صفحة الكاتب : طالب عباس الظاهر

(الإهداء: إليه طبعاً..واليهم جميعاً لا أستثني منهم أحدا)
جلس الراوي جلسته اليومية المعتادة، ثم راح يتصفح أوراقاً متهرئة من سجل عتيق بين يديه، كلما مرت أنامله عليها؛ يتطاير عنها غبار الإهمال، إلاّ إنه كان يتفحص بخبرته الطويلة بين الفينة والأخرى، وجوه الجلاّس من أعلى نظارته الطبية السميكة جداً، لاستطلاع مدى اللهفة فيها لسماع مروياته الشيقة، ويحاول تصعيد الشوق لسماعه، بتمديد فسحة الإنتظار - قدر الإمكان- قبل البدء بحكي ظريف الأقاصيص الأسطورية وغريبها وعجيبها .. من خلال المزيج الخلاق بين الخرافي منها والمألوف، والتداخل السحري بين المعقول واللامعقول، والواقعي والمتخيل .. وبالتلبيس بينهما، وهو يمتصّ بعجلة أنفاسا أخيرة من سيجارته المحتضرة، لبدء حكايا وحكايات الحقب الغابرة .. الموشحة بنقاب النسيان، فقال :
كان يا ما كان مما حكي في سالف الدهور وماضي الأزمان، في متون القصص المروية للحوادث المنسية، إن قامت في مطلع النصف الأول بعد القرن الرابع عشر في الألفية الثانية من عمر التقويم الهجري القـمري المدون بالدم ، إمبراطورية للجريمة، وجمهورية للقتل على ارض مملكة كانت تدعى "بلاد النور" قديماً، لأنها أُنشئت منذ فجر التاريخ البشري  على دلتا مصب توأم نهرين مقدسين، ينبعان من قلب السماء السابعة المتاخمة للملكوت الأعلى والعرش المعظم لرب الأرباب؛ فنهضت تلك الحضارة بمواجهة بيت الشمس ثم أخذت بالزحف التدريجي شمالا عبر الحقب المتعاقبة، واستمرار التراكم السريع للغرين، دافعة بلعنة الملح للبحر الأعظم، والغضب بنفث سمومه الحارة جنوباً، فكانت البداية لحكايتنا بقيام دولة الموت تلك، بعد أن استولى مارد عنيد وجبار عتيد بروح المؤامرة وإلتواءات المكيدة وتشابك خطوط التدليس على تاج المملكة وصولجان الحكم، متسللا إلى أروقة القصر في ساعة غفلة لعيون العسس، تحت جناح ليلة ليلاء غاب فيها القـمر حين دخوله برج النحس، عبر الممرات السرية للقصر الذي شادته آلهة الأرض وشيطان الهواء .. المطرود من السماء الأولى منتجعاً أرضياً لها، قاطعاً رأس كل من يقابله صعودا من بني الإنس أم الجان صوب مضجع الأمير ومحضيته تعيسة الحظ في تلك الليلة،  فقد كان ذلك القصر يفوق بعظمة التشييد، وبراعة البناء، وإعجاز الهندسة .. عجائب الدنيا السبع مجتمعة(*)، والمتعال نحو العلياء في سبعين تعلوها تسعة من الطوابق، تبدأ بالأكبر كقاعدة وتنتهي بالأخير الأصغر المواجه للسماء، فتتوزعها أربعة وعشرون من القصور الغناء .. بهيئة أجنحة معزولة كصحون طائرة، مجهزة جميعاً بكل ما يخطر ومالا يخطر حتى على الخيال المبدع لحكايا ألف ليلة وليلة .. من زخرف ومباهج ملكية ومظاهر ترف باذخ، تتخللها جنائن وغابات وبحيرات وشلالات وخدم وحاشية وجوارٍ وغلمان ووصيفات، تحكم كل جناح أميرة كاملة الأنوثة والجمال والجلال من تلك التي يختارها الكهنة كملكة للجمال في كل عام .. في مراسيم وطقوس احتفال سنوي  تقيمه المملكة لهذا الغرض؛ فيقدمها الراهب الأعظم في ختام المهرجان، كهدية لجلالة الملك للدخول بها بتلك الليلية كرمز على تجدد الحياة، وديمومة السعادة .. فتسيِّر أمور مملكتها الصغيرة المعدّة خلال عام منصرم من التهيئة والترتيب، وبما تحب وتهوى، شأن ملكات القصر الأخريات، ممن سبقنها الفوز باللقب، فتظل كل منهن تجهّز قصرها وتشرف بنفسها على أدق التفاصيل فيه،منافسة لغيرها، لأنها تتوقع - بأية لحظة- نزول السعد عليها بحلول الأمير المبجل لقضاء ليلته عندها، وكل آمالها أن تعلق ذكرى ليلته تلك معها في ذاكرته المتخمة بالملذات، فيعيده الحنين لتكرارها، وكي ترزق منه بولي العهد ليحفظ لها عزّتها، ويدغدغ أحلام الحكم لديها.
وقد أستغل ذاك الطاغوت الغاشم الرخوة بعد أجواء الفرح، وميعة تعب الانشغال بطقوس الحفل الكبير، وبتصويب من قوى الشر وأبالسة المكر والغيلة، ثم دعا ذاك الطاغوت بعد أن استوت له مقاليد القصور جميعاً ودانت له بالطاعة، شعب المملكة في صبيحة ذات يوم مشؤوم لن ينسوه أبداً إلى المنصة الكبرى لقصر الإمارة، وكل منهم يصطحب دهشته، إذ لم يعهدوه يوماً للاحتفال أو الاحتفاء بمناسبة أو ذكرى، فخرج عليهم برأس الأمير المخلوع، محمولاً فوق سنان سيفه وهو لا يزال يقطر دماً، وجميع الأميرات سبايا، فيطّوح به مزهواً ويضجّ بالضحكات وصراخ النصر الهستيري بالكلمات الرنانة، فينثر الذهب والفضة، على رؤوس الأشهاد في يوم احتفال صاخب لم تشهد أيام المملكة له شبيها في تأريخها الحافل بالملوك والسلاطين والأمراء ، استمر حتى صباح اليوم التالي، فأغوى الناس بمعسول الوعود والآمال ومبطون السمِّ، بما تشتهي النفوس وتهوى ، فزاد في الترف والبذخ أضعافا،ً فحاد الرعية عن جادة المعروف صوب كل منكر .. بالنسيان لنعم الرحمن، فأودى بهم إلى التمرد وإعلان العصيان على رب الأرباب، بمبايعة ذاك الطاغوت الغاشم والمليك الظالم وإعطائه العهود العمياء، ترغيباً وترهيباً .. بعد أن تقـمصته روح شريرة لنزوله إلى دهاليز العالم السفلي للقصر، دون إذن الآلهة أو شيطان الفضاء ـ أولياء نعمته ـ فتغمدته الأرواح المعذبة بالنفي الدنيوي هناك بوهج من نيران الجحيم، واعدة إياه بالخلود الأبدي في دنيا الأبدان، خاصة وقد لمست كفره بأية فكرة عن الأرواح وعوالم ما بعد هذه الحياة، بهرطقات العظمة في نفسه، فأحالت نصفه العلوي إلى حمأٍ مسنون، وأبقت للتمويه على النصف الآخر .. لمخادعة آلهة الأرض وشيطان الهواء.
  ومن ثم محاولة إرهاب الناس به؛ فصيِّر كائناً عجيباً ممسوخ الآدمية، تعتمل بداخله المتناقضات وصراع الأضداد، فلم تشهد ألواح الأساطير القديمة للمملكة له مثيلاً، فهو يذبح أحباءه ويشرب من دمهم، وأثناء ذلك يبكي عليهم بحرقة لا يرقى لها شك، ثم يقيم لهم المآتم والأضرحة والتماثيل ويغمرهم بالوفاء، لم يعرف ضميره الندم قط لأنه يعتقد بـ " الخطأ المقدس " وهو دين أنصاف الآلهة أو أنصاف الشياطين، لكنه يتمظهر بهيئة غريبة تتلاءم مع المخططات القادمة، صعق الناس فحواه البشع، وجرأة فعاله التي لم يشهد شعب المملكة لها نظيراً، فهو يمشي بقدمي إنسان ويتنقل بروح شيطان، ولشدّ ما أثار رعب الرعية بتواجده بذات اللحظة في أكثر من جسد ومكان، بدهاء الأبالسة وتصرفات الجان، فيقرأ الأفكار من لحظات العيون، والنوايا المبيتة من خفقات الأفئدة، ومن خطوط المحيا يتنبأ بمآل الإنسان، فيفاجئ الشخص بما كان ينوي فعله، ويسحب لسانه بالاعتراف أمام الملأ، فيحكم عليه بأخذ عنقه قبل الشروع الفعلي بالجريمة.
وما كان لأحد السبيل لمعرفة النوايا الخبيثة لآلهة الأرض وشيطان الفضاء، باللعب على الطرفين معاً .. بتحريض الأول ومساندته، وإفشاء السرِّ للثاني في آخر لحظة.. لذا فشلت منذ البدء كل محاولات التخلص منه، فغدا شعب المملكة في شك من قدرة بشري للدنو منه، فضلاً عن قتله .. بعد تكرار المحاولة الفاشلة تلو المحاولة، وتوزع عشرات الرؤوس المعلقة على جدران وشرفات القصر وعند المداخل وفي ثنايا الغرف والقاعات، فتهامسوا في البدء عن ظلمه وطغيانه .. فكفَّ الواحد منهم مخافة على رأسه من وشاية الطير، فتهامس مع نفسه، فكفَّ أيضا مخافة الجدران، وأخيراً كفَّ عن التفكر بالأمر مخافة نفسه!.
فأُشيع بين الناس بأنه محض جان وليس من بني الإنسان، فلا وجود له في التجسيد الفعلي، كي تنوشه الأيدي والأبدان، وإن كانت صورته تبدو لهم في الأوهام، بيد إنه ينصبها شراكاً ومصيدة لأعدائه للإيقاع بهم .. حتى قيل بأن الشيطان الأكبر نفسه غضب على شياطينه وسئم سقـم عمل إتباعه من الجنسين معا، عبر ملايين السنين من الوسوسة دون طائل، فلفه اليأس أخيراً من جدوى أساليب غوايتهم البدائية، فاضطر للتجسد في هيكل وكيان وقيل ... وقيل من عشرات التخرصات والتكهنات, وإنه يسخِّر أتباعه من الأبالسة والجان، ويستعمل الممسوخات لتوافيه بكل صغيرة وكبيرة عن أحوال الرعية في يقظتهم ونومهم ، بل حتى بما يجول في خواطرهم من نوايا تكفيرية، وبوادر تمردات دينية على شرعة الصنمية التي سُنَّت في مسلات المملكة كَدين وحيد للمملكة معتَرف به، يوحي به للناس معبود أوحد، فيحاسَب الخارج عليه، والرافِض الدخول فيه كزنديق يستحِق الحَرق والشنق لأنه متمرد على الشريعة المقدّسة ..بل وكافر بمشيئة رب الأرباب.
خاصة بعدما اتسقت أركان دولته، وحاك قوانينها العجيبة على مقاساته المترهلة، فالتبست عند الناس الرؤية الصائبة للهيئات والكينونات الأرضية، واختلطت في أعينهم القدرة على فرز الألوان، لاقتراب الأسود من الأبيض كثيراً .. بل انتحال شخصيته أحياناً، فتَنَمرد على شعب المملكة .. وتفرعن .. وطغى، مستفيداً من تاريخ الوثنية لديهم، وإرث التأليه عندهم، لاستطالة أزمان العبودية والجهل والمرض، وقد أمرت آلهة الأرض وشيطان الفضاء، قوى الشر، وأبالسة الجان التي وكلتها لحراسة خطواته، وموافاته بالإرشادات والدروس اللازمة، ومن ثم أشارت عليه أن يقرأ جيداً سير الدهاة من الحكام من الأولين والآخرين، ويستحضر أساليب المكر والخبث في سياستهم، ويتمعن بأسرارها وخباياها، وأن يدرس بتعمق كل الأخطاء التي أوقعت بهم، والإطاحة بتيجانهم، ثم أودت بممالكهم إلى الانهيار، خاصة المتأخرين منهم، فتأثر ـ على غير ما رغبت ـ بأساطير أولئك من أنصاف الآلهة وأنصاف الشياطين المؤسطرة أصلاً ، فراح يتشبه بهم، ويتشبث بشطحاتهم، ويتقـمص أحيانا شخصياتهم؛ فيدعي بخوارقهم، وينسب لنفسه بعض أعمالهم، وكلما توغل خطوة أكثر؛ انتفخ أكثر، ثم تغطرس وتعالى، وتشوهت في عينيه الرؤية العادية للأشياء والأحداث، وتشوشت وانقلبت عنده المقاييس المألوفة، كأنه ينظر عبر زجاجات مقعرة ومحدبة، فينظر إلى الناس كمخلوقات جاءت كي تدين له بالطاعة، وتؤدي له فروض الشكر والعرفان، ضارعة بين يديه، ومبتهلة لجلال مقامه، لكي يأخذ ما يشاء من مالها ومن دمها كثمن للديمومة.
وأخيراً وقد وصل به الأمر منتهاه؛ فألبس أيام المملكة ثوباً احمر من النار والدم، فـما عاد يروي تعطشه المحموم للدم؛ سوى الإيغال بعيداً في الدم .. بلهاث، هرباً وملاذاً ، فيزداد تعطشاً بمسعى مسعور، وقد ضجَّت إلى السماء دماء الأبرياء من الناس، واكتظت أرواح الذين صفت جماجمهم كبلاط للدهاليز السرية لقلاعه وقصوره، وزنازينه تحت الأرض والماء، وفي أوج حمأة الموت في دمه الموبوء، وتخبطه المعتوه، وعمى بصيرته؛ تناوش بحرابه وكلابه - هذه المرَّة- معاقل قوى الشر وأبالسة الجان ذاتها التي خولته أن يكون مليكاً أبديا على الحياة، كي يجمع لنفسه السلطتين معاً، بسلبها السلطة الروحية، وإضافتها على الزمنية لديه، وليهدئ من قلقه المتفاقـم من هاجس الفناء، والحرص على نفسه، نتيجة حبه اللامتناهي للحياة .. بعد تيقنه من زيف الوعود المقطوعة له، فيصحح خطأ السهوة التي أطاحت بـ(گلگامش) حينما سرقت منه الأفعى عشبة الخلود .. في خضم غفوة، وأعتقد إنه على وشك أن يصيب كيده بها، أو تراءى له أنه يستطيع فعل ذلك؛ فبطشت به .. ماسحة الأرض بجسده، بعد أن افتضح أمره، بسحب ذيله من الجحر الذي حشر نفسه فيه هرباً، ولترمي به في الآخر .. كجرذ قذر إلى قـمامة النفايات في مزبلة التاريخ.
هامش:
(*) تنقل الألواح والرقم القديمة؛ إنه بالأصل كان عبارة عن جبل عظيم أوى إليه الإله على لوح من حطام فلك غارق، بعد أن غمر الطوفان الأرض، فغفي عليه تعبا وحلم؛ فكانت هذه الحياة . 
taleb1900t@yahoo.com
 
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


طالب عباس الظاهر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/03/11



كتابة تعليق لموضوع : صلصال
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net