صفحة الكاتب : مرتضى شرف الدين

كيف نحفظ بيتنا؟ (الحلقة الأولى)
مرتضى شرف الدين

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

“ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ” ( التحريم: ٦)

إنَّ أكثر مشكلات الناس وأكثر ابتلاءات المجتمع و نزاعاته وخلافات الرأي ناتجة عن عدم تحديد تعريف للمفاهيم المتداولة.
فالعالم اليوم يتناحَر تحت عنوان الحرية، فما معنى الحرية؟

نلاحظ أنّه ليس للحرية مفهوم متّفق عليه.

ولو نظرنا إلى جدليّة الوطنية والتبعية للآخر ـ فترى الواحد منّا يتّهم الآخر بالتبعيّة وأنّه غير مستقل بينما هو يؤمن بالصداقة بين الدول، فما الفارق بين الصداقة والتبعيّة؟

وما الفارق بين الحرص على استقرار الآخر والتدخّل في شؤونه؟

وكذلك مفهوم الحضارة، والتشدُّد، والانفتاح .

كلّ هذه عناوين قامت عليها التيارات، واعتاشت على موائدها ، واستقطبت الجماهير بها، دونما تحديد لمفهومها.

ولن يتوقف النزاع بين الأفراد والجماعات والأمم طالما أنّ هذه المفاهيم مطّاطة يجرّها كلّ طرف إلى ما يناسبه.
فلو تحدَّدت المفاهيم في تعاريف لتقلّصت خلافات الناس. ومن ذلك أيضاً ضوابط المناسب وغير المناسب، والنجاح والفشل.

ولم يقف الأمر عند حدِّ الإبهام وعدم التحديد، بل كلَّما أرادت جهة الترويج لمفهوم مُستَنْكَر ومرفوض عند النّاس، استبدلَت المصطلَح المعبِّر عنه، بآخَر جديد ذي دلالةٍ مقبولة، أو أرادت محاربة مفهوم استبدلت المصطلح المعبِّر عنه بآخر ذي دلالة مبغوضة، ذلك أنَّ الغالبيَّة العظمى من الناس أسرى الشكل، ولا يُتعِبون أنفسهم في تحرِّي المضامين.


وهكذا صار الشذوذ مثليَّةً، والتفلُّت تحرراً، والمحافظة رجعيَّةً. فاختلف الموقف الاجتماعي من المفهوم بتبدُّل مصطلحه، ذلك أنه لا يوجد اقتران ذهني بين المصطلح الجديد والانطباع السلبي أو الإيجابي، بخلاف المصطلح القديم، فهو مقترن بالموقف إلى درجة أنَّ الموقف انتقل من المفهوم إلى المصطلح المعبِّر عنه، فصار الرفض والقبول مرتبطين بالمصطلح لا بالمفهوم، فبتغيُّر المصطلح تغيَّر الموقف.

مع أن المصطلح في الحقيقة قد استمدَّ حُسنه وقُبحه من المفهوم.

مفهوم الحب:

وفيما يتعلّق بموضوع الأسرة، نرى أنَّ ضوابط الاختيار للزواج هي بداية الازدهار أو الانحدار. فهناك اختيار يكون بداعي الحب والإعجاب، فما هو الحب والإعجاب؟

حتى نُقارب الإشكاليّة مقاربة دقيقة لا بد وأن نكون  واضحين في تحديد المفاهيم.

هناك مفهومَين للحب سنوضح الفرق بينهما لأنّنا سنحتاجه في تحرير مواضع النزاع فيما يأتي .

1-تارةً يكون هناك معرفة مُتمادية بين طرفين أدّت إلى انجذاب كلٍّ منهما إلى عدّة جوانب في كيان الآخر.
2- وتارةً يكون هناك انجذاب فوريّ من اللّقاء الأول، إمّا دون مبرِّر، أو بملاحظة ميّزات جسديّة في الآخر، وهو ما يسمى بـ (الحب من أوّل نظرة).

طُرُق اختيار الشريك:
هناك عدَّة طُرق تؤدّي إلى اختيار كلٍّ من الشريكين للآخر، وكلّ واحد منها يؤدّي إلى نتيجة تناسبه:

1- الاختيار المبني على الحب من النظرة الأولى:  ترى شخصاً، وللوهلة الأولى تشعر أنّك أحببتَه.
هذا التفاعل النفساني يسمّى في علم النفس (التسامي).

وتوضيحه: تكون هناك  نزعة أو رغبة معيّنة في نفسك ولكن من غير المناسب أن تطلقها، فتجد لها مخرجاً لتنفّسها عبره بشكل مقبول.

فالطفل العدواني يعنّف أترابه، فيحاول الأب أن يحوّل هذه النزعة النفسانية بإدراجه في نوادي الألعاب القتاليّة. ذلك أنّ لدى هذا الطفل نزعة عدوانية، فإمّا أن تكبتها فتتراكم حتى يتفاقم الأمر مع مرور الزمن، ويصبح خطراً، وإمّا أن تنفّس له هذه النزعة في مكان مقبول كالألعاب القتالية، حيث تتحوّل ممارسة العنف من عدوان مرفوضٍ ومُدانٍ إلى عمل رياضيٍّ مقبول وممدوح ومحل تشجيع.

هذا الأمر مقبول من حيث كونه تفريغاً للطاقة، وتوجيهاً للنزعة العدوانيّة، ولكنه لا يكفي، بل لا بُدَّ من العمل على هذا الطفل في خطٍّ آخر ليتعلّم التحكُّم بانفعالاته، وضبط نزعاته العدوانيَّة، عبر تغيير الصورة المعرفيَّة لمفهوم القوَّة لديه بتحويلها من مقياس المغالبة والعنف إلى مقياس ضبط النفس والتحكُّم بها، على القاعدة النبويَّة :” ليس الشديد بالصرعة، إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”(1).
الأمر نفسه بالنسبة للحب من أول نظرة، والناتج عن مواصفات الشكل، فهو عبارة عن عمليّة تسامي للشهوة الجنسيّة ليس إلا.

فالنفس لا تستطيع أن تصرِّح عن تحرّك الشهوة تجاه هذه الفتاة، فإنّ هذا في الغالب غير مقبول،   فتُحاول الحصول عليها ولو عن طريق بناء الحياة على أساس هذه الشهوة، فتجد في عنوان العاطفة غير المبرَّرة، أو المُبتنية على المفاتن الجسدية، مخرجاً مبرَّراً ومقبولاً لإطلاق التعبير عن هذه الرغبة.

ولكنّ المشكلة أنّ حقيقة الارتكاز الذي بُنيت عليه هذه العلاقة هو الانجذاب الغريزي ليس إلا، فلو كانت العلاقة المتمحورة حول هذا الأساس الشهوانيّ دائرة مداره في جنباتها كلّها، من علاقة جسديّة وأنس عاطفي وما إلى هنالك فليس هناك مشكلة، ولكن المشكلة تقع لو أراد الطرفان الدخول في عقد شراكة طويل الأمد يمتدُّ إلى مختلف مجالات الحياة بناءً على هذا التحرّك المقنّع للرغبة.

وما يزيد الخطبَ سوءاً أنّ هذه الرغبة قابلة للصعود والهبوط مع مرور الأيام. وقد تتبخّر هذه الرغبة ويبقى الطرفان وجهاً لوجه مع كلّ نقاط الاختلاف بينهما.

ونظراً لشيوع هذا الموقف، وشدَّة خطورته، فقد حذَّرَت منه الروايات الشريفة.

فقد” قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطيباً فقال: أيها النّاس! إياكم وخضراء الدِّمَن .

قيل: يا رسول الله وما خضراء الدِّمَن؟

قال: المرأة الحسناء في منبت السوء” (2).

2-الاختيار القائم على الحسابات العمليّة: أي اختيار المرأة للرجل المتمكِّن مادياً أو الموظَّف وظيفة مرموقة، والعكس عند اختيار الرجل للمرأة الموظّفة، أو ذات الجنسية الأجنبيّة، أو ابنة عائلة ميسورة الحال.

ففي حال استمرار الزواج تكون شريكة في المصاريف أو عامل تحسن دخلٍ أو تقدُّم مهني، أو هجرة، وفي حال وصلا إلى الطلاق يمكنه استغلال الوضع المادي والمطالبة بتعويض.

هذه الحياة في الحقيقة هي صفقة تجارية بامتياز، وجوانب الحياة الأخرى هي تفاصيل على الهامش.

وقد كان موقف أهل البيت (عليهم السلام) من هذا النمط صارماً.

فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام):” من تزوَّج امرأة يريد مالها ألجأه الله إلى ذلك المال”(3).

أي يقطع عليه الله باب رزقه المقدَّر له منه تعالى ويجعله تحت رحمة حاجته إلى مالها، ولا يُمتّعه بحسنةٍ أخرى في زواجه سوى هذا المال الذي أراده.

3- الاختيار المبني على المواصفات الاعتقاديّة والنفسية والسلوكية:

وهو النمط الذي اختارته مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) للحياة الزوجيّة وهو مبنيٌّ على قاعدة التناسب والانسجام.
تحت القاعدة النبويّة: “إذا جاءكم مَن ترضَون خُلُقه ودينه فزوّجوه، إنّكم إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير.”(4).
ولا بد من الالتفات إلى  كلمة (ترضَون)، فالنبي صلى الله عليه وآله لم يقُل: (إذا جاءكم حسن الدين والخُلُق)، ذلك أنّ المطلوب ليس حُسن الدين والخُلُق، بل رضى الشريك بدين وخُلُق شريكه.

بعبارةٍ أخرى: ينبغي أن  يتناسب الشريك مع شريكه  في شخصيته ودينه.

ذلك أنّ الطرفَين قد يكونان جيِّدين بحدِّ ذاتَيهما، لكن هذا نمط التفكير، أو المزاج، أو العادات، أو المستوى الروحي أو الفكري، لدى أحدهما لا يتلاءم مع الآخَر.

وليس من السهل على الإنسان أن يحكم على نفسه، فالاستبطان من أصعب طرق الفحص النفساني حتى عند الخبير، ولذا فإنَّ الاستئناس برأي محايد خبير ثاقب النظرة قد يجنِّب الشريكين الدخول في تجربة غير مناسبة. ذلك أنَّ الشريك قد يرى نقطة خلاف ما على أنّها عامل تمايز يغني الحياة الزوجيَّة، وهي في الحقيقة عامل توتُّر متزايد يودي بالحياة الزوجيَّة. وما ذلك إلا لأنَّ تقييمه لنفسه يدخل فيه عامل الأنانيَّة وتنزيه الذات، وتقييمه للآخر تؤثِّر عليه الرغبة بالاستقرار أو الرغبة بهذا الآخَر، بينما الطرف المحايد في معزل عن هذه المؤثرات، فهو يرى المشهد كما هو.

فالاختيار يحتاج إلى دقّة وعناية، ودراسة لخصائص الطرفَين ومدى تناسبهما، حتى لا تقع الفتاة أسيرة شراكة مجحفة لا تتناسب مع خصائصها ولا تقدّر مزاياها.

فعن النبي صلّى الله عليه وآله :”إنّما النكاح رِق، فإذا أنكَحَ أحدكم وليدةً فقد أرقّها، فلينظر أحدكم لمن يُرِقُ كريمته” (5).

فالزواج يضع الفتاة في بيئة جديدة، وتحت قوانين ومعادلات جديدة، فكأنّها أسيرة جوٍّ جديد وواقع اجتماعي غريب عنها، ولذا لا بدَّ للأهل أن يدقِّقوا ويراعوا المكان الذي يضعون ابنتهم تحت رحمته.

خطوط حمراء:

إلى جانب قاعدة التناسب، هناك مجموعة من الخطوط الحمراء السلوكيّة والأخلاقيّة والاعتقاديّة التي لا يمكن بناء زواج مع وجودها، فلا إمكانية  تناسب فيها ولا داعي لدراسة صاحبها، بل جوابه الوحيد هو الرفض. وإلا كان الأب مسيئاً للأمانة التي وهبه الله إياها.

من هذه الخطوط:

1- شرب الخمر: فعن الإمام الصادق (عليه السلام) :”مَن زوّجَ كريمتَه من شارب خمر فقد قطع رحِمها”(6).

فتعاطي المُسكِرات يفتح السلوك على كل الاحتمالات، إذ لا فائدة من دراسة شخصيّة وسلوك وأخلاقيات الرجل، إذا كان يتعاطى ما يُخرجه عن رشده، حيث يصبح كل شيء وارداً.

2- سوء الخُلُق: فقد روى  الحسين بن بشار الواسطي قال:” كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام): أنّ لي قرابةً قد خطب إليّ ابنتي، وفي خُلُقه سوء .

فقال (عليه السلام): لا تزوّجه إن كان سيّء الخُلُق ” (7).

فسوء الخُلق بالدرجة الأولى هو سهولة الاستجابة لدواعي الغضب.

و” الغضب مفتاح كل شر”(8) كما قال الإمام الصادق (عليه السلام).

وفي كتاب  أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحارث الهمداني :” واحذر الغضب فإنّه جند عظيم من جنود إبليس”(9).

وهي تشترك مع سابقتها في فتح الاحتمالات السلوكيَّة، وذلك بسبب فقدان الرشد، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام):” الحِدّة ضَرب من الجنون، لأنّ صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مُستحكِم” (10).
ولذلك فإنّ كون المتقدّم قرابة له لا ينفعه، لأنّه لا يمكن التكهّن بما يمكن أن يصدر عنه مع سهولة خروجه عن طَوره نتيجة سوء خُلُقه.

3 – عدم الاستقامة الاعتقاديّة: فعن الإمام الصادق (عليه السلام) :” تزوَّجوا في الشُكّاك ولا تزوِّجوهم، لأنَّ المرأة تأخذ من أدب زوجها، ويقهرها على دينه”(11).

فالمرأة تنتقل لتعيش في بيئة الرجل، وتنجب أطفالها على شهرته، فإن كان من جوٍّ غير مستقيم عقائدياً فإنّها ستتأثر بذلك، هي وأولادها.

فالقهر على دينه ليس بالضرورة هو الغصب والقوّة، بل التغيير الذي تفرضه البيئة على الفرد مع طول التعاشر والإلفة هو من التغيير القهري أيضاً. والأمثلة في مجتمعاتنا كثيرة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مرتضى شرف الدين
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/07/31



كتابة تعليق لموضوع : كيف نحفظ بيتنا؟ (الحلقة الأولى)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net