صفحة الكاتب : د . مصطفى يوسف اللداوي

ضوابطُ الخطابِ الفلسطيني في مواجهةِ موجةِ التطبيعِ العربي
د . مصطفى يوسف اللداوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يكاد يُجمع الفلسطينيون على اختلاف توجهاتهم السياسية في فلسطين المحتلة وخارجها، على رفض محاولات التطبيع العربية مع الكيان الصهيوني، سواء تلك القديمة الموقعة مع مصر والأردن، أو السرية والخفية القديمة والجديدة مع غيرهما، وآخرها اتفاق السلام مع دولة الإمارات العربية المتحدة، التي استنكرتها منظمة التحرير الفلسطينية ومعها رئاسة السلطة في رام الله، كما نددت بها وهاجمتها مختلف القوى الفلسطينية وفصائل المقاومة العسكرية، وعارضتها النخب الثقافية والفكرية والأطر النقابية والمستقلة، وعامة المواطنين وجموع اللاجئين في الوطن والشتات، كما وصفتها قوى عربية وهيئاتٌ شعبية بأنها تنازلٌ وتفريط وتخلي وتولي وطعن في الظهر وخيانة، ونادت بإسقاطها ودعت إلى إلغائها وعدم الالتزام بها.

بات واضحاً للجميع أن دولة الإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عُمان التي سبقتها، لن تكون هي الدولة الأخيرة في مسلسل التطبيع المعلن رسمياً مع الكيان الصهيوني، بل ستتلوها دولٌ عربيةٌ أخرى عديدةٌ، وستسير حتماً على منوالها خلال الأشهر الثلاثة القادمة أنظمةٌ جديدةٌ، وهي الفترة المتبقية من ولاية ترامب الأولى، التي يطمح إلى تجديدها مطلع شهر نوفمبر القادم.

ولهذا الهدف يقوم وزير خارجيته مايك بومبيو وممثلوه في الشرق الأوسط، بجولاتٍ واسعةٍ ومساعٍ كبيرة لإقناع حكوماتٍ عربية أخرى بإعلان اعترافها بإسرائيل، وتوقيع اتفاقيات سلامٍ وتطبيع العلاقة رسمياً معها، وتشجعها إدارته على سرعة الإقدام على هذه الخطوة وعدم تأجيلها، وتعدها وتمنيها، أو تحذرها وتهددها من مغبة الاعتراض أو التردد وعدم القبول، ولعل الحديث يدور حول موريتانيا والمغرب، والسودان وقطر، والبحرين والسعودية، وليس بعيداً أو مستغرباً أن الضغوط السياسية تمارس على أنظمةٍ أخرى غيرها، لتجبرها على القبول والإذعان، وإلا الفوضى والخراب والدمار.

أمام هذه المستجدات الخطيرة والانهيارات المتوالية، وظواهر التصدع في الجدران العربية، ينبغي على الفلسطينيين أن يفكروا جيداً في الطريقة المثلى التي يجب أو يواجهوا بها حالات السقوط العربية المدوية، والبحث عن أفضل السبل للرد عليها والتعامل معها، إذ لا ينبغي الجمود على أسلوبٍ واحدٍ واعتماده دون غيره، وأقصد به التنديد والاستنكار، والشتم واللعن، والتخوين والتكفير، والتشهير والتشويه، والهجوم والمعارضة، وإن كنت أرى أن كل ما سبق هو من حقنا جميعاً، وهو التوصيف الطبيعي والفطري لكل ما حدث، إذ أن هذه السقطات قد أضرت بنا وأساءت إلينا، وكشفت ظهرنا وأضعفتنا أمام عدونا، وهي مخالفة لقيمنا وتعاليم ديننا، وتتعارض مع ثوابتنا وقوعدنا القومية.

لكنني أرى أن هذا الأسلوب الذي لا يفصل كثيراً بين الأنظمة العربية ومواطنيها، ولا يميز بين السلطات الحاكمة والشعوب المغلوبة، قد أدى إلى استنفار الأنظمة واستفزازها، التي استخدمت أبواقها الإعلامية وأقلامها المسمومة ومنصاتها المختلفة في تجنيد شعوبها معها، وتحريضهم علي الفلسطينيين وتأليبهم عليهم، واستغلت الأنظمة ردود الفعل الفلسطينية غير المدروسة، التي فيها إهانة لبعض الدول العربية ورموزها الوطنية، وإساءة إلى علمها وتاريخها، في دفع شعوبها للوقوف معهم وتأييدهم في خطوتهم، وتشجيعهم على المضي قدماً في إجراءات التطبيع، والقبول بالاعتراف بإسرائيل وحقها المشروع في الوجود والحياة، بل والدفاع عن نفسها وصد العدوان عنها.

ومما هو معروف للجميع أن الفلسطينيين منتشرون في مختلف دول العالم، لكنهم يعيشون بكثافةٍ في الدول العربية القريبة والبعيدة، وفي دول الخليج العربي والسعودية، ومنهم من هو مستقرٌ في هذه البلاد منذ عشرات السنوات، ولدوا فيها ونشأوا وتعلموا وتزوجوا وكونوا أسرهم الخاصة، ولعلهم لا يختلفون أبداً في مواقفهم عن بقية أبناء شعبهم الفلسطيني وأمتهم العربية والإسلامية، إلا أنهم شعروا بالقلق الشديد والخوف على مستقبلهم في هذه البلاد، بعد حملات التحريض والتعبئة العامة ضد الفلسطينيين، على خلفية ردود الفعل الفلسطينية الرسمية والشعبية الرافضة للتطبيع، الأمر الذي من شأنه أن يهدد مستقبلهم في البلاد التي يقيمون فيها، وقد يؤدي إلى طردهم وتشريدهم وضياعهم في الأرض، في تكرارٍ مأساويٍ لفلسطيني الكويت وليبيا ثم العراق لاحقاً.

وتأكيداً على ما ذكرت أعلاه، فقد ارتفعت أصواتٌ فلسطينية تطالب النخب الفلسطينية بالكف عن النقد العلني والتشويه العام، والإساءة المقصودة للدول التي وقعت، ذلك أنها باتت تخشى جدياً على وجودها، وأنها قد تفاجأ ذات يومٍ بقراراتٍ عاجلة من الحكومات المطبعة تنهي بموجبها عقود عملهم وتبطل إقامتهم، وتطردهم من البلاد، في إجراءٍ عقابيٍ جماعي عامٍ للضغط على قواهم الوطنية وفصائلهم المقاومة، للكف عن الانتقاد العلني والتصريحات الإعلامية التي يرونها تسيئ إليهم وتضر بهم.

اعترف بالحاجة إلى الإصغاء إلى صوت شعوبنا العربية التي تطالبنا بعدم القيام بأي عملٍ من شأنه أن يحرض حكومات بلادهم علينا، أو أن يوغر صدورهم أكثر على شعبنا وقضيتنا، وكذلك ضرورة مراعاة ظروف أهلنا المقيمين في تلك البلاد والعاملين فيها، وعدم القيام بأي عملٍ من شأنه الإضرار بهم أو الإساءة إليهم، وعدم مطالبتهم بإصدار أي موقفٍ أو التعليق على ما يحدث، خاصةً أن الإدارة الأمريكية قد تشجع حكومات بعض الدول العربية لممارسة ضغطٍ على الفلسطينيين من خلال جالياتهم المقيمة في بلادهم.

ولهذا يجب أن يكون الخطاب الفلسطيني العام، تجاه الأنظمة العربية وشعوبها، خطاباً حكيماً عاقلاً رصيناً مدروساً، نتوخى فيه الصالح العام، ونصر فيه على مواقفنا، ونتمسك بثوابتنا، ونؤكد على حقوقنا الوطنية المشروعة في أرضنا ووطننا، ولا نبدي فيه أبداً أي تنازلٍ أو تفريطٍ، أو قبولٍ وإذعان، أو تسليمٍ وخضوع، وإلا فإن أي حماقةٍ ترتكبها القيادة، أو سفاهةٍ تقوم بها العامة، قد تعيد تكرار التواريخ الأليمة التي أضرت بشعبنا، ودفعته أثماناً باهظة ما زلنا نتجرع آثارها ونعاني إلى اليوم من تداعياتها.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مصطفى يوسف اللداوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/08/24



كتابة تعليق لموضوع : ضوابطُ الخطابِ الفلسطيني في مواجهةِ موجةِ التطبيعِ العربي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net