صفحة الكاتب : د . مصطفى يوسف اللداوي

العودةُ حقٌ مقدسٌ ووعدٌ وعهدٌ وإرادةٌ
د . مصطفى يوسف اللداوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

اثنتان وسبعون سنة مضت على نكبة فلسطين وضياعها، وتشريد شعبها واغتصاب أرضها، وسلخها عن محيطها وانتزاعها من حاضنتها، وزرع دولة الكيان الصهيوني الغريبة فيها، وغرسها دسيسةً في قلبها، وخنجراً مسموماً في جسمها، وسماً زعافاً قاتلاً يخنق روحها، فقد استهدف الكيان الصهيوني بشروره الأمة العربية والإسلامية، قبل أن يستهدف فلسطين وأهلها، إذ لم تتوقف أطماعه يوماً على فلسطين وعند حدودها، بل كان ولا زال يتطلع إلى غيرها، ويطمع في سواها، ويأمل في دولةٍ لليهود كبيرة، تكون حدودها من النيل إلى الفرات، يستعيد بها أمجاد اليهود وآلامهم في مصر، وأنينهم ومعاناتهم في العراق، ويذكر شعبه بالأرض التي رحلوا من مصر إليها، وتلك التي هُجِّروا إلى العراق منها.

 

اثنتان وسبعون سنة مضت على النكبة الأليمة والمصيبة الكبيرة، حدثت خلالها تطوراتٌ كثيرة وتبدلاتٌ خطيرة، فالكيان الذي نشأ ضعيفاً صغيراً، وزُرعَ غريباً شاذاً، يستجدي عطف الدول الكبرى، ويتطلع إلى دعم دول الحلفاء المنتصرة، ويتلفت يمنةً ويسرةً بحثاً عن أمنٍ وأمانٍ، وسندٍ وجدارٍ، ودعمٍ وحمايةٍ، خوفاً من بحر العرب المحيط وثورة السكان الجبارة، لم يعد كما كان ضعيفاً خائفاً، ولا مهزوزاً قلقاً، بل بات قوياً متمكناً، قادراً فاعلاً، يتمتع بقوةٍ عسكريةٍ متفوقةٍ، وبنيةٍ اقتصاديةٍ كبيرةٍ، وعلاقاتٍ دوليةٍ واسعةٍ، وقدراتٍ علميةٍ جبارةٍ، وآفاق سياسية مفتوحة، ونمت لديه أطماعٌ جديدةٌ ورغباتٌ غريبةٌ، وتشكلت له أحلافٌ قوية، وأيدته الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغنية القوية.

 

وخلال الاثنتين وسبعين سنةً التي مضت، تعرض الشعب الفلسطيني للكثير من الخطوب والمحن، وحلت به نكباتٌ جديدةٌ وابتلاءاتٌ خطيرةٌ، أثرت في قضيته وعمقت كثيراً أزمته، فبعد التشريد الكبير واللجوء المهول، أصيب بنكسةٍ موجعةٍ وسقطةٍ مؤلمةٍ، فقد خلالها ما بقي من الوطن، وخسر القدس ومقدساتها، وتشرد أغلب من بقي فيه من السكان الأصليين واللاجئين، ثم توالت عليه النكسات وما توقفت، وعانى الشعب في لجوئه وتألم أبناؤه في شتاتهم، وتعرضت بندقيتهم للتشويه والتضليل، فأصابها الكثير من العطب والعوج، وانحرفت حيناً عن مسارها، وضلت فترةً عن هدفها، واختلط عليها الخصوم والأعداء والأخوة والأشقاء، ودفعوا ثمن سياساتٍ خاطئةٍ وتحالفاتٍ غير مدروسةٍ، انعكست آثارها السلبية على الشعب وأضرت بالقضية.

 

وخلال الفترة نفسها وهي عقودٌ سبعةٌ ونيف، تقلبت دولنا العربية وتبدلت، وغيرت في عقيدتها وتخلت، واعترفت بعضها بالكيان وفاوضته، وتعاونت معه وصالحته، ووقعت معه اتفاقاً للسلام وهادنته، وبذا خرجتٌ دولٌ كبيرةٌ وحُيِّدت جيوشٌ قويةٌ، ونأت أنظمةٌ بنفسها عن الصراع، وقبلت أن تصنف بأنها صديقة للعدو ومعاهدة له، فرعت اتفاقياتها معه، وحافظت عليه وكفلته، وحاسبت وعاقبت كل من اعترض عليه وحاربه، وطبعت علاقتها معه، وسهلت اختراقه لها ولغيرها، ودافعت عن وجوده ودعت إلى بقائه، واستنكرت كل الدعوات القائلة بشطبه وزواله، أو بحربه وقتاله.

 

لكن الدول العربية ليست وحدها التي تبدلت وتغيرت خلال الفترة نفسها، بل إن قطاعاً غير بسيطٍ من الفلسطينيين أنفسهم قد غيروا وبدلوا، وفرطوا وتنازلوا، وتهاونوا وتراجعوا، إذ اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بالكيان الصهيوني، ومنحته أكثر مما كان يتمنى، وتنازلت له عن كثيرٍ مما كان مستحيلاً أمامه، ووقعت معه اتفاقاً أذلنا، ومعاهدةً كبلتنا، وبروتوكولاتٍ قيدتنا، وتنسيقاً استخدمنا، وأخذت منا كل ما كان لنا، وجعلت من الفلسطينيين الذين وقعوا معها واعترفوا بها، حراساً للكيان الصهيوني وحماةً له، ينسقون معه لضمان أمنه وتحقيق سلامته، ويضحون بشعبهم من أجله، ويتنازلون عن حقوقهم إرضاءً له، ويقسون على شعبهم ويؤذون أهلهم منعاً لغضبه، وحرصاً على رضاه الذي لا يتحقق، ومباركته المستحيلة التي لا تُتَوقع.

 

وخلال المدة نفسها وقع محظورٌ كبيرٌ، وأصاب الأمة ما لم تكن تتوقع، إذ ظهر فيها جيلٌ دعمته السلطات وأيدته الحكومات، يقول بأن فلسطين ليست قضيتي، وإسرائيل ليست عدوتي، وأخذ المنتسبون إلى هذا التيار الجارف الخطر، من مختلف الطبقات الاجتماعية والمستويات العلمية، الشعبية والرسمية، يروجون للكيان الصهيوني ويدعون للاعتراف به والتعايش معه، والقبول به شريكاً والتعاون معه جاراً، والاستفادة من قدراته العلمية وإمكانياته التكنولوجية، والتعاون معه في النهوض بالاقتصاديات العربية، إذ لديه الكثير مما يقدمه، والمفيد مما يبادله.

 

وزاد الأمر سوءً أن بعض المواطنين العرب علا صوتهم وقُبُحَ، وجاهروا بمواقفهم المعيبة وتصريحاتهم المشينة، فوصفوا القضية الفلسطينية بأنها سبب الهزائم وأساس النكبات، وخطأوا أنفسهم إذ دعموها وساندوها، ورأوا أنهم تضرروا كثيراً نتيجةً لوقوفهم معها وتأييدهم لشعبها، وخسروا الكثير بمعاداتهم لإسرائيل، التي رأى بعضهم أنها وردت في القرآن الكريم، وأنها جزءٌ منه، تستحق الحياة الآمنة المطمئنة.

 

لكن خلال هذه الفترة نفسها، تعاظم الأمل لدى الفلسطينيين، وتكرس اليقين في قلوبهم، وغدا عقيدةً كما كان، وحقيقة كما يجب، بأن إسرائيل زائلة لا محالة، وأن زمانها قد آن، ووقت تفككها وزوالها قد اقترب، وأن قوتها مهما عظمت فهي زائفةٌ، وقدراتها مهما كبرت فهي واهية، وأنها من داخلها ضعيفة مهترئة، وأن هزيمتها التي كانت قديماً مستحيلة باتت اليوم ممكنة بل أكيدة، فقد أصبحت المقاومة الفلسطينية تبزها، ورجالها يبارزونها ويتفوقون عليهم، ويضعون حداً لشَرَهِها ويصدون شرها، ويفرضون عليها معادلاتٍ جديدةٍ وتوازناتٍ دقيقةٍ.

 

اثنتان وسبعون سنةٌ مضت على النكبة، خلقت خلالها شعباً جباراً قوياً، عزيزاً عصياً على الذل، أبياً على الهوان، عنيداً لا يستسلم، قوياً لا يضعف، واثقاً لا يهتز، يصر على حق العودة ويتمسك بها، ويحافظ عليها ويقاتل من أجلها، ويورثها الآباء لأبنائهم والأجداد لأحفادهم، لتبقى في قلوبهم عقيدةً مصونةً وحقاً لا ينسى، مهما تقدم بهم العمر، وتعثرت بهم الخطى، وعظمت أمامهم الصعاب، فإنها ستبقى حقاً مقدساً ثابتاً، لا يفرطون بها ولا يتنازلون عنها، ولا يفاوضون عليها أو يقبلون بتعويضٍ عنها، هويةً أو جنسيةً، وطناً أو إقامةً، إذ لا وطن يرضيهم غير فلسطين، ولا جنسيةً تنسيهم القدس والأقصى والمسرى، أو المهد والقيامة وكل فلسطين.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مصطفى يوسف اللداوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/05/14



كتابة تعليق لموضوع : العودةُ حقٌ مقدسٌ ووعدٌ وعهدٌ وإرادةٌ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net