمناجاة الله سبحانه والإعتراف بتقصيرهم. يرجون رحمته ويخافون عقابه. فهم بين يديه تعالى بين خوف ورجاء.

ونحن وحتى في الحظر، يُذّكرنا الأخيار بتلاوة القرآن ومجربات بعض الأدعية وخواص بعص سور القرآن وآياته. الوتس آب شغّال خشية إدبار القلوب التي هي أساسا مدبرة حتى مع الذكرى. بعضنا يزنها بالغرامات والأونصات: كم أجر قراءة آية الكرسي. وهل قراءة إنَا أنزلناه تزيد في الرزق؟

حدثني أحد أصقائي وهو أستاذ في الحوزة العلمية الشريفة. إنه كان يعرف احد التجّار وهو دائم التسبيح وكان الشيخ يعرف أن ذلك التاجر غير ملتزم فهو تاركٌ للصلاة، تسبيح ذلك التاجر أثار فضول الشيخ فسأله ذات مرّة: أراكَ ياهذا وكأنّك تسبح، فماذا تقول في تسبيحك.

أجابه التاجر قائلا: أنا اكثر من قراءة سورة القدر فقد سمعتُ أنها تزيد في الرزق. لايصلي لكن يطمع ان يزيد الله تعالى قي رزقه ويضاعفه له اضعافا كثيره فقد استفحل فس قلبه الحرص على المال والبخل في الإنفاق، ويطمع ان يزيده الله من فضله. قيل قديما:

صلى وصام لأمرٍ كان يطلبه         فلّما إنقضى الأمر لا صلى ولا صاما

غريبُ امر هذا التاجر:

لاصلى ولاصام لأمر كان يطلبه    فلّما إنقضى الأمرُ لا صلى ولاصاما

صلوات الله على أمير المؤمنين ومولى الموحدين. فمن يقوى على عبادة علي إلاّ علي عليه السلام(( ... لكني وجدتك أهلاّ للعبادة فعبدتك)).

للشيخين المعتكفين الرحمة وحسن مآب.

ولي ولأمثالي العبرة والصبر على صروف الدهر وان لا أكون (( كالتي نقضت غزلها من بعدِ قوةٍ أنكاثا)).

اللهم إنك تفضلت وتكرمتَ وقلت في كتابك العزيز: (( ومايعلمُ جُنودَ رَبِّكَ إلاّ هوَ وماهيَ إلاّ ذِكرى للبَشَر)).

ونحنُ ياربِّ نعلمُ ان لامنجي ولامنقذ ولامخلّص لنا من هذا الجندي غيرك. فنحنَ عيالك وفي مملكتك. أنت المليك ونحن العبيد. فياسبحان مَن لايعتدي على أهلِ مملكته، وياسبحان مَن لايأخذ أهل الأرضِ بألوان العذاب، وياسبحان الرؤوف الرحيم. نحن أي ربي عُزّلٌ في هذه المعركة ولا حول لنا ولاقوة إلاّ بك. إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين. يامن إسمه الرؤوف الرحيم. ويامن سبقت رحمته غضبه. نحن ياربِّ على اختلاف ادياننا ومذاهبنا ولغاتنا وألواننا، نتوجه إليك طالبين منك الغوث والنجدة. سفينتنا تمخر قي بحر لجيّ تغشاه فتن من فوقها فتن. ظلمات بعضها فوق بعض. رحماك يارب نستغفرك ونتوب إليك. ونستغفرك ونتوب إليك مرة أخرى عمن أخذته العزة بالإثم وإطمأن لرحمتك الواسعة وشغلته الدنيا وملذاتها عن الآخرة وحسابها وعذابها ـ لاسمح الله ـ .

أيها العزيز مسنا واهلنا الضر.

أيها السيد نستجير بك مِن سخطك.

يالله يامن لايُقال لغيرك يالله. إرحم عبادك وخلقك فقد أمرتنا بالرحمة وسميت نفسك أرحم الراحمين.

ربنا وتقبل دعاء.

نسأل الله العافية


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد جعفر الكيشوان الموسوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/04/22



كتابة تعليق لموضوع : الشيخ المعتكف والأديبة العراقية.. وحظر التجول
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net