صفحة الكاتب : الشيخ عبد الامير النجار

من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
الشيخ عبد الامير النجار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ) سورة البقرة: 207.

 

* انتهاك حرمة ليلة القدر

تعتبر ليلة التاسعة عشر من شهر رمضان المبارك ليلة مباركة، وهي من الليالي التي يرجى أن تكون من ليالي القدر الشريفة، التي هي خير من ألف شهر؛ وذلك لعظم قدرها وشدة حرمتها، وأن للطاعات فيها قدراً عظيماً، وثواباً جزيلاً.

فضلاً عن أن نزول القرآن الكريم كان في ليلة القدر المباركة، هذا بالإضافة إلى نزول الملائكة ومعهم جبرائيل (عليه السلام) إلى الأرض؛ ليسمعوا الثناء على الله، وقراءة القرآن، وغيرها من الأذكار في هذه الليلة الشريفة.

وعلى كل حال، فإن ليلة القدر ليلة شريفة، لا تضاهيها في الشرف والسمو باقي الليالي، ولكن مع كل هذا وبالرغم من كثرة الأحاديث الشريفة الواردة في حق هذه الليلة، نرى أن حرمة هذه الليلة قد انتهكت، وأُتي فيها من العمل ما (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْـجِبَالُ هَدًّا) سورة مريم: 90.

فقد أقدم أشقى الأولين والآخرين ـ ابن ملجم المرادي (لعنه الله) ـ في ليلة التاسعة عشر من شهر رمضان المبارك من سنة أربعين للهجرة المباركة، على ضرب أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) على أم رأسه غيلة، وهو في محراب الصلاة، يصلي صلاة الفجر في مسجد الكوفة.

 

* تهديم أركان الهدى

نعم، لقد انفطرت السماوات، وانتثرت الكواكب، وتكورت الشمس، وانكدرت النجوم، وتفجرت البحار، وتدكدكت الأرض، وخرت الجبال، ووقعت الواقعة، التي ليس وقعتها كاذبة.

فضجت الملائكة في السماء، وهبت ريح عاصف سوداء، ونادى جبرائيل (عليه السلام) بين الأرض والسماء، بصوت يسمعه كل مستيقظ: (تَهَدَّمَتْ وَاللهِ أَرْكَانُ الْـهُدَى، وَانْطَمَسَتْ وَاللهِ نُجُومُ السَّمَاءِ وَأَعْلَامُ التُّقَى، وَانْفَصَمَتْ وَاللهِ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، قُتِلَ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدٍ الْـمُصْطَفَى، قُتِلَ الْوَصِيُّ الْـمُجْتَبَى، قُتِلَ عَلِيٌّ الْـمُرْتَضَى، قُتِلَ وَاللَّهِ سَيِّدُ الْأَوْصِيَاءِ، قَتَلَهُ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ)[1].

 

* لماذا يقتل علياً

ولكن لماذا يقتل علياً (عليه السلام) أيها المؤمنون؟!

فهل حلَّل علي (عليه السلام) ما حرَّم الله أم حرَّم ما أحلَّ الله؟!

أم لم يقم أحكام الله وتعدى حدود الله؟!

ثم هل غيَّر علي (عليه السلام) سنَّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!

أم لم يسر بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!

ثم متى قُتل علياً (عليه السلام)؟!

ومن هذا الذي قتلَ علياً (عليه السلام)؟!

هل كان ابن ملجم (لعنه الله) وحده أم اشترك معه آخرون؟!

وهل ما زال مسلسل قتلُ علي (عليه السلام) مستمراً؟!

ثم لماذا يستهدف علياً (عليه السلام) وإلى يومنا هذا؟!

كل هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى كثيرة تدور في خلد الموالي لعلي (عليه السلام)، يريد جواباً شافياً عنها؛ علها تطفئ نار الحرب المستعرة ضد علي (عليه السلام)، حتى بعد غياب شخصه عن الدنيا وإلى يومنا هذا، وستبقى إلى أن يأذن الله لوليه بالفرج، فيطهر الأرض من أعداء علي (عليه السلام)، ويطوح بأوكار الظلم والجور، ويقيم بدلها صروح العدل والقسط، إن شاء الله تعالى.

 

* متى قتل علي

إن مقتل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كان في نفس اليوم الذي أغمض رسول الله (صلى الله عليه وآله) عينيه عن هذه الدنيا، وارتحل عنها ليلتحق بالرفيق الأعلى، فقد كان (صلى الله عليه وآله) عالماً بذلك، وما سيحل بعلي من بعده؛ ولذلك كان يعده إعداداً خاصاً، لمثل هذا اليوم وما بعده، من أجل بقاء دين الله، واستمرار رسالة الإسلام.

وكان علي (عليه السلام) يتلقى ذلك بانشراح نفس، وسعة صدر؛ لأنه كان قد شري نفسه لله، وبذلها في سبيله. فكان (عليه السلام) يقول: (وَوَاللهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْـمُسْلِمِينَ، وَلَـمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً؛ الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ، وَزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ)[2].

 

* إعداد الأمة

كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعد الأمة لما بعد رحيله، بقبول ولاية علي (عليه السلام)، والانضواء تحت رايته، وعدم مخالفته. فكان (صلى الله عليه وآله) يشيد بفضله، ويعرفهم مكانته، بأنه كان أولهم إسلاماً، وأقدمهم إيماناً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم عناءً جهاداً في سبيل الله، ومبارزة الأقران، ووقاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه.

وأنه لم تنزل برسول الله (صلى الله عليه وآله) شديدة، ولا كربة، ولا مبارزة قرن، أو فتح حصن، إلا قدَّمه فيها ثقة به، ومعرفة بفضله، وأنه أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، وأنه أحبهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنه وصيه.

وأن له من السوابق والمناقب، وما أُنزل فيه من القرآن، ما ليس لأحد منهم، وأنه كان أجودهم كفاً، وأسخاهم نفساً، وأشجعهم لقاءً، وما خصلة من خصال الخير له فيها نظير ولا شبيه ولا كفؤ، في زهده في الدنيا، ولا في اجتهاده[3].

 

* انتهاك حرمة علي

مع كل هذه الخصال والمناقب والسوابق، فقد كان القوم يخوضون فيه، وينالوا منه، وينتهكوا حرمته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مما كان يغضب الله ورسوله.

عن زر بن حبيش، قال: كان عصابة من قريش في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله)، فذكروا علي بن أبي طالب (عليه السلام) وانتهكوا منه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) قايل في بيت بعض نسائه، فأُتي بقولهم.

فثار من نومه في إزار ليس عليه غيره، فقصد نحوهم، ورأوا الغضب في وجهه. فقالوا: نعوذ بالله من غضب الله، وغضب رسوله.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مَا لَكُمْ وَلِعَلِيٍّ! أَ لَا تَدَعُونَ عَلِيّاً! أَلَا إِنَّ عَلِيّاً مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، مَنْ آذَى عَلِيّاً فَقَدْ آذَانِي، مَنْ آذَى عَلِيّاً فَقَدْ آذَانِي)[4].

وقال (صلى الله عليه وآله): (مَنْ سَبَّ عَلِيّاً فَقَدْ سَبَّنِي، وَمَنْ سَبَّنِي فَقَدْ سَبَّ اللهَ)[5].

وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: (دِينِي دِينُ رَسُولِ اللهِ، وَحَسَبِي حَسَبُ رَسُولِ اللهِ، فَمَنْ تَنَاوَلَ دِينِي وَحَسَبِي، فَقَدْ تَنَاوَلَ دِينَ رَسُولِ اللهِ وَحَسَبَهُ)[6].

ولكن القوم لم يأبهوا بذلك، وكانوا جادين في مخططهم بقتل علي (عليه السلام)، والتخلص منه بأية وسيلة كانت. فقد مرَّ ابن عباس بمجلس من مجالس قريش، وهم يسبون علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فقال لقائده: ما يقول هؤلاء؟.

قال: يسبون علياً.

قال: قربني إليهم.

فلما أن وقف عليهم، قال: أيكم الساب الله؟!

قالوا: سبحان الله، ومن يسب الله فقد أشرك بالله.

قال: فأيكم الساب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!

قالوا: ومن يسب رسول الله فقد كفر.

قال: فأيكم الساب علي بن أبي طالب؟!

قالوا: قد كان ذلك.

قال: فأشهد بالله وأشهد لله، لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (مَنْ سَبَّ عَلِيّاً فَقَدْ سَبَّنِي، وَمَنْ سَبَّنِي فَقَدْ سَبَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ).

ثم مضى، فقال لقائده: فهل قالوا شيئاً حين قلت لهم ما قلت؟.

قال: ما قالوا شيئاً.

قال: كيف رأيت وجوههم؟.

قال:

نَظَرُوا إِلَيْكَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ
 

 

نَظَرَ التِّيُوسِ إِلَى شِفَارِ الْـجَازِرِ
 

قال: زدني فداك أبوك.

قال:

خُزْرُ الْـحَـوَاجِبِ نَاكِسُو أَذَقَانِهِمْ
 

 

نَظَرَ الذَّلِيْلِ إِلَى الْعَزِيْزِ الْقَاهِرِ
 

قال: زدني فداك أبوك.

قال: ما عندي غير هذا.

قال: لكن عندي

أَحْيَاؤُهُمْ خِزْيٌ عَلَى أَمْوَاتِهِمْ
 

 

وَالْـمَيِّتُونَ فَضِيْحَةً لِلغَابِرِ[7]
 

ولذا فقد كان بعض العقلاء ـ حتى من أعداء علي (عليه السلام) ـ يتحاشون سبه، وينهون عنه أشد النهي، ويرون ذلك سبباً لذهاب لدنياهم.

فقد ذكر صالح بن كيسان، قال: سمع عامر بن عبد الله بن الزبير ـ وكان من عقلاء قريش ـ ابناً له ينتقص علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فقال له: يا بني، لا تنتقص علياً؛ فإن الدين لم يبن شيئاً فاستطاعت الدنيا أن تهدمه، وإن الدنيا لم تبن شيئاً إلا هدمه الدين.

يا بني، إن بني أمية لهجوا بسب علي بن أبي طالب في مجالسهم، ولعنوه على منابرهم، فكأنما يأخذون والله بضبعيه إلى السماء مداً، وإنهم لهجوا بتقريظ ذويهم وأوائلهم من قومهم، فكأنما يكشفون منهم عن أنتن من بطون الجيف، فأنهاك عن سبه[8].

 

* إقصاء أمير المؤمنين

وبالرغم من هذا، فما أن توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أقصي أمير المؤمنين عن مركزه ومقامه، ومرتبته التي رتبه الله فيها، فلم تُسمع وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه، وتناسى القوم فضله ومقامه، وتعاموا عن جهده وجهاده في سبيل الدين، وتصاموا عن كل مناقبه التي سمعوها من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) سورة نوح: 7.

وهكذا بقي أمير المؤمنين (عليه السلام) مدة خمس وعشرون سنة جليس بيته، صابراً محتسباً، وهو يرى تراثه نهباً، تتقاذفه طغاة قريش ذات اليمين وذات الشمال، (فَمُنِيَ النَّاسُ ـ لَعَمْرُ اللهِ ـ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ)[9]، كما يقول هو نفسه (عليه السلام).

وكان (صلوات الله وسلامه عليه)، يرجح الصبر على هذا البلاء، مقدماً مصلحة الأمة على مصلحته؛ من أجل سلامة دينها وعقيدتها. فكان (عليه السلام) يغشى مجالسهم، ويحل مشاكلهم، وينصحهم، ويبدي لهم المشورة؛ لأن الحكومة عنده لا تسوى نعلاً بالية، إن لم تقم حقاً أو تدفع باطلاً[10].

 

* قيام الثالوث المشئوم

ولكن مما يؤسف له، أنه عندما قتل المسلمون عثمان، وجاءت جموعهم تطلب من أمير المؤمنين (عليه السلام) قيادة أمرها، وسلمته زمام حكومتها، وقَبِلَ هو (عليه السلام) ذلك منهم على مضض منه وكراهة، وأعلمهم بأنه سيسير فيهم بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الذليل عنده عزيز حتى يأخذ الحق له، والقوي عنده ضعيف حتى يأخذ الحق منه[11].

وكتب بأن: (الْعَرَبِيُّ، وَالْقُرَشِيُّ، وَالْأَنْصَارِيُّ، وَالْعَجَمِيُّ، وَكُلُّ مَنْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأَجْنَاسِ الْعَجَمِ، سَوَاءٌ)[12]. وأنه (صلوات الله وسلامه عليه) كان قد ترك التفضيل لنفسه وولده على أحد من الإسلام، وكان يقول: (مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ فَضْلًا لِإِسْمَاعِيلَ عَلَى إِسْحَاقَ)[13].

كما أنه لم يطلب النصر بالجور[14]، ولم تكن عنده يوماً الغاية تبرر الوسيلة بتاتاً، وما أن فعل ذلك (صلوات الله وسلامه عليه) حتى تمالأ عليه ذلك الثالوث المشئوم: الناكثون، والقاسطون، والمارقون.

فنكثت طائفة، وقسطت أخرى، ومرقت ثالثة، ولم يعطوه الفرصة في بناء مجتمع على أساس العدل والمساواة، وتشييد قيم الحق، وتربية النفوس على ضوء القرآن، والسنة النبوية الشريفة.

فلم يستسلم لهم، ولم يتركهم يعيثوا فساداً في الأرض، إذ لم ترعه كثرتهم، ولم يفل من عزيمته وعدهم ووعيدهم، بل شمَّر عن ساعديه، ونهض لهم على ضعف الناصر، وقلة العدد، بجنان ثابت، ويقين لا يشوبه شك، بأنه على الحق، وأنهم على الباطل.

فشرَّد بهم، وفلَّ جيوشهم، وحلَّ أحزابهم، لكنه لم ينكِّل بهم فيتبع لهم مدبراً، أو يجهز لهم على جريح، أو يقتل لهم أسيراً، أو يسبي لهم امرأة، أو يسلب لهم قتيلاً.

 

* الآثار والنتائج السلبية

إن هذه الأوضاع الحربية في زمن حكومة الإمام (عليه السلام)، كانت لها من الآثار والنتائج السلبية على مجتمعه، ما أن جعلت أفراد رعيته يملوا الحرب، ويخلدوا إلى الدعة، ويتركوا أمر الجهاد، ويتواكلوا، ويسوفوا في الأمر.

فبدأت الغارات تشن على أطراف دولته، وقامت العصابات الإرهابية القادمة من الشام، تدخل الدور والبيوت فتقتل الرجال، وتسلب النساء، وتهتك الأعراض.

وكان الإمام (عليه السلام) يموت كمداً من سوء الأوضاع، وعدم مبالاة رعيته لمثل هذه الأمور، فما أن يستنهضهم حتى يتعللوا بحر الصيف وبرد الشتاء، حتى ملئوا قلبه الشريف دماً وقيحاً، وتمنى أن لم يرهم ولم يعرفهم[15]، وأخيراً دعا عليهم أن يبدله الله بخير منهم[16].

 

* تنامي المعارضة

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى بدأت المعارضة تتنامى في وسط مجتمعه المتمثلة بالخوارج، والذين أخذوا يشوشون على الإمام أفكاره، ويقطعوا عليه خطبته بكلام حق يراد به باطل. هذا بالإضافة إلى تهديدهم أمن الدولة، باعتدائهم على شيعته ومحبيه، وقطع الطرق عليهم، وعاثوا في الأرض فساداً، وتحولوا في آخر الأمر إلى لصوص وسلاَّبين.

ولم يكتفوا بهذا، بل إن نفراً من الخوارج اجتمعوا بمكة، فتذاكروا أمر المسلمين فعابوهم، وعابوا أعمالهم عليهم، وذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم.

وقال بعضهم لبعض: لو أنا شرينا أنفسنا لله عز وجل، فأتينا أئمة الضلال وطلبنا غرتهم، وأرحنا منهم العباد والبلاد، وثأرنا بإخواننا الشهداء بالنهروان.

فتعاقدوا عند انقضاء الحج، فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أكفيكم علياً، وقال واحد: أنا أكفيكم معاوية، وقال الثالث: أنا أكفيكم عمرو بن العاص.

فتعاقدوا وتواثقوا على الوفاء، وألا ينكل أحد منهم عن صاحبه الذي يتوجه إليه، ولا عن قتله. واتعدوا لشهر رمضان في الليلة التي قتل فيها ابن ملجم علياً[17].

 

* أغلى مهر في العالم

ثم إن ابن ملجم قدم الكوفة، فلقي بها أصحابه، وكتمهم أمره، وطوى عنهم ما تعاقد هو وأصحابه عليه بمكة، من قتل أمراء المسلمين، مخافة أن ينتشر. وزار رجلاً من أصحابه ذات يوم من بني تيم الرباب، فصادف عنده قطام بنت الأخضر من بني تيم الرباب ـ وكان علي (عليه السلام) قتل أخاها وأباها بالنهروان، وكانت من أجمل نساء أهل زمانها ـ فلما رآها شغف بها، واشتد إعجابه، فخطبها.

فقالت له: ما الذي تسمي لي من الصداق؟.

فقال: احتكمي ما بدا لكِ.

فقالت: أحتكم عليك ثلاثة آلاف درهم، ووصيفاً وخادماً، وأن تقتل علي بن أبي طالب.

فقال لها: لكِ جميع ما سألتِ، وأما قتل علي فأنى لي بذلك.

قالت: تلتمس غرته فإن أنت قتلته شفيت نفسي وهنأك العيش معي، وإن قُتلت فما عند الله خير لك من الدنيا.

فقال لها: أما واللهِ ما أقدمني هذا المصر ـ وقد كنت هارباً منه لآمن أهله ـ إلا ما سألتني من قتل علي.

فَلَمْ أَرَ مَهْراً سَاقَهُ ذُو سَمَاحَةٍ
 

 

كَمَهْرِ قَطَامِ مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ
 

ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَ عَبْدٍ وَقَيْنَةٍ
 

 

وَضَرْبِ عَلِيٍّ بِالْـحُسَامِ الْـمُسَمَّمِ
 

وَلَا مَهْرَ أَغْلَى مِنْ عَلِيٍّ وَإِنْ غَلَا
 

 

وَ لَا فَتْكَ إِلَّا دُونَ فَتْكِ ابْنِ مُلْجَمٍ‏
 

قالت له: فأنا طالبة لك بعض من يساعدك على هذا ويقويك.

ثم بعثت إلى وردان بن مجالد ـ أحد بني تيم الرباب ـ فخبرته الخبر، وسألته معاونة ابن ملجم، فتحمل لها ذلك.

وخرج ابن ملجم، فأتى رجلاً من أشجع، يقال له: شبيب بن بجرة. وقال له: يا شبيب، هل لك في شرف الدنيا والآخرة!.

قال: وما ذاك؟!.

قال: تساعدني على قتل علي. وكان شبيب على رأي الخوارج.

فقال له: هبلتك الهَبول لقد جئت شيئاً إداً، وكيف تقدر ويحك على ذلك؟!.

قال ابن ملجم: نكمن له في المسجد الأعظم، فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به، وشفينا أنفسنا منه، وأدركنا ثأرنا.

فلم يزل به حتى أجابه.

فأقبل به حتى دخلا على قطام، وهي معتكفة في المسجد الأعظم، قد ضربت لها قبة.

فقالا لها: قد أجمع رأينا على قتل هذا الرجل.

قالت لهما: فإذا أردتما ذلك، فالقياني في هذا الموضع.

فانصرفا من عندها، فلبثا أياماً ثم أتياها ومعهما وردان بن مجالد، الذي كلفته مساعدة ابن ملجم، وذلك في ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربعين[18].

ثم إن قطام (لعنها الله) دعت لهم بحرير، فعصبت به صدورهم، وتقلدوا سيوفهم ومضوا، فجلسوا مقابل السدة التي كان يخرج منها علي (عليه السلام) إلى الصلاة. وكان ابن ملجم أتى الأشعث بن قيس في هذه الليلة، فخلا به في بعض نواحي المسجد. ومر بهما حجر بن عدي، فسمع الأشعث وهو يقول لابن ملجم: النجاء، النجاء بحاجتك، فقد فضحك الصبح.

قال له حجر: قتلته يا أعور، وخرج مبادراً إلى علي، وقد سبقه ابن ملجم فضربه، فأقبل حجر والناس يقولون: قُتِلَ أمير المؤمنين[19].

عن عبد الله بن محمد الأزدي، قال: إني لأصلي تلك الليلة في المسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر، كانوا يصلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره، إذ نظرت إلى رجال يصلون قريباً من السدة قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً ما يسأمون.

إذ خرج عليهم علي بن أبي طالب الفجر، فأقبل ينادي: الصلاة الصلاة. فرأيت بريق السيف، وسمعت قائلاً يقول: الحكم لله يا علي لا لك. ثم رأيت بريق سيف آخر، وسمعت صوت علي (عليه السلام) يقول: لا يفوتنكم الرجل[20].

أيها المؤمنون، إن من قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يكن ابن ملجم وحده، بل أن من قتله هم جميع أشياع الباطل، منذ أن خلق الله الأرض وإلى أن يرثها، وإنما كان ابن ملجم (لعنه الله) أداة الجريمة ومنفذها.

اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ أَنْبِيَائِكَ وَقَتَلَةَ أَوْصِيَاءِ أَنْبِيَائِكَ بِجَمِيعِ لَعَنَاتِكَ، وَأَصْلِهِمْ حَرَّ نَارِكَ. اللَّهُمَّ الْعَنِ الْـجَوَابِيتَ وَالطَّوَاغِيتَ وَالْفَرَاعِنَةَ، وَاللاَّتَ وَالْعُزَّى وَالْـجِبْتَ، وَكُلَّ نِدٍّ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكُلَّ مُفْتَرٍ. اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ وَأَشْيَاعَهُمْ وَأَتْبَاعَهُمْ، وَأَوْلِيَاءَهُمْ وَأَعْوَانَهُمْ وَمُحِبِّيهِمْ لَعْناً كَثِيراً. اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ أَمِيرِ الْـمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ أَمِيرِ الْـمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ أَمِيرِ الْـمُؤْمِنِينَ. اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ الْـحَسَنِ وَالْـحُسَيْنِ، اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ الْـحَسَنِ وَالْـحُسَيْنِ، اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ الْـحَسَنِ وَالْـحُسَيْنِ. اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ الأَئِمَّةِ، اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ الأَئِمَّةِ، اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ الأَئِمَّةِ. اللَّهُمَّ عَذِّبْهُمْ عَذَاباً لاَ تُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ، وَضَاعِفْ عَلَيْهِمْ عَذَابَكَ كَمَا شَاقُّوا وُلاَةَ أَمْرِكَ، وَأَعِدَّ لـهمْ عَذَاباً لَـمْ تُحِلَّهُ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ[21].

آمِينَ رَبَّ الْعَالَـمِينَ.

 

* المصادر:

[1] بحار الأنوار ـ المجلسي: ج42 ص282، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب127 من أبواب وفاته (صلوات الله عليه).

[2] نهج البلاغة ـ شرح محمد عبده: ج1 ص124، ومن كلام له (عليه السلام) لما عزموا على بيعة عثمان.

[3] كتاب سليم بن قيس الهلالي ـ سليم بن قيس: ج2 ص898، الحديث الثامن والخمسون.

[4] بحار الأنوار ـ المجلسي: ج39 ص312، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب88 من تتمة أبواب فضائله ومناقبه (صلوات الله عليه)، ح3.

[5] بحار الأنوار ـ المجلسي: ج39 ص312، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب88 من تتمة أبواب فضائله ومناقبه (صلوات الله عليه)، ح4.

[6] بحار الأنوار ـ المجلسي: ج39 ص313، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب88 من تتمة أبواب فضائله ومناقبه (صلوات الله عليه)، ح7.

[7] بحار الأنوار ـ المجلسي: ج39 ص311، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب88 من تتمة أبواب فضائله ومناقبه (صلوات الله عليه)، ح1.

[8] بحار الأنوار ـ المجلسي: ج39 ص313 - 314، تتمة كتاب تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الباب88 من تتمة أبواب فضائله ومناقبه (صلوات الله عليه)، ح8.

[9] نهج البلاغة ـ شرح محمد عبده: ج1 ص33، ومن خطبة له (عليه السلام) وهي المعروفة بالشقشقية.

[10] نهج البلاغة ـ شرح محمد عبده: ج1 ص80، ومن خطبة له (عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة.

[11] نهج البلاغة ـ شرح محمد عبده: ج1 ص89، ومن كلام له (عليه السلام) يجري مجرى الخطبة.

[12] مستدرك الوسائل ـ النوري: ج11 ص94، تتمة كتاب الجهاد، الباب35 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، ح12502.

[13] مستدرك الوسائل ـ النوري: ج11 ص93، تتمة كتاب الجهاد، الباب35 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، ح12499.

[14] نهج البلاغة ـ شرح محمد عبده: ج2 ص6، ومن كلام له (عليه السلام) لما عوتب على التسوية في العطاء.

[15] نهج البلاغة ـ شرح محمد عبده: ج1 ص67، ومن خطبة له (عليه السلام) قالها يستنهض بها الناس، حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا.

[16] نهج البلاغة ـ شرح محمد عبده: ج1 ص118، وقال (عليه السلام) في سحرة اليوم الذي ضرب فيه.

[17] شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد: ج6 ص113، خبر مقتل الإمام علي (كرم الله وجهه).

[18] شرح ‏نهج ‏البلاغة ـ ابن أبي الحديد: ج6 ص115 – 116، خبر مقتل الإمام علي (كرم الله وجهه).

[19] شرح ‏نهج ‏البلاغة ـ ابن أبي الحديد: ج6 ص116 – 117، خبر مقتل الإمام علي (كرم الله وجهه).

[20] شرح ‏نهج ‏البلاغة ـ ابن أبي الحديد: ج6 ص117 – 118، خبر مقتل الإمام علي (كرم الله وجهه).

[21] من لا يحضره الفقيه ـ الصدوق: ج2 ص589، زيارة قبر أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، ح3197.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ عبد الامير النجار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/05/13



كتابة تعليق لموضوع : من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net