مصحفُ فاطمة (عليها السلام) كشفٌ للأسرار ومفخرةٌ للأبرار
أبو فاطمة الكربلائي الحائري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم.. والحمد لله ربّ العالمين.. متمّم النعم ومشرّف الأمم بمحمد وآله الطيبين الطاهرين.

إنّ ما رزقنا له به بالإفهام وأمطرَ علينا من الإلهام، قولنا أنّ ما أنزلهُ الله تعالى على نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو القرآن العظيم، فإنّ  ما يصعدُ إلى السماء ما دونتهُ السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مصحفها المبارك (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) (سورة النساء: 139)، بمعنى أن القرآن الكريم كتابٌ منزلٌ إلى أهل الأرض، ومصحفُ فاطمة كتاب مرفوع إلى أهل السماء، ولذا كانت ليلةُ القدر ليلة نزول القرآن الكريم وليلة صعود المصحف الفاطمي العظيم، وهما القرآن وسرُّ فاطمة نازلان من عند لله تعالى، ومع استمرار تناوب الدهور وحدوث ليلة القدر المباركة يبقى القرآن نازلاً (معرفة وكشفاً لمعاجزه) وتصعد كلماتُ فاطمة (عليها السلام) ما دامت كلمة الله على الأرض (الإمام المنتظر الموعود)، فالقرآن الكريم قد نزل على قلب نبيه (صلى الله عليه وآله)، وفاطمة نزلت من جنان الله (تبارك وتعالى) وكمنت في صلبِ نبيّه، فوعى القرآن بقلبه وجعل فاطمة بضعة منه، فهي حجته وأمّه ومنها أوصياؤه وخلفاؤه (عليهم السلام)، وإنهما (القرآن وفاطمة وبعلها وبنوها) الثقلان الأعظمان اللذان لن يفترقا حتى يردا على حوض النبوّة، فإذا كان المعاد ويوم القيامة وجزاء الصالحين وعقاب الكافرين، توقّف عمل القرآن وتصبح لغته لغة أهل الجنان، فيما سيبقى ما جاء في مصحفها (عليها السلام) هو الذكرُ المبارك لأهل الجنان المتقّين (إنّ للمتقّين مفازا)، وبه يتعبّدون ويذكرون الله (تبارك شأنه)، إذ ستبقى العبودية له في الآخرة مثلها في الحياة (جل شأنه)، ويصبح مصحفها دستور أهل الجنان والسماء كما كان القرآن دستوراً لأهل الأرض الأتقياء والحجّة على الأدعياء.

ومع هذه الإلهامات، فإنا لا ننكر (معاذ الله) ما جاء في الروايات المباركة، بأنّ مصحف فاطمة (عليها السلام) هو ما كان يوحى إليها من الله (تبارك وتعالى) ويمليه عليها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ويكتبه علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، والذي هو ثلاثة أضعاف القرآن الكريم ولكن ليس فيه حرف واحد من القرآن، إنما قد اختص به (تبارك وتعالى) سيّدة النساء، وفيه ما كان وسيكون، ولذا سيكون حجّة على أهل الأرض والسماء، وفيه ما لا يعلمه الملائكة المقرّبون، الذين سبقَ وأن صرحوا (لا علمَ لنا إلا ما علّمتنا).

* إن فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي كليلة القدر، ومثلما هذه الليلة المباركة فيها من الأسرار العظيمة التي لم تكشف إلا لنبي ووصي، فالزهراء (عليها السلام) فيها أيضاً من الأسرار الكبرى والآيات، وفي قوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)، فالملائكة وبينهم جبرئيل (عليهم السلام) يتنزّل بآيات الله المحكمة، أما الروح فهي التي تصعد بـ (الكلم الطيّب) كلمات وآيات فاطمة (عليها السلام)، ولتكون معجزةً لأهل السماء.

* إذا كانت النجوم والكواكب نوراً لأهل الأرض، فإنّها (عليها السلام) نورٌ لأهل السماء، والنور هنا هو العلم الكامن في روحها وسرّها المستودع فيها، ثمّ إن كان هناك من غصبها حقّها وأحرق دارَها على الأرض، فقد أكرمها تعالى فلم يجعل في الجنان ناراً، إنما النار للكافرين وغاصبي حقّ محمد وآله (صلوات الله وسلامه عليهم).

* ومما أودعَ الله فينا من الإلهام، ونوّر به قلوبنا بعد الإفهام، أنّ قبرها (عليها السلام) موجود في الكعبة المشرّفة (البيت الحرام)، أما روحها فصعدت واستقرّت في (البيت المعمور) الذي جعلهُ الله أمناً وقبلة لأهل السماء والذي يقع بمحاذاة البيت الحرام، فيطوف به كل يوم سبعون ألف ملكٍ لا يعودون إليه أبدا، وجعل الله لهم حجّاً في السماء كما أمر خلقه على الأرض بحج البيت الحرام، وبذلك طوافُ الملائكة حول البيت المعمور الذي فيه روح فاطمة.. وطواف البشر الآدميين حول البيت الحرام الذي فيه جسدُ فاطمة (عليها أفضل الصلاة والسلام).

وهي أيضاً الحوراء الأنسيّة بحسب قول أبيها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) (ابنتي فاطمة حوراء أنسية)، وبذلك فهي أنسيةٌ وبضعة من جسد النبيّ، وحوراء نورانية من نور الله تعالى، وسبقت لفظ الحوراء على الأنسية في حديثه (صلى الله عليه وآله)، كونها خُلقت في الجنان وتناولها النبي الأكرم في معراجه للسماء من يدي جبريل (عليه السلام)، ثم كانت على الأرض بعد مواقعته لأمّها الطاهرة خديجة (عليها السلام) وهو معراج آخر على الأرض، فكانت في يده حوراء وأوقعها في رحم أمّها فكانت الإنسية، وليس بعظيم عليها أن يكون قبرها وجسدها الطاهر داخل بيته المبارك، الذي ولِد فيه من قُبلُ زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإن كانت هناك علّة في إخفاء قبرها، لألّا يطالها عبثُ الكافرين، فقد سجد المؤمنون قبالة الكعبة المشرفة فكانتْ لها حصّة من السجود، والسجود ليس بعظيم أيضاً، إذْ ما دام أنّه قد تحقّق فعلاً في سجود الملائكة لآدم (عليه السلام) (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.).. وإبليس لم يسجد في لآدم في السماء وكذا أتباعه لم يسجدوا لله على الأرض.

ثمّ أن فاطمة (عليها السلام) نزلت جسداً عبر النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد صعدت روحاً عبر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو الذي قال يوم صعد على كتفِ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهدّم الأصنام الموضوعة في الكعبة المشرفة (لو شئت لارتقيت السماء).. وفعلاً ارتقاها عندما صعد بروحها (عليها السلام) إلى بارئها، مثلما استحصلت عليهِ فهماً وإلهاماً.

وعلى الأرض، وفي عهد نبي الله آدم (عليه السلام)، فقد أنزل الله (سبحانه وتعالى) حورية من الجنة وتزوّجها نبي الله شيت (عليه السلام) وأنجب منها الذرية الصالحة، ومن ثم عادت وصعدت إلى السماء، وكذا الحال بالنسبة للسيدة الطاهرة فاطمة (عليها السلام).

* كما أنّ روحها الطاهرة قد صعدت من داخل الكعبة المشرّفة إلى سماوات الله تعالى وجنانه العظيمات، أمّا وأنها قد استشهدت (عليها السلام) في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فليس بعجيب أيضاً أن تُدفن في ليلة وفاتها في مكة المكرمة، بطوي الأرض لعليّ (عليه السلام) ومن معه ممن حضر دفنها، وهو قائم أيضاً أعني به (طوي الأرض)، كما حصل للإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي طويت له الأرض فعاد من الكوفة مدينة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعاصمة خلافته إلى حرم الله الأعظم وترعة من ترع جنانه (كربلاء المقدسة) لدفن الأجساد الطاهرة لصرعى الطف الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام) وأهل بيته وأصحابه من المستشهدين بين يديه، وهنا تظهر جلياً لنا أيضاً العلاقة بين مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) ومدينة وصيّه ومن بعد عاصمة الإمام المهدي (عليهما السلام)، وكذا العلاقة بين مكّة المباركة وكربلاء المعظّمة.

* التكوين الجسماني للسيدة الزهراء (عليها السلام) ينطوي على الجسد المادي والكنه الروحي، والأخير يظهر مع الأوّل، فنورها قد أزهر للعالمين، بمعنى أن الجسد والروح ظاهران هنا (الكثيف المادي مع اللطيف النوراني)، أما ما ورائهما فهو السرّ المستودع فيهما، على عكس بني البشر الذين تكمن أرواحهم داخل أجسادهم ولا تظهر، وإن كانتْ الروح هي من عند الله تعالى ولم نعرفْ بكنهها، فكيف بسرّ فاطمة (عليها السلام) المستودع داخل جسدها وروحها والكامن فيهما، فظاهر آيات الله في جسدها وروحها وباطن حكمته وغيبه وملكوته مستودع فيها، وهو من معاجز الله (تبارك وتعالى) التي اختصّ بها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وأعني به السرَّ الذي سيطلعنا عليه أمامنا صاحب الأمر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

* السيدة الزهراء (عليها السلام) كما قلنا لها حضور سابق في ملكوت الله قبل الحضور الجسماني على الأرض، وكان حضورها الأخير ضرورياً، كونه رحمة لنا كما حضورها الأول رحمة لأهل السماء، وبالتالي كل هذا نابع من جلال الله ورحمته بالعباد، ويمكن أن نستشفّ أيضاً من الحديث القدسي أن الله (تبارك وتعالى) قال لنبيه (صلى الله عليه وآله): (يا محمّد لولاك لما خلقت الخلق، ولولا عليٍ لم خلقتُكْ، ولولا فاطمة لما خلقتكما)، على أن حضورهم (عليهم أفضل الصلاة والسلام) سابقٌ أيضاً في ملكوت الله تعالى وهم الأشباح الخمسة الذين علّموا الملائكة التسبيح والتقديس لله (تبارك وتعالى) في عالم الذر، ثم أن هنالك حديثاً للنبي (صلى الله عليه وآله) يقول فيه: (يا علي خلقنا أنا وأنت من نور واحد)، وهذا النور هو نور سيدة نساء العالمين (عليها السلام).

* لا يمكن القول بل من الكفر، بأنّ الله تعالى جعل له شريكاً له في الخلق، وهو الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولَدا، ولكنّه أكرمَ خليلته وخلاصة معرفته وربوبيته سيدة النساء (عليها السلام) بأنْ جعل لها مكاناً أعلى وشرفاً أغلى.. وسرّاً عظيماً من أسرار ملكوته وقدرته، بل واشتقّ اسمها (فاطمة) من اسمه (فاطرُ السمواتِ والأرضِ)، وحسبي بها أنْ تكونَ (نبيةً) تُبعث يوم القيامة للمتقّين الأبرار، وأرى ذلك في حديث الإمام الرضا (عليه السلام): (نحنُ حججُ الله على الخلق، وأمّنا فاطمة حجّةٌ علينا).

* إن كان الدين عند الله هو الإسلام، وهو الذي أوجبه وارتضاه لعباده المؤمنين على الأرض، فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي السلام والأمن لأهل السماء والجنان من الملائكة والمؤمنين المقرّبين (سلامٌ هي حتّى مطلع الفجر).. حتّى ظهور الإمام القائم (عليه السلام) الذي سيأتي بالسلام للأرض فيملأها قسطاً وعدلاً بعدما ملئتْ ظلماً وجوراً، بسبب ترك الناس للدين وغصبهم لحقّ محمد وآله، ولا ظلمَ أعظم من ذلك، وكذا لا قسط ولا عدل أعظم من سلام فاطمة (عليها السلام) الذي ننشده جميعاً.

* اعلمْ أيّها المريد.. أنّ الخلقَ يسبّح لله (سبحانه وتعالى) بتسبيح فاطمة (عليها السلام) الذي فيه من الفضل الكثير (لا إلهَ إلا الله 34 مرّة ـ الحمد لله 33 مرة ـ سبحان الله 33 مرّة)، وكما أنّ لله (جلّت قدرته) تسعةٌ وتسعون اسما، فلقد أتمّها في تسبيح فاطمة (عليها السلام) فجعله مئة.. فافهم رحمك الله.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


أبو فاطمة الكربلائي الحائري

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/06/10



كتابة تعليق لموضوع : مصحفُ فاطمة (عليها السلام) كشفٌ للأسرار ومفخرةٌ للأبرار
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net