صفحة الكاتب : كريم وهاب عبيد العيدان

جواد العكيلي وظاهرة الموت
كريم وهاب عبيد العيدان

 جواد العكيلي وجه شاعري اصيل تعانق كلماته شغاف القلب وتتسلل الى اسرّة النفس في ليلة هادئة ,شاعر يحمل الرقة والعفة والعصامية في سماء روحه المسافرة مما انتج مساحات من الشعور بالالم العاصف والغادر .
تنهمر في قصائده جداول او شلالات تحمل معها بقايا ذكريات وهواجس الموت ونكران الجميل من اقرب الناس وعقوق البنوة ,والاكثر وطأة ما يتبادر الى ذهني من ان الشاعر مشرع على التفتح على عالم الرحيل لانه يمتلك الرصيد المعنوي والعطاء المتحفز ناهيك عن جزعه ممن افنى العمر من اجلهم واستبدل وجهه بتجاعيد الضنى والجهد المثالي من اجل ان يحيوا بكرامة وسعادة وامان , هذا الشعور هو متلفع في تلابيب قصائده يجذبه تارة ويعصف به تارة اخرى ,تبدو انامله مرتعشه وهو يمسك بسيجارة القصيدة , تشتعل بدخانها الابيض الناصع لتسقط بقاياها وهي ترتعش تحت وطأة الذكريات ,وتتنفس من عطر الماضي ما يجعلها تلملم جراحها وترحل مع طيور الغربة ...
جواد العكيلي سماء ممطرة بالحزن تتلوى من وطأة التنكر لانه يتمتع بكتلة من احفوريات الوفاء والصدقية والتاصيل مما يرفع من منسوب الانين والقلق في حنايا قصائده وهي تبحث عن خلجات قلب يحتضنها ونبضات وعي يتلقفها .
لا طوّلَ اللهُ عمراً عشتُهُ صادي
يَمُجُّني فيه حتى وجهُ اولادي

عمراً دقائقُهُ كالحبلِ في عُنُقي
أمستْ وأيّامُهُ لا تعدو أصفادي

قضيتُ خمسين عاما أحدباً جَمَلاً
عاقولُهمْ بعدَ جهدي عندَهمْ زادي

أبكي وهم يسمعون البكْيَ من كبِدي
نحيبَ ثَكلى لِقبرٍ رُسَّ في وادي

أرعى صغيرَهُمُ حتى إذا نبتَتْ
أصداغُهمْ أنكروا فضلي وأتلادي

أسقيتُهمْ لَبَناً صافٍ بِمُمْحلةٍ
وبعد ما شربوا ضنّوا بِأورادي

يا مالكَ الموتِ خُذْني هدَّني جَلَدي
ما أجملَ الوفدَ عزرائيلَ من غادي

خُذْني حبيبي إلى أرضٍ أتوقُ لها
أرْضى دفيناً بها جاراً لأجدادي

يا ناسُ واللهِ وَجْدي كادَ يَقتُلُني
نجومُ ليلي غدوا واللهِ عُوّادي
فالشاعر هنا يرسم لنا ظلالا من الشعور بالاحباط وهو يتمنى الموت ,انه يشعر بتساقط خمسين سنة من عمره في قعر الماضي وان حبل المنية يلتف على رقبته , وان انينه العالي الوتيرة ياتي لان حصاده لم يتساوق واماله العريضه بل عصفت به رياح الخيبة والخذلان , وهو يذكرنا بالشاعرلبيد بن ربيعة الذي يقول هو الاخر :
وَلَقَد سَئِمتُ مِنَ الحَياةِ وَطولِها
وَسُؤالِ هَذا الناسِ كَيفَ لَبيدُ
وَغَنَيتُ سَبتاً قَبلَ مُجرى داحِسٍ
لَو كانَ لِلنَفسِ اللَجوجِ خُلودُ
وَشَهِدتُ أَنجِيَةَ الأَفاقَةِ عالِياً
كَعبي وَأَردافُ المُلوكِ شُهودُ
وَأَبوكِ بُسرٌ لا يُفَنَّدُ عَمرَهُ
وَإِلى بِلىً ما يُرجَعَنَّ جَديدُ
غَلَبَ العَزاءَ وَكُنتُ غَيرَ مُغَلَّبٍ
دَهرٌ طَويلٌ دائِمٌ مَمدودُ
يَومٌ إِذا يَأتي عَلَيَّ وَلَيلَةٌ
وَكِلاهُما بَعدَ المَضاءِ يَعودُ
وَأَراهُ يَأتي مِثلَ يَومِ لَقيتُهُ
لَم يَنصَرِم وَضَعُفتُ وَهوَ شَديدُ
عناء مشترك وسنين منصرمات بدون اي مطمح او رغبة في الحياة لان الضعف بدا يدب وان الاخرين باتوا يستشعرون بثقه عليهم وانه تجاهلوا عناءه في سبيلهم ومن اجلهم مما يضاعف من لوعته ويزيد من بكائه الصامت على وسادة القدر .
اما قصيدته الاخرى حول اخوة يوسف, فهو تصوير اسقاطي لواقع نفسي يتحرك في احشاء ابيات القصيدة ويتارجح تحت عصف الايام وخذلان الاخرين وطمعهم وجشعهم الذي جعلهم ينتقمون غير مبالين برابطة الدم واواصر الرحم , يقول :
يراني اخوتي ذئبا
وانّي يوسف حقا
عشاء غرروا بابي
وباعوني لهم رقا
وظنوا انني وحدي
بقعر الجب مندقا
وما علموا انا حب
بغير الحب لا اسقى
انا حرف واغنية
انا شعر وموسيقى
انا سومرْ انا بابلْ
اذا نوديت لاتشقى
على ظهري رست سفن
انا من انقذ الغرقى
انا دين بعصمته
واني العروة الوثقى
قميصا خطت من رمشي
على ابصارهم يُلقى
ومائدتي لاوّلهم
واخرهم ندى تبقى
نسوا كفي واحساني
ولم انساهم حمقى
هنا توظيف فكري للحدث بما يحقق الرؤية المنشودة التي عالج من خلالها العكيلي هذه المعطيات ,فالشاعر هنا يعيش في بحبوحة من الايجابية المعنوية تدفعه لان يعطل الجوانب السلبية ليقيم عليها جسرا من الموروث الفكري المتحفز بما يؤدي الهدف والغرض معا وبما يحقق الرافد العقائدي والمبدئي .
كما ان الشاعر يقدم لنا فكرة عميقة تتعلق بحنان الابوة واحتضانه للابناء العاقين وعدم المساس بمشاعرهم رغم الحيف والتجني الذي تلقاه منهم .القصيدة لدى جواد العكيلي عبارة عن عجين يمزجه بالفكرة ويطبخه بالابداع ويمزجه بعواطفه ومشاعره ليحوله الى عطاء يتلالا في ظلمات النفس وفي عواصف الزمن ,انه يقدم القصيدة كرغيف للجياع او صندوق صدقة للمحزونين ليمد لهم من روحه خيوط الامل وينسج من محنته شعاعا يمتد الى علياء السماء .
اما في حوارية الامام الحسين واحر بن يزيد الرياحي فهي قصيدة عصماء تصدمنا بكل ماهو طريف وفريد ومفيد , يقول :
عند آنبلاجِ الصبحِ تنزلُ دمعةٌ
خذها إليك فإنها دينٌ قويمْ

ولِقُرّةٍ قلها بخاتمةِ الكلام
خُيّرتُ فآخترتُ الجنانَ على الجحيمْ

أسرعْ بمشيكَ للفراتِ وقلْ لهُ
لم تبقَ إلا أنتَ قد خنقوا النسيمْ

الشمسُ قد شرِبتْ دموعَ نسائنا
وتجسّتِ الوجناتُ من ريحِ السّمومْ

إسمعْ أذانَ الماءِ في طرفِ الخيامْ
يتشهّدُ العطشى لآلهةِ الهمومْ

محرابُ طفلٍ سبحةٌ ورغيفُ خوفْ
قطراتُ دينٍ كان ديناً ذات يومْ

قلْ للخيامِ بأنْ تكفّ عن الحريقْ
فذيولُ ربّاتِ الحجالِ بها تُقيمْ

ياحرُّ إنْ أقبلتَ أقبِلْ حاسراً
فاللهُ مشتاقٌ يرى شيباً وسيمْ

لمّا تُغنّي الشمسُ أغنيةَ الصباحْ
ستكونُ قرءاناً على شفةِ الكُلومْ

يأتيكَ وفدٌ إصبعي وعمامتي
وآعذُرْ ضلوعي أُذريتْ ذروَ الهشيمْ
انها هموم تجمعت وتحشدت في خيال الشاعر الجموع لتشنف الاذان بالحوار المبرمج بكاميرات حاذقة الدقة لتقدم لنا رسائل مبدعة وعناوين كبيرة حرية بالتوقف والتامل .
هذه الحوارية تضعنا امام عالم منشود يامل باقتلاع الاشواك وابعاد الحروب وتنمية الفكر المتزن والعقل الراجح وبناء العدالة من اجل ان تسود لصالح الجميع .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كريم وهاب عبيد العيدان
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/09/11



كتابة تعليق لموضوع : جواد العكيلي وظاهرة الموت
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net