صفحة الكاتب : نبيل محمد حسن الكرخي

تعليقات على "الرسالة إلى ديوجينيتُس" - 2 / 3
نبيل محمد حسن الكرخي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أيضاً ورد في هذا الفصل من الرسالة قوله:

"وما هو نوع العبادة التى تجعلهم يحتقرون المادة، ويهزءون بالموت، ولا يعترفون بآلهة اليونانيين

ولا يمارسون خرافات اليهود؟"!

فهذه اربعة قضايا ينسبها للمسيحيين على سبيل المدح!

فأما قضية احتقارهم للمادة، فربما كان يقصد انهم يحتقرون الحياة فإستخدم (المادة) كتسمية للشيء بأسم نوعه، كما قد يقول احدهم عن السيارة: لا أحب هذا الحديد! وهكذا، وهو ما تكشفه الترجمة الثانية للنص حيث قالت: (الازدراء بالعالم)! فربما يكون المعنى الزهد في الحياة الاجتماعية والتشجيع على الرهبنة والانعزال! وهذا يقودنا الى موضوع إبتعاد المسيحية عن الحياة الإجتماعية، وتخصصها كعبادة روحية فقط! فلا توجد في المسيحية نظام اجتماعي صالح، ولا تعاليم تفصيلية لبناء مجتمع صالح! بل يوجد فيها تشجيع على العزوبية بدلاً من الزواج وتكوين الاسرة! تصوروا لو زادت قناعة المسيحيين في مجتمعاتهم بالابتعاد عن الزواج، كيف سيصبح حال المجتمع! سيكون المجتمع ضعيف النمو السكاني، وستصيبه الشيخوخة وتزداد وتيرتها كلما زاد عدد المقتنعين بالوصايا المسيحية بالامتناع عن الزواج! وسينهار بعد عدة عقود او قرون! وما بقاء المجتمعات المسيحية لأكثر من 2000 سنة سوى لضعف قناعتهم بقضية الامتناع عن الزواج وتجاهل طبيعتهم البشرية بالامتناع عن الزواج! وتقديم أكثريتهم في مجتمعاتهم ان يعيشوا الحياة كبشر يمارسون المواهب الطبيعية التي وهبها الله سبحانه لهم وفي مقدمتها طبيعة المعاشرة الزوجية، بدلا من الامتناع عنها وقمعها وكبتها نزولاً عند تعاليم بولس!

ويوجد في التعاليم الاجتماعية المسيحية منع للطلاق فلا يتمكن المتزوج الفاشل في زواجه من تصحيح مسيرة زواجه ليكوِّن اسرة اخرى صالحة في المجتمع بعد فشل تجربته الاولى، وهذا يترك المجتمع ينوء تحت حقيقة تكوينه من مجموعة من الاسر التي تشكل العلاقات الفاشلة فيها نسبة كبير! وبالتالي لن يكون هناك مجتمعٌ صالحٌ.

واما القول بأنَّهم يهزؤن بالموت فيقصد به التضحية من أجل البشارة. وللموت والقتل من اجل البشارة واضح في تراث المسيحية والعهد الجديد. يقول بولس في رسالته الى فيلبي (21:1): (لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح). وروحية "الموت من اجل الدين" تتمتع بها المسيحية بوضوح، من خلال نصوص العهد الجديد، وشهدائها الذين ضحّوا بأنفسهم من أجل البشارة (الدين) والحروب الصليبية التي خاضها المسيحيون لإحتلال بيت المقدس والساحل الشرقي للبحر المتوسط، وأيضاً من خلال تراثها، بعشرات الأمثلة على الشهادة.

ونقتبس كلام المطران جورج صليبا، راعي أبرشية جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس، حول "روحانية الشهادة والاستشهاد في الكتاب المقدس" جاء فيها: (أطنب الكتاب المقدس وخاصة العهد الجديد في مديح الشهداء الذين لهم منازل سامية وسامية جدا” في السماء. فليس كثيرا” ان يموت هؤلاء من اجل هذه الوعود السماوية العالية والغالية ... الكنيسة اخذت وتعلمت هذه القدوة من رب الكنيسة ومؤسسها وفاديها ربنا يسوع المسيح الذي مات من اجل الناس كل الناس. وهذا الثمن الغالي الذي دفعه يسوع ببذل دم اقنومه لم يكن مقابل اثمان بذلها البشر من اجله والرسول بولس يقول “ونحن بعد اشرار مات المسيح لأجلنا”. اذا هذا الفداء لم يكن طمعاً بمجد باطل وبمركز وبمقام يستحق شيئاً من هذا العطاء غير المحدود. بل كان مثالاً يحتذى قوله يسوع للبشرية جمعاء. بل وهو القائل من الجهد ان يموت إنسان صالح من اجل الصالحين لكم بالأحرى ان يموت من اجل الأشرار فهذه التضحية بل هذه هي الرسالة وهذا التوجيه السليم والمثل الحسن ... لقد تغنى المسيحيون وآباء الكنيسة في كل العصور بتضحيات الشهداء ووصفوهم بأجمل الكلمات والعبارت والتعابير والأقوال بل بممارسة القدوة الحسنة. اذ لم ترعبهم السيوف ولم يتأثروا بانواع الحتوف.. بل بالعكس رأوا في الموت حياة وبالشهادة والاستشهاد انجيلا” مميزا” ومدرسة لا أهم بل ولا أعظم لهذا استهانوا بالموت لينشدوا مع مار بولس رسول الأمم قائلين “لأن لي الحياة هي المسيح والموت ربح“ ... المؤمنون في كل الأجيال نهجوا على هذا المثال واسترخصوا كل شيء في العالم وحياتهم خاصة لأنهم عرفوا وتعلموا ان كل امجاد هذا العالم لا تعادل المجد العتيد المحفوظ في السموات وصارت دماؤهم على الأرض نوراً يضيء الطريق امامهم للفوز بالحياة الأبدية لهذا اهملوا العالم وكل ما في العالم ليكونوا للمسيح وللمسيح وحده)[1].

فما هو فرق هذا الخطاب المسيحي حول الشهادة عن الخطاب الاسلامي عن الجهاد والاستشهاد؟!

وأما انهم لا يعترفون بآلهة اليونان، فهم من جهة لا يعترفون بآلهة اليونان وأصنامها، ولكن من جهة أخرى هل كانت عقيدتهم خالية من الصنمية؟! أليس في المسيحية ان الإله تجسّد، كما كانت في قصص اليونان أنَّ الآلهة تتجسّد؟! وكما كانت في قصص اليونان هناك زواج بين الآلهة وزواج آخر وعلاقات بين بعض الآلهة وبعض البشر، فكذلك في المسيحية هناك مريم والدة الإله، ويوسف النجار خطيب والدة الإله! وهو أيضاً والد الإله من حيث الناسوت وفقاً للنسب المذكور في إنجيلي متّى ولوقا! أليس للمسيح الإله أقرباء من حيث الناسوت، كما هو مذكور في العهد الجديد! أليس في المسيحية تماثيل وآيقونات للمسيح ووالدة الإله ولللأب وللروح القدس، كما كانت هناك تماثيل لآلهة اليونان!

وأما قوله في الرسالة ان المسيحيين لا يمارسون خرافات اليهود، فالظاهر هو يقصد الطقوس اليهودية المكتوبة في التوراة، وفي مقدمتها الختان والتزامهم بالامتناع عن العمل في السبت، ويضيف لها ايضاً عملهم بالشهور القمرية! ثم عمد المسيحيون بعد نبذهم لشريعة اليهود وطقوسهم الى استحداث طقوس اشدّ تعقيداً او بمستوى مماثل من التعقيد، حيث ظهرت الحاجة لها كلما مرّ عليهم عقد او قرن! فعلى سبيل المثال نجد عند المسيحيين اتباع الكنيسة القبطية التعاليم والطقوس التالية:

· السنكسار

· سلاسل كتب الطقوس

· قطمارس الأيام

· قطمارس الخماسين المقدسة

· قطمارس الصوم الكبير

· قطمارس صوم يونان

· قطمارس قراءات الآحاد

· الإبصلمودية الكيهكية

· الخولاجي المقدس

· كتب صلوات التجنيز

· دلال أسبوع الآلام

· الدفنار

· الأجبية

· صلاة باكر

· صلاة الساعة الثالثة

· صلاة الساعة السادسة

· صلاة الساعة التاسعة

· صلاة الساعة الحادية عشر - الغروب

· صلاة الساعة الثانية عشر - النوم

· صلاة نصف الليل

· صلاة الستار

· الثلاث تقديسات

· الإبصلمودية المقدسة السنوية

· الإبصاليات

· تأملات في الابصلمودية المقدسة السنوية

· الثيئوطوكيات

· الذكصولوجيات

بالاضافة الى القداسات التالية:

· القداس الباسيلي

· القداس الغريغوري

· القداس الكيرلسي

· قداس المتنيح الأب يسّى رزق مع المعلم إبراهيم عياد

· القداس الحبشي (المعروف بقداس يوحنا بن الرعد)

... وغيرها.

وهذا يبيّن الفرق الشاسع بين المسيحية في ايام كتابة الرسالة الى ديوجينيتُس والمسيحية الحالية! فهل يمكن الجزم ان المسيحية الحالية هي نفس مسيحية "مسيح الاناجيل" او حتى نفس مسيحية بولس؟!

الفصل الثاني: بطلان الاصنام

ترجمة السيدة بولين تُدري أسعد:

"تعالى اذن بعد ان تنقى نفسك من كل تحيز يسيطر على فكرك، واترك جانبا كل ما تعودت عليه كشىء يمكن ان يخدعك. واذا تصير انسانا جديدا من البداية طبقا لأعترافك بأنك ستكون مستمتعا لنظام العقيدة الجديدة (المسيحية). تعال وتأمل، ليس بعينيك فقط بل بفهمك ايضا، ما هو جوهر وما هو شكل اولئك الذين تعتبرونهم انتم ألهة. أليس واحد منها حجرا مشابها للحجر الذى ندوسه بالاقدام؟ أليس الثانى نحاس، ولا يزيد بأى حال عن الاوعية التى تُصنع للأستعمالات العادية الدارجة؟ ألأيس الثالث خشبة تتعفن بسهولة؟ أليس الرابع فضة، التى تحتاج حراسة من الانسان لئلا تُسرق؟ أليس الخامس حديد، الذى يتاّكل بالصدأ؟ أليس السادس فخار، ليس له قيمة أعلى مما يُصنع لأحقر الاغراض؟ أليست كل هذه الاشياء من مادة قابلة للفساد والتحلل؟ ألم يُصنعوا بالحديد والنار؟ ألم يشكل صانع التماثيل واحدا منها؟ وصانع النحاس ألها اخرا، وصانع الفضة صنع ثالثهم؟ والخزاف رابعهم؟ أليس كل واحد من هذه التماثيل التى تم عملها عن طريق الصُناع المختلفين لتأخذ شكل الاّلهة، كان من الممكن تغييره؟ ألم يكن من الممكن لهذه الاشياء التى هى الان بشكل اوانى ومصنوعة من نفس المواد ان تتحول بيد صانع ماهر الى تماثيل؟ أليست هذه التماثيل التى تُعبد منك الان، يعاد صنعها على ايدى صانعى الاوانى مثل الاخرى؟ أليسوا كلهم صُم؟ أليسوا كلهم عميان؟ أليسوا بلا حياة؟ أليسوا خاليين من الاحساس؟ أليسوا عاجزين عن الحركة؟ أليست مُعرضة ان يفسدها السوس؟ أليست كلها قابلة للفساد؟ هذه الاشياء التى تدعونها اّلهة، وتخدمونها وتعبدونها، أنتم تصيرون مثلها. لذلك انتم تكرهون المسيحيين لأنهم لم يعتبروا هذه الاشياء اّلهة. ولكن ألستم انت انفسكم الذين تفكرون الان وتفترشون انها ألهة، تستخفون بها اكثر مما يفعل المسيحيون؟ ألستم تهزؤون وتسخرون بها حينما تعبدون اشياء مصنوعة من الحجر والخزف، بدون تعيين اى شخص لحراستها، اما الاشياء المصنوعة من الذهب او الفضة فتغلقون عليها ليلا، وتعينون حراسا بالنهار لحراستها، خشية ان تُسرق؟ وايضا ألستم بهذه الهدايا التى تقدمونها لها تعاقبونها بدلا من ان تكرمونها لو كان عندها اى احساس؟ ولكن من ناحية اخرى لو انها كانت خالية من اى تمييز فأنتم توبخونها على هذا الامر بينما انتم تعبدونها بالدم ودخان الذبائح؟ دع اى واحد منكم يعانى هذه الاهانات! دع اى واحد ان يحتمل ان تحدث له هذه الاشياء!، لا يوجد اى انسان يحتمل هذه المعاملة الا اذا اُجبر على ذلك، حيث ان عنده تمييز وعقل. اما الحجر فهو يحتمل هذه المعاملة لأنه بلا احساس. بالتأكيد انت بتصرفك هذا (اى برش الدم عليه) تظهر ان ألهك لا يملك اى تمييز. والحقيقة ان المسيحيين لم يعتادوا ان يخدموا هذه الاّلهة. ومن السهل علىٌ ان اجد اشياء كثيرة لأقولها بهذا الخصوص. ولكن ان كان ما قلته لا يبدو لأى احد انه كاف، فأظن انه امر عديم الجدوى ان اقول اى شىء اخر.

ترجمة انطون فهمي جورج:

"يا ليتك تطهر عقلك من التعصب الذي يمنعك من التفكير بل يا ليتك تخلع عنك كل العادات التي تتمسك بها لأنها تخدعك، بهذا تصبح إنسانًا جديدًا من جديد، لان ما سوف تسمعه منى جديد، وأنت نفسك تسلم بذلك. انظر ليس بعينيك فقط بل بعقلك ما هو حقيقة وشكل تلك التي تدعونها وتعاملونها كآلهة. أليس الواحد منها حجرًا كالذي نسير عليه (بأقدامنا) والآخر معدنًا لا يسمو قيمة على أن آنية مصنوعة (من نفس المعدن) نستخدمها لقضاء الحاجة؟ أليس الواحد منها خشبًا نخره السوس والآخر فضة يحتاج إلى بشر يحرسه من اللصوص، أو حديدًا يأكله الصدأ أو خزفًا لا فرق بينه وبين آنية (خزفية) تستعمل لأدني الأغراض. الم يصنع كل منها من مادة فانية؟ الم يشكل (هذه المادة) الحديد والنار؟ أليس كل هذه الآلهة من عمل نحات استخدام الخشب، أو من صنع الحداد أو الصائغ أو الخزاف؟ وقبل إخراجها في شكل آلهة على أيدي الفنانين، أما كان ممكنًا أن يتغير شكلها (الآلهة) حسب رغبة الصانع، بل ويتغير إلى ما لا نهاية؟ لأنه من الممكن أليس كذلك، أن تتحول الآنية المسبوكة من نفس المعدن إلى آلهة، والآلهة التي تعبدونها إلى آنية إذا ما عكفت عليها يد الصانع الفنان. وأيضًا، ليس من الممكن أن تتحول (التماثيل) التي تعبدونها إلى آنية مثل أي آنية، وان ذلك يتم بواسطة البشر؟ ألا تراها (التماثيل) جميعًا صماء، عمياء، لا حياة فيها ولا شعور؟ أليس كلها غير قادرة على الحركة؟ ألا تتآكل؟ ألا يدب فيها الفساد؟ هل تدعون هذه آلهة؟ وهل هذه ما تعبدون وهل هذه ما تقدمون لها الصلوات؟ وفي النهاية تصبحون مثلها؟ أليس ما يحملكم على إضمار البغض للمسيحيين هو أنهم لا يعتقدون أن هذه التماثيل آلهة. ومع ذلك فمن بينكم انتم أيضًا من يزدرى بهذه الآلهة التي تجلونها وتعبدونه، بل انتم تصرفون بشكل يجلب الاحتقار لهذه الآلهة، لأنكم عندما تعبدون الحجر والخزف تقيمون الحرس لحراستها، بل تغلقون عليها الأبواب بإحكام في الليل، إن كانت فضة أو ذهبًا، وتقيمون الحراس في النهار، حتى لا يخطفها اللصوص. لو كان لهذه التماثيل قوة إدراك لرفضت التكريم الذي تقدمونه لها، ولكن لأنها بلا ادارك أعلنتم انتم عدم أهميتها بالعبادة التي تقدمونها وبدم وشحم الذبائح المضحى بها. ليجرب أي منكم أن تقدم له العبادة والإكرام الذي يقدم لتماثيل، إنني على يقين من أن لن يحتمل، لان له إدراكًا وعقلًا، أما التماثيل فإنها تقبل ما تقدمونه لها لأنها فاقدة الشعور والفكر، وقبولها هذا التكريم هو الدليل الذي تقدمونه انتم على بطلانها. عندي كلام كثير أقوله عن الأسباب التي تجعل المسيحيين يرفضون تقديم العبادة لهذه الإلهة، ولكن ما ذكرت يكفى، أما إذا وجد إنسان أن ما ذكرته لا يكفى، فإنني اعتقد أن الاستفاضة في شرح الأسباب هي بلا جدوى".

التعليق:

يتحدث كاتب الرسالة بكل منطق وعقل وحكمة حينما يتحدث عن الاصنام، ولكن يا ليته فعل نفس الامر مع فكرة "الإله المتأنسن"التي جاء بها بولس واتباعه!

فما هو الفرق بين من يعبد الاصنام وبين من يعبد إنساناً يعتبره إلهاً! فكلاهما ذو قدرة محدودة، فالصنم ثابت غير متحرك لأنه جماد، والانسان قدرته بقدر قابليته العضلية والفكرية، حتى وإن تحرك وعمل وانتج بعض الامور تبقى قدرته محدودة جداً امام قدرة الخالق سبحانه. فالانسان والصنم سواء في محدودية قدرتهما امام الإله سبحانه، بقي الاشكال هو فيما كان يجريه المسيح من معجزات، هل يمكن ان نعتبر ان تلك المعجزات ذريعة لإعتبار الانسان الذي اجراها هو إله أيضاً؟! اذا كان الامر كذلك فيمكن لأي إنسان يجري مثل هذه المعجزات ان نعتبره إلهاً!! وهذا الاختيار غير صحيح، فليس كل من يأتي بمعجزات يكون إلهاً، فالنبي موسى (عليه السلام) جاء بمعجزات عظيمة، ولكن لم يقل أحد عنه انه إله! وحتى المعجزات التي جاء بها المسيح قد جاء بمثلها انبياء قبله سبقوه في التاريخ، نذكر منها:

* إيليا يحيي طفلا ميتًا: جاء في سفر الملوك الأول (17: 17-24): (وبعد هذه الأمور مرض ابن المرأة صاحبة البيت واشتد مرضه جدا حتى لم تبق فيه نسمة. فقالت لإيليا: «ما لي ولك يا رجل الله! هل جئت إلي لتذكير إثمي وإماتة ابني؟». فقال لها: «أعطيني ابنك». وأخذه من حضنها وصعد به إلى العلية التي كان مقيما بها، وأضجعه على سريره، وصرخ إلى الرب وقال: «أيها الرب إلهي، أأيضا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها؟"فتمدد على الولد ثلاث مرات، وصرخ إلى الرب وقال: «يا رب إلهي، لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه». فسمع الرب لصوت إيليا، فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش. فأخذ إيليا الولد ونزل به من العلية إلى البيت ودفعه لأمه، وقال إيليا: «انظري، ابنك حي» فقالت المرأة لإيليا: «هذا الوقت علمت أنك رجل الله، وأن كلام الرب في فمك حق»).

* ميت يعود الى الحياة لمسه قبراليشع: في سفر الملوك الثاني (13 -21): (وفيما كانوا يدفنون رجلا إذا بهم قد رأوا الغزاة، فطرحوا الرجل في قبر أليشع، فلما نزل الرجل ومس عظام أليشع عاش وقام على رجليه).

* حزقيال أحيا جيشا كاملا: في سفر حزقيال (37: 9و10): (فقال لي: «تنبأ للروح، تنبأ يا ابن آدم، وقل للروح: هكذا قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا». فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح، فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جداً).

* النبي يشوع يوقف الشمس في السماء، في سفر يشوع (10: 13): (فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر؟ فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل).

* ايليا يصنع معجزة عدم نفاد الدقيق والزيت، في سفر الملوك الاول (17: 13 و14): (فقال لها إيليا: «لا تخافي. ادخلي واعملي كقولك، ولكن اعملي لي منها كعكة صغيرة أولا واخرجي بها إلي، ثم اعملي لك ولابنك أخيرا. لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: إن كوار الدقيق لا يفرغ، وكوز الزيت لا ينقص، إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطرا على وجه الأرض»).

* اليشع يحيي صبي، في سفر الملوك الثاني (32:4-37): (ودخل أليشع البيت وإذا بالصبي ميت ومضطجع على سريره. فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما، وصلى إلى الرب. ثم صعد واضطجع فوق الصبي ووضع فمه على فمه، وعينيه على عينيه، ويديه على يديه، وتمدد عليه فسخن جسد الولد. ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هنا وتارة إلى هناك، وصعد وتمدد عليه فعطس الصبي سبع مرات، ثم فتح الصبي عينيه. فدعا جيحزي وقال: «ادع هذه الشونمية"فدعاها. ولما دخلت إليه قال: «احملي ابنك». فأتت وسقطت على رجليه وسجدت إلى الأرض، ثم حملت ابنها وخرجت).

* أليشع يشفي رجلاً من البرص، في سفر الملوك الثاني (5: 1-15) ننقل منه بإختصار: (وكان نعمان رئيس جيش ملك أرام رجلا عظيما عند سيده مرفوع الوجه، لأنه عن يده أعطى الرب خلاصا لأرام. وكان الرجل جبار بأس، أبرص)،،،،، (فقال ملك أرام: «انطلق ذاهبا، فأرسل كتابا إلى ملك إسرائيل»)،،،،، (وأتى بالكتاب إلى ملك إسرائيل يقول فيه: «فالآن عند وصول هذا الكتاب إليك، هوذا قد أرسلت إليك نعمان عبدي فاشفه من برصه»)،،،،، (ولما سمع أليشع رجل الله أن ملك إسرائيل قد مزق ثيابه، أرسل إلى الملك)،،، (فجاء نعمان بخيله ومركباته ووقف عند باب بيت أليشع. فأرسل إليه أليشع رسولا يقول: «اذهب واغتسل سبع مرات في الأردن، فيرجع لحمك إليك وتطهر»)،،، (فنزل وغطس في الأردن سبع مرات، حسب قول رجل الله، فرجع لحمه كلحم صبي صغير وطهر. فرجع إلى رجل الله هو وكل جيشه ودخل ووقف أمامه وقال: «هوذا قد عرفت أنه ليس إله في كل الأرض إلا في إسرائيل، والآن فخذ بركة من عبدك»).

فهؤلاء الانبياء قد اتوا بمعجزات تضاهي أو تماثل معجزات المسيح عيسى بن مريم، فإذا قال المسيح لرسولي يوحنا المعمدان اللذان ارسلهما له، كما في انجيل لوقا (7: 18-23): (اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما: إن العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون. وطوبى لمن لا يعثر في)، فمعنى كلام المسيح انه نبي عظيم يجري المعجزات كما كان إيليا وأليشع وحزقيال انبياء عظام يجرون المعجزات. ولا علاقة للموضوع بما زعمه اتباع بولس له من ان إتيانه بالمعجزات دليل انه "ابن الله" او الله او "الاقنوم الثاني" أو "الإله المتأنسن"!!

الفصل الثالث: خرافات اليهود

ترجمة السيدة بولين تُدري أسعد:

"وبعد ذلك، انا اتخيل انك مشتاق جدا ان تسمع عن هذه النقطة، وهى ان المسيحيين لا يلتزمون بنفس اشكال العبادة التى يمارسها اليهود. فاذا كان اليهود قد امتنعوا عن انواع التقدمات الوثنية (التى شرحتها سابقا)، واعتبروا انه من الافضل ان يعبدوا ألها واحدا هو رب الكل، فهذا صواب. ولكن اذا عبدوا الأله الواحد بنفس الطريقة الوثنية فأنهم يخطئون خطأ عظيما. فعندما يقدم الوثنيون عطاياهم لهذه التماثيل الخالية من التمييز والسمع، فأنما يقدمون مثالا للحماقة، ولكنهم من ناحية اخرى بتفكيرهم فى تقديم هذه العطايا لله كأنه محتاج أليها، فهذا يُعتبر حماقة وليس عبادة الهية، لأن الذى خلق السماء والارض وكل ما فيها، والذى يعطينا كل شىء نحتاج أليه، هو بالتأكيد لا يحتاج اى شىء من هذه الاشياء التى يمنحها للذين يظنون انهم يوفرون له هذه الاشياء. و لكن الذين يتخيلون انه برش الدم ورفع بخور التضحيات والمحرقات يقدمون ذبائح مقبولة لدى الله، وانهم بمثل هذا الاكرام يظهرون له الاحترام، هؤلاء بأفتراضهم انهم قادرون ان يعطوا اى شىء لمن هو غير محتاج لشىء، ارى انهم لا يختلفون بأى حال عن الذين يمنحون الاكرام للأشياء التى لا تحس، ولذلك فهى غير قادرة ان تتمتع بهذه الكرامات.

ترجمة انطون فهمي جورج:

"ويلي هذا طبعًا ما تود أن تعرفه بشكل خاص، أي أن تسمع (إجابة لسؤال)، لماذا لا يعبد المسيحيون مثل اليهود؟ اليهود على حق في امتناعهم عن العبادة الوثنية التي تحدثت عنها وفي تمسكهم بالإله الواحد رب الكون الذي يعتبرونه سيد كل شيء، ولكنهم يخطئون لأنهم يعبدونه بذات الشكل السابق الذي تحدثت عنه. وكما أن اليونانيين يبرهنون على غباوتهم بتقديم الذبائح للتماثيل الصماء، هكذا على اليهود أن يعرفوا أنهم يبرهنون على غباوة، وليس على احترام، عندما يظنون أن الله يحتاج إلى الذبائح. لان "الذي صنع السموات والأرض وكل ما فيهما"(خر 20: 11 مز 146: 6 - أع 14: 15) والذي يعطى للكل ما يحتاجه، لا يحتاج لما يقدمه هو لنا. وفي هذا كله، يبدو لي أنه لا فرق بين الذين يعبدون ويكرمون الله بتقديس الذبائح وتقديم الدم والشحم والمحرقات له، وبين هؤلاء الذين يقدمونها لتماثيل الصماء، ويبدو لي أن اليونانيين يقدمون لما لا يمكنه أن يشترك في الذبيحة أو يقبل تكريمًا، أي التماثيل، وان اليهود يقدمون لمن لا يحتاج لشيء بالمرة".

التعليق:

واضح ان كاتب الرسالة كان من اصل وثني، فهو يجهل كتابات التوراة واسفار الانبياء التي جمعت فيما بعد عند المسيحيين تحت أسم (العهد القديم) ووضعوها كجزء من كتابهم المقدس!

فأصل موضوع شريعة القرابين هو ما جاء في سفر الخروج (20: 24): (مذبحا من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقاتك وذبائح سلامتك، غنمك وبقرك. في كل الأماكن التي فيها أصنع لاسمي ذكرا آتي إليك وأباركك).

وفي الخروج (29: 10-14) نقرأ شريعة ذبيحة الخطيئة وكيفية تقدمتها، وفي الخروج (29: 15-18) نقرأ شريعة تقديم قربان المحرقة لنيل رضا الرب. ثم في الخروج (29: 19-22) وما بعدها الى (30: 10) نقرأ تفاصيل شريعة قربان رائحة الرضى ولحم كبش التكريس والمحرقات اليومية ومذبح البخور.

ثم بمرور الزمن تحولت الشريعة الى مجرد طقوس وفقدت روحانيتها التي كان يفترض لها ان تكون، فالقرابين كانت تعلن "لبني اسرائيل أنَّ الله جادّ في علاقته بهم"[2]، ولكنها فقدت هذا المعنى السامي، وتحولت لطقوس ومظاهر شكلية، ولذلك كان انبياء بني اسرائيل اول من انتقدها، كما نقرا في:

ـ صموئيل الاول (15: 22و23): (فقال صموئيل: «هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب؟ هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش. لأن التمرد كخطية العرافة، والعناد كالوثن والترافيم. لأنك رفضت كلام الرب رفضك من الملك»).

ـ مزامير (51: 15-19): (يا رب افتح شفتي، فيخبر فمي بتسبيحك. لأنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها. بمحرقة لا ترضى. ذبائح الله هي روح منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره. أحسن برضاك إلى صهيون. ابن أسوار أورشليم. حينئذ تسر بذبائح البر، محرقة وتقدمة تامة. حينئذ يصعدون على مذبحك عجولا).

امثال (15: 8): (ذبيحة الأشرار مكرهة الرب، وصلاة المستقيمين مرضاته).

ـ اشعياء (1: 10-20): (اسمعوا كلام الرب يا قضاة سدوم! أصغوا إلى شريعة إلهنا يا شعب عمورة: «لماذا لي كثرة ذبائحكم، يقول الرب. اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات، وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر. حينما تأتون لتظهروا أمامي، من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دوري؟ لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة. البخور هو مكرهة لي. رأس الشهر والسبت ونداء المحفل. لست أطيق الإثم والاعتكاف. رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي. صارت علي ثقلا. مللت حملها. فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دما. اغتسلوا. تنقوا. اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني. كفوا عن فعل الشر. تعلموا فعل الخير. اطلبوا الحق. انصفوا المظلوم. اقضوا لليتيم. حاموا عن الأرملة. هلم نتحاجج، يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف. إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف». لأن فم الرب تكلم).

ـ هوشع (6:6): (إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات).

ـ عاموس (5: 21و22): (بغضت، كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم. إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها).

ـ ميخا (6: 6-8): (بم أتقدم إلى الرب وأنحني للإله العلي؟ هل أتقدم بمحرقات، بعجول أبناء سنة؟ هل يسر الرب بألوف الكباش، بربوات أنهار زيت؟ هل أعطي بكري عن معصيتي، ثمرة جسدي عن خطية نفسي؟ قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة، وتسلك متواضعا مع إلهك).

واما ما جاء في الرسالة حينما يتهم اليهود بأنهم يعتقدون ان الله محتاج لذبائحهم! فليته التفت الى عقيدته ليسأل نفسه: هل الله محتاج لتقديم ابنه الوحيد (بحسب عقيدته) قرباناً على الصليب لمحو خطايا البشر أو محو الخطيئة الاصلية!! وما علاقة هذا بذاك إذا كان الله عظيم القدرة! ألم يتمكن الإله من غفران خطايا التائبين كما كان يحصل فعلاً قبل ظهور المسيح!! ألم يعمّد يوحنا المعمدان كل سكان أورشليم واليهودية لأنهم تابوا من خطاياهم[3]!! لماذا بعد ظهور بولس أصبح غفران الخطايا لا يتم الا بتقديم القربان الإلهي!! هل لأن بولس (شاول الطرسوسي) كان يهودياً فريسياً وفكرة القربان ملتصقة بفكره منذ يهوديته!!

ألم يقرأ كاتب الرسالة ما جاء في انجيل متى (9: 1-8) حيث يذكر ان المسيح كان يغفر الخطايا مباشرة بدون الحاجة الى قربان الصليب! جاء فيه ما نصّه: (فدخل السفينة واجتاز وجاء إلى مدينته. وإذا مفلوج يقدمونه إليه مطروحا على فراش. فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: «ثق يا بني. مغفورة لك خطاياك». وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم: «هذا يجدف!"فعلم يسوع أفكارهم، فقال: «لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم؟ أيما أيسر، أن يقال: مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال: قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا». حينئذ قال للمفلوج: «قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك!"فقام ومضى إلى بيته. فلما رأى الجموع تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا)! فما هي الحاجة الى عقيدة الفداء والخلاص على الصليب؟!!

الفصل الرابع: الاحتراسات الاخرى عند اليهود

ترجمة السيدة بولين تُدري أسعد:

"اما من جهة وسوستهم بخصوص اللحوم، وخرافاتهم من جهة السبوت، وتباهيهم بالختان، وخيالاتهم بخصوص الصوم واوائل الشهور، والتى كلها مدعاة للسخرية وغير جديرة بالاهتمام، فانا لا اظن انك تحتاج ان تتعلم منى اى شىء عنها. لأن قبول بعض الاشياء التى خلقها الله ليستخدمها بحسب ما خُلقت له، ورفض البعض الاخر على انه غير نافع وزائد عن الحاجة، كيف يمكن ان يكون هذا امراً مشروعاً؟ والادعاء عن الله كأنه هو الذى نهانا عن عمل الخير فى السبوت، كيف لا يكون هذا امراً ضد التقوى؟ و ان يتباهى الانسان بختان الجسد على انه برهان على الاختيار وانهم بسببه يتمتعون بمحبة خاصة عند الله، كيف لا يكون هذا مادة للسخرية؟ وملاحظتهم للقمر والنجوم وتوزيعاتهم لحساب الايام والشهور، وفهم مواعيد الله طبقا لمداراتهم، واعتبارهم تغيير فصول السنة بعضها للأعياد او للفرح وبعضها للحداد والحزن فكيف يُعتبر كل هذا جزأ من العبادة وليس بالاحرى مظهراً من مظاهر الحماقة! اظن الان، انك مقتنع تماما بأن المسيحية لها رأى سديد فى امتناعها عن خرافات اليهود والوثنيين واخطائهم. فاذا ابتعدت عن الروح الفضولية وغرور التباهى الذى لليهود فيجب ايضا الا تتوقع ان تتعلم عن سر عبادتهم الشكلية لله من اى انسان.

ترجمة انطون فهمي جورج:

"بالإضافة إلى ما ذكرت، أنت في غنى عن أن أمدك بكل أوهام اليهود الخاصة بالطعام، أو الخرافات المتعلقة بالسبت، أو تفاخرهم بالختان، وزيف صيامهم ورصدهم طلوع القمر لتثبيت الأعياد، فكل هذه توافه، لا تستحق البرهنة على عدم قيمتها. وكيف يمكن للإنسان أن يصنف ما خلقة الله لمنفعة الإنسان إلى طاهر ونجس وعديم النفع؟ وماذا يمكن أن يكون هذا التصنيف سوى عدم تقوى، واتهام لله بأنه نهى عن عمل الصلاح في السبت. أليس من السخرية أن يتباهى المرء بقطع جزء من جسده؟ وأن يعتبر ذلك برهانًا على اختيار الله؟ وعلى أن الختان هو الذي يجعلهم محبوبين من الله؟ وماذا نقول عن مراقبتهم للنجوم والقمر ليرتبوا وفق دوراتهم الشهور والأيام الخاصة بالعبادة، ويوزعوا وفق رغباتهم -على الأوقات المتعاقبة التي رتبها الله- أعيادهم ومناسبات نوحهم (توبتهم)، وهل في هذا برهان على التقوى أم فيه برهان على العبادة؟ وهكذا اعتقد انك عرفت بما فيه الكفاية، أن المسيحيين على صواب في امتناعهم عن ضلال اليهود وجهلهم وكبريائهم ولكنك لن تتعلم من إنسان سر التقوى المسيحية".

التعليق:

وهذا نص آخر يبين جهل كاتب الرسالة بشريعة التوراة، هذه المرّة فيما يخص اللحوم المحلَّلة واللحوم المحرَّمة، وضرورة الختان. فليس منطقياً أن يصبح الختان، على سبيل المثال، محط سخرية! ألم يقرأ قول المسيح في انجيل متى (5: 17-19): (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا، يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلم، فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات)، بينما هو ليس فقط ينقضها بل يسخر منها!!

ألا يقولون ان المسيح هو نفسه "إله العهد القديم" فيكون تشريع الختان لليهود قد تم من قبل "المسيح الإله" نفسه الذي يؤمن به المسيحيون، فكيف يتجرّأ كاتب الرسالة على السخرية من شريعة إلهه! هذه السخرية تبيّن تطرف كاتب الرسالة للمسيحية وانه ليس لديه فكرة جيدة عن تأريخ المسيحية وكيفية ولادتها من رحم الدين والمجتمع اليهودي، بحيث إنَّ المسيحيين بعد زمن كاتب الرسالة كانوا مضطرين لإعلان إيمانهم بأسفار العهد القديم والقول بقدسيتها رغم مزاعمهم انها شريعة منسوخة بموت المسيح على الصليب والشريعة الجديدة التي جاء بها وبداية العهد الجديد! فكاتب الرسالة يكشف عن تطرّف في نقد اليهودية يصل به الى حد الهرطقة!

وبخصوص قضية مراقبة القمر والتقويم القمري الذي يسير وفقه اليهود ويؤدون تعاليمهم الدينية، فهو أيضاً ضمن نفس ما ذكرناه آنفاً لكونه جزءاً من الشريعة التي أسسها إله "العهد القديم" والذي يفترض به أن يكون بحسب العقيدة المسيحية "المسيح الإله" نفسه! فكيف لا يكون والحال هذه لتثبيت الشهور والقيام بالعبادات في ايامها الصحيحة تعبير عن التقوى! ومن جهة أخرى، ألم يفعل المسيحيون نفس الامر حيث أنَّ لديهم مناسبات واعياد وأفراح واحزان ويوم الفصح ويوم القيامة وايام صيام، بل وجعلوا لكل قديس يوم يحتفون فيه! نعم كاتب الرسالة كان في عصر لم يكن المسيحيون يفعلون كل هذه الامور، ولكننا نعرف اليوم ان انتقاده هذا لم يكن في محله! فهل كان موسى وهارون واشعيا وارميا وحزقيال وبقية انبياء بني اسرائيل كزكريا ويوحنا المعمدان على باطل وهم يتعبدون لله وفق الاشهر القمرية؟! وما الفرق بين ان يكون التقويم يتبع القمر او الشمس كما يفعل المسيحيون اليوم!!

فالمستفاد من هذا النص ان المسيحيين في القرون الاولى لم يكونوا يعتبرون انفسهم جزءً من المجتمع اليهودي، ولا علاقة تربطهم بالتناخ اليهودي الذي يسميه المسيحيون اليوم بالعهد القديم، إنما تقديسه واضافته الى العهد الجديد تم في فترة لاحقة! والظاهر ان هذا يكشف عن إنَّ كاتب هذه الرسالة كان من الوثنيين المنتمين الى المسيحية بدون أن تكون له ادنى فكرة عن علاقة المسيحية باليهودية وانسلاخ الاولى من الثانية!

الفصل الخامس: سمو حياة المسيحيين

ترجمة السيدة بولين تُدري أسعد:

"ان المسيحيين لا يختلفون عن سواهم من ابناء البشر فى الوطن او اللغة والعادات. والواقع هو انهم لا يقطنون مدناً خاصة بهم وحدهم، ولا يتكلمون لغة خاصة بهم، ولا يعيشون عيشة غريبة شاذة، وان عقيدتهم ليست من مكتشفات اشخاص فضوليين خياليين متكبرين. ولا يؤيدون كغيرهم عقيدة من صنع البشر. ومع انهم يسكنون فى مدن يونانية وغير يونانية حسب نصيب كل منهم، ويسلكون بموجب عادات البلد الذى يحلون فيه من جهو الزي والطعام واساليب المعيشة الاخرى، فأن اسلوب معيشتهم يستوجب الاعجاب والاقرار بأنه غير مُتوقع. تراهم يسكنون البلدان ولكنهم غرباء. هم يشتركون فى كل شىء كمواطنين ولكنهم يحتملون كل ما يحتمله الغرباء. كل بلد اجنبي وطن لهم وكل وطن لهم بلد غريب، يتزاوجون كغيرهم ويتوالدون، ولكنهم لا يهملون اولادهم ولا يعرضونهم للموت. يفرشون طعامهم للجميع ولكنهم لا يفرشون فراشهم. هم موجودون فى الجسد ولكنهم لا يعيشون للجسد. يقضون ايامهم على الارض ولكنهم مرتبطون بوطن سماوي. يطيعون القوانين المرعية لكنهم يتقيدون بأكثر منها فى حياتهم الخصوصية. يحبون جميع الناس ولكن الجميع يضطهدونهم. تراهم مجهولين ولكنهم مُدانون. يُماتون ولكنهم يُعادون الى الحياة. فقراء ولكنهم يغنون كثيرين. معتازين لكل شىء ولكنهم ينعمون بكل شىء. يُفترى عليهم ولكنهم يُبررون، يشتمون ولكنهم يباركون. يُهانون ولكنهم يكرمون الاخرين. يعملون الخير فيجازون كأشرار، حينما يُعاقبون (بالموت) يفرحون كأنهم يُقامون الى الجياة. يحاربهم اليهود كأنهم اجانب، ويضطهدهم اليونانيون. ومع ذلك فالذين يكرهونهم يعجزون عن ذكر سبب كراهيتهم لهم.

ترجمة انطون فهمي جورج:

"لا وطن، ولا لغة، ولا عادات تميز المسيحيين عن غيرهم من سائر البشر. لا يقطنون مدنًا خاصة ولا ينفردون بلهجة غير مألوفة ولا يمارسون أي شيء فريدًا أو غريب في حياتهم. وتعليمهم لم يكتشف بواسطة عقل وذكاء أناس مشغولين بالفكر، وهم لا يدفعون مثل باقي الناس عن أي تعليم بشري. وبينما هم يعيشون في المدن اليونانية (الإمبراطورية) أو في المدن البربرية (خارج الإمبراطورية) وفقًا لظروف كل منهم إلا أنهم يتبعون عادات البلاد التي يعيشون فيها، في الملبس، المأكل، وكل ما يخص الحياة، إلا أنهم يظهرون بحياتهم وبأعمالهم ما في انتمائهم الروحي من سمو. يقيم كل (مسيحي) منهم في وطنه، ولكن كما لو كان غريبًا. يتممون واجباتهم كمواطنين ويتحملون كل الأعباء كغرباء، كل ارض غريبة (خارج الإمبراطورية) وطن لهم، وكل وطن ارض غريبة. يتزوجون كسائر الناس، وينجبون أطفالًا، ولكنهم لا ينبذون أطفالهم. يضيفون الغرباء مجانًا، ولكنهم يحتفظون بالطهارة. يحيون في الجسد، ولكنهم لا يحيون حسب الجسد. يصرفون العمر على الأرض، إلا أنهم من مواطني السماء. يطيعون الشرائع الوضعية. لكنهم يسمون على كل هذه الشرائع. يحبون جميع البشر والجميع يضطهدونهم. يتنكرون لهم حيثما وجدوا ويحكمون عليهم بالموت ولكنهم بموتهم يربحون الحياة (2 كو 6:6). فقراء وبفقرهم يغنون كثيرين (2 كو 10:6)، يفتقرون إلى كل شيء، وكل شيء فائض عندهم. يحتقرهم الناس، ولكن احتقار الناس هو مجدهم، يتكلم الناس عليهم بافتراء ولكنهم يتبررون. يشتمونهم فيباركون (2 كو 12:4)، يهانون فيكرمون. عندما يعلمون الصلاح يعاقبون أحيانًا، كما لو كانوا أشرارًا، ولكنهم يفرحون بالعقاب كمن ينالون حياة. يحاربهم اليهود بشدة لأنهم أمم، واضطهدهم اليونانيون، وان سألت مبغضيهم عن السبب في هذه العداوة، يعجزوا عن أن يقدموا سببًا لها".

التعليق:

اول ما نناقشه في هذا الفصل هو قوله (انهم لا يقطنون مدناً خاصة بهم وحدهم)! نعم صحيح انهم كانوا كذلك، ولكن طبيعة حياتهم داخل تلك المدن تختلف عن حياة بقية الناس بدعوى انهم لا يريدون الاختلاط ليتجنبوا عبادة الآلهة الوثنية. جاء في موقع الانبا تكلا هيمانوت انه في ذلك الزمان كان (الحماس الشديد للروحانية بدلا من النشاط الاجتماعي: رفض المسيحيون الاشتراك في الاحتفالات الوثنية والعبادة العامة وكان هذا يعبر عن عدم تحمسهم للسياسة والعزوف عن الشئون المدنية والزمنية بالمقارنة بالأمور الروحية والأبدية والتصاقهم الشديد ببعض في اجتماعات مغلقة كل هذا أثار حولهم الشبهات وعداوة الحاكم والشعب. وفي الواقع أنه في ظل المسيحية تغيرت إحساسات الناس وأخلاقياتهم ولم يعد الواجب الاسمي أن يعطي الإنسان وقته وحياته وقواه للدولة في السياسة والحرب فلقد شعر الإنسان أن عليه التزامات أخري من نحو خلاص نفسه ومن نحو الله)[4]!

*****

وأمّا قوله: (ولا يؤيدون كغيرهم عقيدة من صنع البشر) فهل حقاً إن المسيحية ليست عقيدة من صنع البشر؟ وما هي معايير أن تكون العقيدة بشرية أو سماوية؟

المعايير التي نعرفها حيث تصبح العقيدة سماوية هي عندما يقول إنسان أنَّه مرسل من قبل الله، ويدعوهم الى عبادة الله وحده لا شريك له، ويأتيهم بشريعة أو أوامر إلهية تُنَظّم أمور حياتهم. وثيبت لهم ذلك من خلال معجزة أو أكثر يقوم بها تبين ان من ارسله هو الله العظيم الذي لا يمكن لأحد أن يأتي بمعجزات سواه. فهل المسيحية كانت كذلك؟

في المسيحية تقول الأناجيل الأربعة ان المسيح قال انه مرسل من عند الله، واقام لهم معجزات عديدة ودعاهم الى التوبة. ولكنه لم يأتِ لهم بشريعة جديدة، واكتفى بشريعة التوراة اليهودية، ولم يأتِ لهم بكتاب سماوي جديد بحسب عقيدة المسيحيين. ثم تقول الأناجيل أن المسيح قال انه ابن الله! وانه هو خالق الكون. ثم جاء بعد المسيح الطبقات التالية من المؤمنين به، وهم جميعاً من الجيل المسيحي الأول:

§ (12) تلميذاً، (11) ممن كانوا قد عاصروه في حياته وهو اختارهم بنفسه، وتلميذٌ واحدٌ تم انتخابه بعد صعود المسيح الى السماء، واسمه متياس[5]، بديلاً عن يهوذا الاسخريوطي!

§ (500) مؤمن رأوا المسيح، دفعة واحدة، قبل صعوده الى السماء[6].

§ (70) رسولاً ارسلهم المسيح الى مدن متعددة، اثنان لكل مدينة واعطاهم القوة على الأتيان بالمعجزات[7].

§ (7) شمامسة، اختارهم التلاميذ الاثناعشر[8].

§ بولس!

وليس لدى المسيحيين تأريخ معروف لهؤلاء الـ (12) والـ (500) والـ (70) والـ (7)، فلا يعرفون مجريات حياتهم، ولا شيء عن تبشيرهم، ولا عن عقيدتهم ولا أقوالهم، فكل ما يعرفه المسيحيون وينتمون إليه هو الطبقة الأخيرة: بولس! بالإضافة لبضع رسائل منسوبة لبعض تلاميذ المسيح (بحسب رواية الاناجيل) هي رسالتان منسوبتان لبطرس وثلاث رسائل منسوبة ليوحنا وؤسالة ليعقوب ورسالة ليهوذا، وهناك شك ان الذين كتبوا هذه الرسائل هم من اتباع بولس ايضاً!

فهل تعلّم بولس عقيدته من الله أم هي من وحي نفسه؟

هل ورد عن بولس أنّه تعلم عقيدته من تلاميذ المسيح الاثني عشر بعدما اهتدى للإيمان، ورافقهم حوالي (14) سنة، ام انه لم يرد عنه شيء من انه استفاد منهم شيئاً؟! وهو ما حصل فعلاً! او من الـ (500) أوالـ (70) أوالـ (7)!!

هل ورد عن بولس صراحة أنّه أوحي إليه العقيدة التي نادى بها؟ أم لم يرد ذلك؟!

ما هي مصادر العقيدة لدى بولس سوى أنه اعلن نفسه رسولاً للمسيح! وأن اتباعه اعلنوا أنه نبي ونسبوا له بعض "المعجزات"! ولذلك فكلامه أصبح مقدساً عندهم!

قال بولس في رسالته الاولى الى اهل كورنثوس (7: 40): (وأظن أني أنا أيضا عندي روح الله)!

وأيضاً في رسالته الى أهل رومية (9: 1): (أقول الصدق في المسيح، لا أكذب، وضميري شاهد لي بالروح القدس).

فهل تحققت معايير "العقيدة السماوية" في المسيحية، أم انها من صنع إنسان أسمه بولس؟!

فمن أبرز الدلائل على ان المسيحية من صنع البشر:

1. الخلاف الكبير بين بولس من جهة وبقية تلاميذ المسيح من جهة أخرى. وهو ما تطرقنا إليه آنفاً في تعليقنا على (الفصل الأول) من هذه الرسالة.

2. اختيار اسفار العهد الجديد من قبل القساوسة في المجامع، واختلافهم في القرون المسيحية الأولى في تحديدها.

3. اختيار عقائد المسيحية المختلف عليها في المجامع، مثل خلافهم هل المسيح إله أم إنسان، وتم إقرار انه إله بالأغلبية في مجمع نيقية سنة 335م. واختلافهم حول الروح القدس هل هو فقط "قوة" من الله، أم هو أقنوم من جوهر الإله، وتم إقرار إقنوميته بالأغلبية أيضاً في مجمع قسطنطينية 381م!

4. ظهور مشاكل في رسائل بولس من حيث كتابتها. منها التوقفات المفاجئة فيها وغيرها[9].

5. عدم تكامل العقيدة المسيحية الا في القرن الثالث الميلادي! فاعترافهم بإلوهية الروح القدس تأخر الى مجمع القسطنطينية سنة 381م. واستمرار تطويرهم لقانون الإيمان الى عام 1054م حين حدث الانشقاق الكبير داخل الكنيسة البيزنطية وانقسامها الى الكاثوليكية والآرثوذكسية الشرقية، بسبب خلافهم العقائدي حول انبثاق أقنوم الروح القدس هل هو من الأب والأبن معاً أم من الأب وحده!

6. اعتمدت في عهد البابا داماسوس (366 -384)م ترجمة الكتاب المقدس باللغة اللاتينية كترجمة رسمية للكنيسة، وذلك في مجمع روما الذي انعقد عام 382م، مع إنَّ أياً من اسفار الكتاب المقدس الأصلية لم يكتب بهذه اللغة وإنما هي مجرّد ترجمة له!

7. النقد الحديث للعهد الجديد من قبل علماء المسيحية والذي يؤكد مجهولية عدد كبير من أسفار العهد الجديد! أي أنَّ كتبة تلك الأسفار هم أشخاص مجهولوا الحال والعقيدة!!

8. العقيدة المسيحية متضاربة تضارباً شديداً فيما بينها بخصوص تفاصيل الايمان المسيحي، وكل كنيسة تعارض وتخاصم الأخرى بل وصل الحال بينها الى هرطقة بعضها بعضاً، وهو ما نسميه بمصطلحنا (تكفير بعضهم بعضاً)، وليس لهم مستند من تقليد او نص كتابي يثبت صحة عقيدة كل منهم، بل هي مجرّد آراء واستحسانات ذوقية دفعتهم لتأييد هذه العقيدة او تلك، من قبيل هل المسيح ذو طبيعة واحدة ام طبيعتان! وهل هو ذو مشيئة واحدة أم مشيئتان! وهل ناسوت المسيح ولاهوته هما طبيعتان ام اقنومان بنفس أقنومية الأب والروح القدس!! وهل ان مريم هي والدة الإله أم والدة المسيح فقط! وكل هذه الخلافات تم إقرارها في المجامع المسيحية التي كانوا يعقدونها كل فترة! مما يدل على بشرية قرارات تلك المجامع وبشرية العقيدة المسيحية.

9. التطور الواضح، بتأثير بشري، في مراحل ظهور الشريعة المسيحية الحالية:

أ. المسيح يعلن انه لم يأتِ لينقض التوراة ولا وصايا انبياء بني اسرائيل.

ب. بولس يعلن ان الايمان بالصليب والفداء نقض "العمل" بالتوراة ووصايا انبياء بني اسرائيل، فلا حاجة لها بعد الان. فهو بذلك يبطل كلام المسيح من الناحية العملية!

جـ. الكنيسة المسيحية تعود من جديد، بمرور الوقت، لكتابة شرائع جديدة للمسيحيين بعد ان ظهرت لها الحاجة تِباعاً! فهي بذلك تبطل كلام بولس من الناحية العملية!

فهل ما زال احد يشك أنَّ المسيحية الحالية ليست ديانة سماوية بل هي ديانة من إنتاج البشر؟!

*****

وحينما يتحدث كاتب الرسالة عن رعاية المسيحيين لأولادهم وبذلهم الطعام للغرباء وامتناعهم عن الزنى بقوله في الرسالة: (لا يهملون اولادهم ولا يعرضونهم للموت. يفرشون طعامهم للجميع ولكنهم لا يفرشون فراشهم)! فهذا لكون المسيحية كانت اقلية وعوائل متفرقة داخل مجتمع وثني كبير. ولكن بعدما مرّت القرون وتحولت المجتمعات الى مجتمعات مسحية كاملة نجد أنها ابتُليتْ بنفس المشاكل الاجتماعية التي انتقدها كاتب الرسالة، والمجتمعات المسيحية الحالية في اوربا وامريكا وآسيا تعاني جميعها من نفس هذه المشاكل: التفكك الأسري، وانتشار الزنى! ونحن في غنى عن إيراد الإحصائيات الاجتماعية المتعلقة بهذه المواضيع، فهذا الأمر معروف لكل باحث في احوال المجتمعات الغربية اليوم.

فهل نجحت المسيحية في تكوين مجتمع مسيحي مثالي! وهل في المسيحية قوانين إجتماعية تضمن ظهور مجتمع صحّي؟! أين هي تلك القوانين الإجتماعية في العهد الجديد؟!! هل توجد فعلاً!

الفصل السادس: المسيحيون هم روح العالم

ترجمة السيدة بولين تُدري أسعد:

"وبالاختصار فأن المسيحيين للعالم كالروح للجسد. الروح تمتد الى جميع اعضاء الجسد والمسيحييون ينتشرون فى جميع مدن العالم. وكما ان الروح تسكن فى الجسد وهى ليست منه، فهكذا المسيحيون فأنهم يسكنون فى العالم ولكنهم ليسوا منه. وكما ان الروح الغير منظورة تُحبس فى الجسد المنظور فهكذا المسيحيون فأنهم يعرفون مسيحيين على فى العالم ولكن تقواهم تظل غير منظورة. ومع ان النفس لا تسىء الى الجسم فأن الجسم يكرهها ويخاربها لأنه تعيقه عن الانغماس فى الملذات. والمسيحيون كذلك لا يسيئون الى العالم ولكن العالم يكرههم لأنهم يقاومون ملذاته. والنفس تحب الجسد الذى يكرهها كما ان المسيحيين يحبون الذين يكرهونهم، وكما ان النفس تُحبس فى الجسد ولكنها تحفظه، فأن المسيحيين ايضا يُحبسون فى العالم ولكنهم هم الذين يحفظون العالم. وكما ان النفس الخالدة تسكن فى خيمة فانية، فأن المسيحيين ايضا يعيشون غرباء بين الاشياء الفانية منتظرين الخلود فى السماء. وكما ان النفس تكون فى حال افضل بتقنين المأكل والمشرب فأن المسيحيين يتزايدون رغم انهم يُعاقبون. هذا هو الوضع الذى وكلهم الله به ولا يجوز لهم ان يتخلوا عنه.

ترجمة انطون فهمي جورج:

"وباختصار، مثل النفس للجسد، هكذا المسيحيون، بالنسبة للعالم. النفس منتصرة في أعضاء الجسد، والمسيحيون في مدن العالم. النفس تقيم في الجسد، إلا أنها ليست من الجسد، والمسيحيون في العالم، إلا أنهم ليسوا من العالم. والنفس غير مرئية، لكنها تعمل وتظهر في جسد مرئي، والمسيحيون تراهم عندما يعملون فيظهرهم عملهم في العالم، إلا أن عقيدتهم لا يظهرها شيء. الجسد يحارب النفس، رغم أن النفس لا تؤذيه، لأنهم تحول دون انغماسه في الملذات، والعالم يكره المسيحيين لا لأنهم أساءوا إليه، وإنما لأنهم يعارضون ما فيه من لذات. النفس تحب الجسد الذي يكرهها، والمسيحيون يحبون مبغضيهم. النفس سجينة الجسد، وبدونها لا حياة للجسد، والمسيحيون موثوقون في العالم، كما لو كانوا في سجن ولكنهم سبب حياة العالم. النفس غير مرئية، تسكن في الجسد المائت، والمسيحيون كغرباء في وسط الفانيات، ينتظرون عدم الفساد في السماء. والنفس تنموا بإماتة شهواتها للطعام والشراب، والمسيحيون عندما يضطهدون يزدادون من يوم إلى يوم. لقد أعطاهم الله منزلة النفس بالنسبة للجسد وهذا الشرف هو واجب لا يمكنهم أن يتخلوا عنه.".

التعليق:

هذا الوصف للمسيحيين هو في القرن الاول المسيحي، اما بعد انتشار المسيحية وجعلها الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية، فلم يعد هذا الوصف ينطبق عليها، أي لم تعد المسيحية روح العالم، بل اصبحت الكابوس الذي يقبع على المجتمعات في مختلف الدول، والارهاب الذي يطارد المفكرين المسيحيين في كل مكان، ولاسيما بعد سقوط الاندلس بيد الاسبان وقيام محاكم التفتيش فيها وفي جميع اوربا!

اول إنقسام مجتمعي حصل هو بعد مجمع نيقية سنة 325م حينما تم الحكم على آريوس وعقيدته بإنها هرطقة، أي في تعابيرنا المعاصرة انه تم الحكم بتكفيره. ونحن في ايامنا هذه قد لا نلحظ حجم هذا الحكم ومدى تأثيره الواسع آنذاك حيث كان اتباع آريوس ومعتنقي مذهبه منتشرون في بلاد عديدة، لدرجة ان الأنبا بيشوي كتب قائلاً: (انهارت المسيحية في العالم كله وخضعت أمام الطغيان الأريوسي ولم يبقى سوى كرسي الإسكندرية ممثلًا في البابا السكندري المنفى وأساقفته المصريين)[10].

حيث ان آريوس كان أيضاً من اتباع بولس. ويمكن القول بأنَّ المسيحيين الحاليين هم من اتباع بولس حصراً ومن المؤمنين بأسفار العهد الجديد حصراً، ممكن ان نتفق على تعريف المسيحية الحالية بهذا المقدار أي ايمانهم بأسفار كتاب العهد الجديد الحالية الـ 27 سفر. وبذلك نجد ان اسم المسيحية يطلق اليوم على عقائد:

الكاثوليك – الارثوذكسية الشرقية (البيزنطية) أو الخلقيدونية – الارثوذكسية المشرقية (الأقباط والسريان والأرمن) أو غير الخلقيدونية – الآريوسية – النساطرة – البروتستانت (بفروعهم المتعددة) – المارونية[11] - الادفنتست السبتيين – شهود يهوه.

وبعد ذلك حدث الانشقاق الخطير في مجمع خلقيدونية سنة 541م حيث أقر هذا المجمع عقيدة الطبيعتان للمسيح (ناسوت ولاهوت) وهو الذي تمسكن به كنيستا روما وبيزنطة، غير انَّ الكنائس القبطية والسريانية والأرمنية رفضت هذه العقيدة وقالت بدلاً عنها بأن للمسيح طبيعة واحدة ناسوت ولاهوت، وبذلك انفصلت هذه الكنائس الثلاثة عن كنائس روما وبيزنطة. ونتيجة لهذا تعرض شعوب هذه الكنائس الثلاثة الى الاضطهاد الواسع من قبل الدولة المسيحية البيزنطية، نستذكر منها اضطهادات الامبراطورة البيزنطية اضطهاد بولكيريا وزوجها ماركيانوس حيث "اُقتحمت الأديرة ودُفن الأقباط وهم أحياء وتم إذلال الأساقفة بربط رقابيهم بالسلاسل و الأغلال و جرهم في الشوارع، و قُتل من الأقباط أعداد كبيرة على يد البيزنطيين المسيحيين، وقد يكون عدد من قُتل أكثر من أعداد الشهداء أثناء مواجهة الرومان الوثنيين فى السنين الأولى للمسيحية. وهاجم العسكر البيزنطي الكنيسة وقت الصلاة والإحتفال في ليلة عيد القيامة وقتلوا منهم أعداد كبيرة ونهبوا ممتلكات الكنايس من أموال وغيرها وأعطوها للبطريرك البيزنطي"[12].

كما نستذكر ايضاً اضطهاد المبراطور المسيحي البيزنطي هرقل Heraclius للمسيحيين الأقباط ومحاولته إذلال الاقباط واستخدام العنف والوحشية ضدهم فجلدوهم ونهبوا كنائسهم وبيوتهم! ولم ينتهي اظهاد المسيحيين البيزنطيين للمسيحيين الأقباط الا بعد فتح مصر من قبل المسلمين.

فإذا كانت المسيحية في زمان كتابة الرسالة يعتبرها روح العالم، فلأنها كانت مجرّدة من العقيدة ومن الدولة، حيث كانت تدور فقط حول قضية الإله المصلوب الذي فدى المؤمنين به من الخطيئة الأصلية! ثم بعد ان استولت المسيحية على الدولة الرومانية والمجتمعات القائمة آنذاك في روما وبيزنطة ومصر وفلسطين وغيرها، أي بعد ان تحولت الى دولة ومجتمع وظهرت حاجتها الى التوغل في التفاصيل العقائدية، نجدها وقد فقدت هذا الوصف كروح وتحولت الى آيديولوجيات دينية قائمة على أسس تعاليم بشرية ودخلت في صراعات دينية واجتماعية أوقدت نارها المجامع المسيحية بعد ان كانت تدور فقط حول فكر بولس وآرائه ورؤيته!

*****

واما قوله في الرسالة: (النفس الخالدة تسكن فى خيمة فانية) فالظاهر ان كاتب الرسالة متأثر بفلسفة سقراط وأفلاطون اللذان كانا يذهبان الى خلود النفس! فهذه الرسالة نموذج على تأثر المسيحية بالفكر الفلسفي اليوناني.

في الموسوعة البريطانية نقرأ:

"The early Hebrews apparently had a concept of the soul but did not separate it from the body, although later Jewish writers developed the idea of the soul further. Biblical references to the soul are related to the concept of breath and establish no distinction between the ethereal soul and the corporeal body. Christian concepts of a body-soul dichotomy originated with the ancient Greeks and were introduced into Christian theology at an early date by St. Gregory of Nyssa and by St. Augustine"[13]!

"من الواضح أن العبرانيين الأوائل كان لديهم مفهوم الروح لكنهم لم يفصلوها عن الجسد، على الرغم من أن الكتاب اليهود في وقت لاحق طوروا فكرة الروح أكثر. ترتبط الإشارات الكتابية عن الروح بمفهوم النفس ولا تميز بين الروح الأثيري والجسد المادي. نشأت المفاهيم المسيحية للانقسام بين الجسد والروح مع الإغريق القدماء وتم إدخالها في اللاهوت المسيحي في وقت مبكر من قبل القديس غريغوريوس النيصي والقديس أوغسطين".

وهو نص واضح على تأثّر المسيحية بالفلسفة اليونانية. والظاهر من خلال هذه الرسالة ان هذا التأثر حدث في مراحل مبكّرة من عمر المسيحية!

الفصل السابع: ظهور المسيح

ترجمة السيدة بولين تُدري أسعد:

"المسيحية، كما قلت، ليست مجرد بدعة ارضية اتت اليهم، او مجرد رأى انساني حافظوا عليه جيداً، وليس مجرد ناموس ائتمنوا عليه، بل هو الله بذاته، القادر على كل شىء وخالق جميع الاشياء وغير المرئى اُرسل من السماء، وعاش بين البشر، هو الحق. والقدوس كلمة الله غير المُدرك والقائم بثبات فى قلوبهم. هو لم يرسب كما يتخيل احد، اى خادم او ملاك او حاكم او اى شىء يدب على الارض. ولا عهد بذلك لمن يحكمون الاشياء فى السماء، بل ارسل جابل وصانع كل الاشياء الذى به صنع السماوات، وبه جعل حداً للبحر، الذى تخضع له النجوم بحق، ومنه تستمد الشمس قوتها لتطيعه، وهو الذى يطيعه القمر ويضىء فى الليل، وتطيعه النجوم ايضا فى مداراتها، بل زُينت كل الاشياء ووُضعت فى حدودها، هو الذى تخضع له السماوات وكل ما فيها والارض وكل ما عليها، والبحر وكل ما فيه، هو الذى يحكم النار والهواء والهاوية، وكل شىء فى الاعالي، وكل شىء تحت الارض، وكل شىء بينهما. هذا (الكلمة) ارسله اليهم ليس لكى يتسلط عليهم ولا لكى يرعبهم، بل ليظهر رحمته ووداعته. فكما يرسل الملك ابنه، الذى هو ملك ايضاً، هكذا ارسل الله أبنه كأله، ارسله كمخلص للبشر ليفتش عنا لكى يقنعنا وليس ليقهرنا لأن العنف والاكراه ليس من طبع الله. ارسله ليدعونا، وليس كمنتقم يعاقبنا، ارسله لمحبته لنا، وليس ليحاكمنا. ومع ذلك فهو سيأتى (فيما بعد) لكى يديننا، ومن يحتمل ظهوره؟ الا ترى كيف تعرض هؤلاء لهجوم الوحوش المفترسة لكى يجعلوهم ينكرون الرب، لكنهم لم ينهزموا؟ الا ترى كيف انهم كلما عُذب البعض منهم فأنهم يزدادون فى العدد؟ وهذا يبين ان هذا العمل ليس هو عمل انسان بل هو قوة الله، هذه هى البراهين على ظهوره".

ترجمة انطون فهمي جورج:

"سبق وقلت، أن ما من مرجع أرضي يمكن أن ترجع إليه المسيحية، فالعقيدة التي يؤمن بها المسيحيون ويتألمون بسببها، ليست من اكتشاف إنسان فان، ولذلك فإن إيمان المسيحيين لا يمت بصلة إلى أسرار البشر. انه (الإيمان) هبة ضابط الكل، خالق جميع الأشياء، الله غير المنظور الذي وهب الحق من السماء للبشر، باللوغوس القدوس غير المدرك، الذي يثبت الحق في القلوب، ولذلك جاء هو ولم يرسل الله ملاكًا إلى البشر كما تخيل البعض، أو رئيس ملائكة أو روحًا من الأرواح المنوط بها رعاية أمور الأرض، أو احد المسئولين عن تدبير شئون السماء، بل أرسل الله خالق كل الأشياء، أي الكلمة خالق الكون، ذاك الذي به خلق السموات ووضع للبحر حدًا لا يتجاوزه، وتطيع كل عناصر الكون نواميسه العجيبة، ومنه تسلمت الشمس النظام الذي تسير عليه في النهار، يطيعه القمر الناشر نوره في ظلمة الليل، تمتثل لأوامره الكواكب التي تدور في فلك القمر، منه استمدت جميع الأجرام ترتيبها وخدودها والسموات وما فيها، الأرض وما عليها البحر وما يحويه، النار الهواء، اللجة، العالم العلوي، والعالم السفلى، وما بينهما. هذا هو الكلمة المرسل إلى العالم. أجل لم يرسله الآب كما تخيل عقل الناس - بسلطان لينشر الرعب والهلع. بل بكل حلم ورفق، كما يوفد الملك ابنه الملك، أرسله وهو الإله، كما يليق به أن يرسل إلى الناس، ليخلصهم لا بالقوة بل بالاقتناع، لان الإكراه لا يتفق مع صفات الله. أرسله ليدعونا إليه لا لكي يخيفنا، أرسله حبًا لا لدينونة. سيأتي يوم يأتي هو فيه كديان، ومن يقوى أن يحتمل مجيئه. إلا ترى كيف يرمى بالمسيحيين إلى الوحوش الضارية، بغية حملهم على إنكار الرب، ولكنهم بالموت ينتصرون. ألا ترى أنهم كلما عوقبوا كلما ازداد الذين يعتنقون إيمانهم. كل هذه ليست أعمال البشر، بل هو معجزة الله وهي دليل على ظهوره (في الجسد)".

التعليق:

يركز كاتب الرسالة على اعتبار المسيحية دين إلهي وأنه قائم على إنَّ الإله تجسّد ونزل الى الأرض! دون ان يحاول عقلنة كيفية تجسد الإله او كيفية نزوله! لأن هذه العقيدة غير معقولة بتاتاً، ففرضية تجسّد الإله تصطدم بمحذورين الأول ان الإله إذا تجسّد يصبح له حد، فيكون محتاجاً للحد. ويصبح أيضاً في جهة فيكون محتاجاً للجهة، ويتجسد من خلال جسد بشري مادّي هو نفسه خلقه، فيكون محتاجاً للجسد المخلوق! فيكون الإله محتاجاً للحد والجهة والمادة! ولا يمكن أن تكون هذه مواصفات إله، لأن الإله غني، ولا يمكن أن يحتاج مخلوقاته.

أما قضية أنَّ ينزل الإله فهي أيضاً غير معقولة. لأن النزول يعني الحركة والحركة تعني التغيير، فإذا كان الإله يلحقه التغيير فلا يمكن ان يكون أزلياً لأن ذلك من صفات المحدث.

وفي جانب آخر لنا أن نتسائل: لماذا ارسل الأب أبنه مباشرة الى البشر في الأرض بعد أن كان يرسل الأنبياء! فهل هذا اعتراف بأن مهمات الأنبياء كانت فاشلة! فلماذا فشلت هذه المهمات من وجهة نظر المسيحية!! وماذا فعل المسيح اكثر مما فعله الأنبياء؟! لاشيء، بل إنَّ العهد الجديد نفسه يذكر ان النبي يوحنا المعمدان قد نجح في دعوة سكان اورشليم واليهودية الى التوبة أكثر مما فعله "يسوع المسيح"!

*****

ملاحظة أخرى وهي استعمال ترجمة انطون فهمي جورج تعبير (ضابط الكل)، بينما ترجمة بولين تُدري أسعد استعملت تعبير (القادر على كل شىء)، وفي الحقيقة فإنَّ ترجمة انطون فهمي أقرب الى الترجمة الحرفية من الترجمة الأخرى التي هي أقرب للترجمة الأدبية بالتلاعب بألفاظ النص لإضفاء جمالية أدبية عليه. وهذا يقودنا الى موضوع الترجمات العربية للكتاب المقدس قديماً وحديثاً، حيث نجد بعد مراجعة الطبعات العربية القديمة منذ القرن السادس عشر الى اليوم، حيث نجد ان الترجمات كلما كانت اقدم كلما كانت حرفيتها أوضح وأوسع وأدق. حيث بدأ المترجمون المسيحيون باستخدام بعض تعابير القرآن الكريم لإضفاء بعض الجمالية على النص الديني عندهم، في محاولة عقيمة لمضاهاة النص القرآني البليغ والمؤثر في نفوس سامعيه.

ولذلك من المهم تسليط بعض الضوء على الطبعات العربية الحديثة للكتاب المقدس وكيفية استفادتها من مفردات القرآن الكريم لتحسين طبيعة النص المكتوب به وزيادة جماليته ومحاولة ولو بنسبة ضئيلة لمضاهاة جمالية النص القرآني العظيمة. حيث نجد استعمال الطبعات العربية المعاصرة للكتاب المقدس استعمال لفظ الجلالة (الله) مع ان هذا اللفظ هو لفظ قرآني وعربي، وليس هو اسم الإله في الكتاب المقدس، وكان يتوجب عليهم ان يستخدموا أسم (يهوه) بدلاً منه لأنه الوارد في الكتاب المقدس - وقد ورد اسم اله الكتاب المقدس في سفر الخروج (3:6) ولفظه: "يهوه"وفي اللغة الانجليزية يكتبوهJEHOVAH فهذا هو اسم اله المسيحيين - ولكنهم لم يفعلوا لأنه أسم غريب على ذهن المتلقي والمستمع العربي! كما ان بعض علماء المسيحية استخدموا في بعض ادبياتهم العربية صيغة التقديس الاسلامية مثل استعمال الصيغة "جل جلاله "[14] و"تبارك اسمه "[15] و"الله سبحانه "[16]، وغيرها من المصطلحات الاسلامية! وايضاً حيث وردت كلمة "آية"في القران الكريم وهي تطلق على الجملة القرآنية بإعتبار إعجاز النظم القرآني، ومجموع الجمل (الآيات) يكوّن السورة في القران الكريم، وبعض الطبعات العربية للكتاب المقدس[17] اخذت تستعمل هذا المصطلح في وصف الجُمَل في فصول اسفار الكتاب المقدس لاضفاء بعض القدسية والجمالية عليه!

أيضاً استعملوا كلمة "جهنم"الوارد ذكرها في القران الكريم بدل كلمة الجحيم الواردة في اللغات القديمة، وفي اللغة الانجليزية استعملوا كلمة HELL وتعني الجحيم في نفس المواضع في الكتاب المقدس. والقديس اغناطيوس الانطاكي استعمل تعبير(النار التي لا تنطفي)[18].

وتأثرت بعض الطبعات الحديثة للكتاب المقدس بالفكرة الاسلامية القائلة بظهور المسيح الدجال في آخر الزمان، وقد ورد في العهد الجديد في مواضع عديدة[19] ان هناك شخصاً يظهر بعد المسيح اطلقوا عليه اسم "ضد المسيح"وفي طبعة نسخة الملك جيمس اسموه "ANTICHRIST"، الا ان طبعات اخرى باللغة العربية، منها: طبعة الكتاب المقدس (اغناطيوس زيادة) وطبعة الكتاب المقدس (كتاب الحياة) وطـبعة العهد الجديـد (روفائيل الاول بيداويد) وطـبعة العهـد الجديـد (بولس باسيم)، استعارت التسمية الاسلامية "المسيح الدجال"واخذت تكتبها بدلاً من "ضد المسيح".

أيضاً استعمال صيغة "الرحمن الرحيم"، وهي من الصيغ القرانية البلاغية التي استعملتها بعض طبعات الكتاب المقدس في رسالة يعقوب (5: 11)، وابرزها طبعة العهد الجديد (بولس باسيم) كذلك طبعة الكتاب المقدس (الكتاب الشريف)، في حين ان طبعة الكتاب المقدس (دار الكتاب المقدس) استعملت في نفس الموضع التعبير "كثير الرحمة ورؤوف"، وطبعة الكتاب المقدس (اغناطيوس زيادة) استعملت التعبير "متحنن جداً ورؤوف"، وطبعة العهد الجديد (روفائيل الاول بيداويد): "رؤوف رحيم"، وطبعة كتاب الحياة: "كثير الرحمة والشفقة"، وطبعة العهد الجديد (1737م) استعملت: "ان الرب هو جزيل التحنن ورؤوف"، وفي العهد الجديد (الترجمة العربية المبسطة): "لأن الرب رحيم ومحب".

فأما أسم (الرحمن) لم يرد مطلقاً في الكتاب المقدس، والذي ورد هو أسم (الرحيم) فقط، كما في سفر الخروج (34: 6): (فاجتاز الرب قدامه ونادى الرب: الرب اله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الاحسان والوفاء). وفي الثقافة المسيحية لا يعرفون الفرق بين (الرحمن) و(الرحيم)!

اما بخصوص أسم (القدّوس)، فيقول د. علاء عيد: (جاء في الكتاب المقدس قول الرب: "إِنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ فَتَتَقَدَّسُونَ وَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ، لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ"(لا٤٤:١١ و ١بط١٦:١). هكذا جاءت بالعبرية وغيرها من الترجمات، لكن اذا عدنا للنسخة اليونانية لا يوجد قدّوس وقديس. بل دائماً ترد الكلمة "قدّوس". فكما نقول: آجيوس آثيوس (قدوس الله)، كذلك نقول اجيوس جورجيوس (القدوس جورجيوس) عن القديس جورجيوس، وآجيا ماريا (القدوسة مريم). ذلك لأنه لا يوجد فرق باليونانية بين الكلمتين (قدوس وقديس))[20].

اما اسم (الودود) فلم يرد في الكتاب المقدس، والذي ورد هو أسم (المحب) كما في أشعياء (61: 8): (لاني انا الرب محب العدل[21] مبغض المختلس بالظلم. واجعل اجرتهم امينة واقطع لهم عهدا ابدياً).

وفي اشعياء (63: 9): (في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم. بمحبته ورافته هو فكهم ورفعهم وحملهم كل الايام القديمة).

وفي ارميا (31: 3): (تراءى لي الرب من بعيد: ومحبة أبدية أحببتك، من أجل ذلك أدمت لك الرحمة).

وفي هوشع (3: 1): (وقال الرب لي: «اذهب أيضا أحبب امرأة حبيبة صاحب وزانية، كمحبة الرب لبني إسرائيل وهم ملتفتون إلى آلهة أخرى ومحبون لأقراص الزبيب»).

وفي صفنيا (3: 17): (الرب إلهك في وسطك جبار. يخلص. يبتهج بك فرحا. يسكت في محبته. يبتهج بك بترنم).

وأيضاً اسم (المهيمن) لم يرد في الكتاب المقدس! وقد حاولت بعض الترجمات العربية للكتاب المقدس استخدام اسم (المهيمن) فأدخلته على نص سفر عزرا (5: 1)، وهو في ترجمة سميث-فاندايك: (فتنبأ النبيان حجي النبي وزكريا بن عدو لليهود الذين في يهوذا وأورشليم باسم إله إسرائيل عليهم)، فيحشرون اسم (المهيمن) ويصبح النص هكذا: (إله إسرائيل المهيمن عليهم)! وغالبية ترجمات الكتاب المقدس تترجم النص بنفس طريقة ترجمة سميث وفاندايك 1865م، ولكن وجدت كتاب (التفسير التطبيقي للكتاب المقدس) يحشر أسم (المهيمن) في النص! وكذلك ترجمة الكتاب المقدس المسماة (كتاب الحياة) ورمزها (NAV) تفعل ذلك أيضاً! بينما في الترجمة العربية المسماة (الكتاب الشريف) ترجموا النص هكذا: (إله إسرائيل المُتَسلِّط عليهم)! وفي ترجمة لوثر الالمانية 1545م كتبوها هكذا: (im Namen des Gottes Israels) أي (بأسم إله إسرائيل)! وفي ترجمة الملك جيمس الانجليزية (in the name of the God of Israel, even unto them) أي (بأسم إله إسرائيل عليهم)! ونفس الترجمة في طبعة جنيف (GNV) الانجليزية 1599م!

ونفس الامر بخصوص ما ورد في سفر ايوب (34: 29)، ففي ترجمة سميث وفاندايك 1865م واغلب الترجمات العربية، النص هو: (إذا هو سكن، فمن يشغب؟ وإذا حجب وجهه، فمن يراه سواء كان على أمة أو على إنسان؟). بينما في ترجمة الكتاب المقدس (كتاب الحياة) ورمزها (NAV) كتبوها: (فإن هيمن بسكينته فمن يدينه)! ونفس الترجمة في التفسير التطبيقي للكتاب المقدس!!

فتلك الطبعات العربية التي تحشر أسم (المهيمن) في النص تحاول تجميل النص بالاستفادة من النصوص الاسلامية! أرأيت يا رشيد حمامي كيف ان نصوص الكتاب المقدس تتجمَّل باستخدام الألفاظ القرآنية!

اما اسم (الجليل) فورد كصفة في سفر التثنية (28: 58) بحسب ترجمة سميث وفاندايك 1865م: (إن لم تحرص لتعمل بجميع كلمات هذا الناموس المكتوبة في هذا السفر، لتهاب هذا الاسم الجليل المرهوب، الرب إلهك)، فهو يصف أسم الله بصفة (الجليل)، ولا يصف الذات الإلهية المقدسة! وأيضاً في سفر الأخبار الأول (29: 13): (والان يا الهنا نحمدك ونسبح اسمك الجليل). اما ترجمة الآباء الدومينيكان فنقرأ فيها بخصوص الثنية (28: 58): (وتخف هذا الأسم المجيد المرهوب. وهو الرب إلهك). وفي سفر أخبار الأيام الأول (29: 13): (والآن يا إلهنا نحمدك ونسبّح اسمك المجيد). وايضاً في ترجمة فارس الشدياق 1857م وترجمة اليسوعيين 1897م استخدمتا في التثنية (28: 58): (الاسم المجيد الرهيب)، وفي الأخبار الاول (29: 13): (فالآن يا إلهنا نشكرك ونحمد اسمك المجيد) و(فالآن يا إلهنا نعترف لك ونسبح اسمك المجيد) على التوالي. وفي الترجمة اللندنية بنفقة ريتشارد واطس 1833م نقرأ في التثنية (28: 58): (وتخف اسمه المجيد المرهوب). ونقرأ في اخبار الأيام الأول (29: 13): (والان يا إلهنا شاكرين نحن لك ومبجلين اسم افتخارك)، فحتى لفظ (مجيد) لم يستعملها في هذا النص! إذن ليس هناك وجود حقيقي لأسم الجليل في الكتاب المقدس، وحتى استعمال أسم (المجيد) فيه نظر! فمثلاً نقرأ في الترجمة اللندنية 1833م آنفاً في سفر الأحبار (اللاويين) (19: 24) نقرأ: (وفي السنة الرابعة تكون جميع ثمرتها لقدس الرب ومجده)، وفي ترجمة فارس الشدياق: (وفي السنة الرابعة يكون ثمره كلّه مقدساً تحميداً لله)، وفي ترجمة بولس باسيم: (وفي السنة الرابعة يكون ثمرهُ قدس ابتهاج للرب)، بينما في ترجمة سميث وفاندايك 1865م وترجمة الآباء الدومينيكان 1875م: (وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قدسا لتمجيد الرب). وفي ترجمة اغناطيوس زيادة 1876م ايضاً: (جميع ثمره قدساً لتمجيد الرب).

واما اسم (الباريء) فهو من الأسماء القرآنية التي حاولت الترجمات العربية استخدامه، فنجدهم يحشرونه في الرسالة الى العبرانيين (11: 10) حيث كتبته ترجمة سميث وفاندايك 1865م: (لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله)! وكذلك في ترجمة اليسوعيين 1897م: (ذات الأسس التي الله صانعها وبارئها)! بينما في ترجمة الكتاب المقدس (كتاب الحياة) ورمزها (NAV) كتبوها: (فإنه كان ينتظر الانتقال الى المدينة السماوية ذات الاسس الثابتة، التي مهندسها وبانيها هو الله). وفي الكتاب المقدس (بولس باسيم): (ينتظر المدينة ذات الاسس والله مهندسها وبانيها). وفي الكتاب المقدس للآباء الدومينيكان: (لأنه كان يرجو المدينة ذات الاساسات التي الله صانعها وعاملها). وفي الكتاب المقدس (طبعة لندن على نفقة ريتشارد واطس 1833م): (لأنه كان يرجو مدينة ذات أساس الله بانيها وصانعها). وفي ترجمة الكتاب المقدس (فارس الشدياق 1857م): (ذات الأسس التي الله بانيها وصانعها).

وبنفس الطريقة يستعملون اسم (السميع) في بعض الترجمات العربية لتجميل نصوص الكتاب المقدس، والا فترجمة الكلمة هي (المستمع)، كما ورد في ترجمة الكتاب المقدس لليسوعيين 1897م لنص المزامير (64: 3): (اليك يا مستمع الصلاة يقبل كل بشر). وفي الترجمة اللندنية بنفقة ريتشارد واطس 1833م: (استمع صلاتي لأنه إليك يأتي كل بشر). وفي طبعة الكتاب المقدس (بولس باسيم 1988م)[22]: (إليك يا مستمع الصلاة مسار كل بشر). وفي طبعة الآباء الدومينيكان 1875م: (يا سامع الصلوة إليك يأتي كل بشر). وفي طبعة الكتاب الشريف 2007م (65: 2): (يا سامع الصلاة إليك يأتي كل إنسان). وفي طبعة الكتاب المقدس (اغناطيوس زيادة 1876م)[23]: (إليك يا مستمع الصلاة يقبل كل بشر). وفي ترجمة سميث وفاندايك 1865م: (65: 2): (يا سامع الصلاة، إليك يأتي كل بشر). بينما في ترجمة فارس الشدياق 1857م: (واليك يا سميع الدعاء يأتي كل بشر)!

وايضاً استخدموا أسم (البصير)، ففي سفر المكابيين الثاني (9: 5) جاء النص في ترجمة الكتاب المقدس للآباء الدومينيكان 1875م: (ولكن الرب إله إسرائيل الذي يبصر كل شيء). بينما في طبعة الكتاب المقدس (اغناطيوس زيادة 1876م) كتبوها: (لكن الرب إله إسرائيل البصير بكل شيء)! وكذلك ترجمته طبعة اليسوعيين 1897م!

وبخصوص أسمه تعالى: (القدير)، نقرأ في مقدمة احدى طبعات الكتاب المقدس: (أمّا كلمة "صباؤوت"التي تعني "الجنود"أو "القوات"أو "الأكوان"، فرأت اللجنة أنه من الأفضل أن تعود الى الترجمة السبعينية اليونانية، فترجمتها "القدير"مفضّلة بهذه الترجمة المعنى المقصود على المعنى الحرفي)[24]. وبلا شك فأن المعنى العربي للكلمة في التوراة السبعينية اليونانية التي اشاروا اليها هو معنى المقتدر او ذو القدرة، ولكنهم استفادوا من الاستعمال القرآني العربي للكلمة واستعاروا لفظ (القدير) لإضفاء المزيد من الجمالية على النص! ومثال ذلك ما ورد في سفر التكوين (17: 1) حيث اغلب الترجمات العربية الحديثة او جميعها تكتبها: (ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له: أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملا)، بينما في الترجمة اللندنية العربية سنة 1833م نقرأ النص هكذا: (ولما صار ابرام ابن تسعة وتسعين سنة ترايا له الرب وقال له: انا الله ضابط الكل فسرّ امامي وكن تاماً). وفي نسخة عربية للتوراة تعود لسنة 1622م كتبوا النص: (وكان ابرم ابن تسع وتسعين سنة وتجلى الله لابرم وقال له انا الطايق الكافي امش في طاعتي وكن كاملاً). بل نجد في الترجمة العربية للتوراة السبعينية اليونانية بحسب ترجمة د. خالد جورح اليازجي والتي وصفها بانها ترجمة حرفية، بقوله: (سنوضح للقاريء بعضاً من المعايير والأسس التي اعتمدناها في ترجمتنا هذه. المعيار الاول هو الأمانة لنص السبعينية اليوناني، ترجمة قياسية معيارية، بمعنى أن الترجمة عن اليونانية هي كلمة كلمة، دون زيادة ولا نقصان. مع محاولة الإلتزام أيضاً بترتيب الكلمات في الجملة، لكن هذا الأمر الأخير يكاد يستحيل في بعض الأحيان، لذلك اضطررنا أحياناً الى تقديم او تأخير بعض الكلمات حتى يبقى النص العربي واضحاً ومتيناً مع التنويه أنه في بعض الأحيان لا يمكن ترجمة كلمة معينة إلا بأكثر من كلمة حتى تستوفي المعنى الصحيح)[25]. وفي هذه الترجمة لم يرد لفظ القدير على الاطلاق، وكتب النص في سفر التكوين (17: 1) هكذا: (وصار أبرام ابن تسع وتسعين سنة، وتراءى الربُّ لأبرام وقال له: انا هو إلهك، كن مرضيّاً أمامي وصِر بلا لوم)!

ولنقرأ أيضاً ما ورد في انجيل لوقا (1: 49) القول المنسوب لمريم العذراء (عليها السلام) بحسب ترجمة سميث-فاندايك: (لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس)، نقرأها في النسخة اللندنية 1833م هكذا: (لانه صنع بي القوي عظايم وقدوس اسمه). فاستبدلوا اللفظ الذي يدل على (القوي) بلفظ (القدير) في اغلب الطبعات العربية الحديثة!!

وفي سفر المكابيين الثاني (7: 35) نقرأ في طبعة الكتاب المقدس (اغناطيوس زيادة): (لأنك لم تنج من دينونة الله القدير الرقيب)! وهي نفس ترجمة طبعة الكتاب المقدس (اليسوعيين 1897م)[26]، بينما نقرأها في طبعة صادرة عن كنيسة السيدة العذراء في الاسكندرية: (لأنك أين تنفلت من قضاء الإله الضابط الكل والرقيب على الكل)[27]. فأسم (القدير) ترجمته الحرفية (الضابط الكل)! ليس هذا فحسب بل إنَّ أسم (الرقيب) ترجمته الحرفية: (الذي يرى كل شيء)! بحسب ترجمة طبعة (الاسفار القانونية الثانية): (لأنك لن تفلت من يد الله القدير الذي يرى كلَّ شيء)[28].

وهكذا نرى كيف انهم في الترجمات الحديثة استعملوا اللفظ القرآني (القدير) و(الرقيب) لإضفاء الجمالية على النص!

وأيضاً أسم (المتعالي) نقرأ نحميا (9: 5) في سميث-فاندايك: (قوموا باركوا الرب إلهكم من الأزل إلى الأبد، وليتبارك اسم جلالك المتعالي على كل بركة وتسبيح). بينما نقرأه في طبعة الكتاب المقدس (طبعةSARAH HODGSON 1811م): (فقالوا لهم قوموا باركوا الله الهكم من الدهر والي الدهر تبارك اسم وقارك ومرفوع علي كل البركات والتسابيح).

وكذلك نقرأ في المزامير (83: 18)[29] الترجمة اليسوعية وترجمة الكتاب المقدس (بولس باسيم): (فيعلموا أنك أنت وحدك اسمك الرب المُتعالي على الأرض كلها). وفي ترجمة الكتاب المقدس (اغناطيوس زيادة): (اسمك الرب المُتعالي على جميع الارض). وفي الكتاب المقدس ترجمة الآباء الدومينيكان: (ويعلموا ان اسمك الرب. وانت وحدك العالي على كل الارض). وفي ترجمة سميث-فاندايك: (ويعلموا أنك اسمك يهوه وحدك، العلي على كل الأرض)! وفي الكتاب المقدس (طبعةSARAH HODGSON 1811م): (وليعلموا ان الرب هو اسمك وأنت وحدك العالي علي جميع الأرض). فاستخدموا أسم (المتعالي) القرآني لتجميل نص الكتاب المقدس!!

ولو تتبعنا باقي الأسماء الحسنى القرآنية التي ورد لها لفظ في الكتاب المقدس لوجدنا نفس الامر في اغلبها، حيث تأثرهم بالبلاغة القرآنية وجماليتها واضح، اثناء ترجمة كتابهم المقدس الى اللغة العربية.

فالبلاغة القرآنية التي استخدمت أسماء (السميع) و(البصير) و(الباريء) و(الجليل) و(المهيمن) و(المجيد) (والقدير) في القرآن الكريم هي إلهية المصدر، ولا يمكن لمترجم أن يقول أنه يستخدم نفس الأسم في الترجمة لنواحي بلاغية أيضاً لكون المترجم لا يتلقى الوحي، ولا يعرف انه في الموضع الذي يترجمه هل من المناسب ان يستخدم هذه الألفاظ القرآنية في "الوحي"أو النص المقدس الذي يترجمه أم لا!؟ وإذا كان يرى ان هذه الألفاظ القرآنية هي قمة البلاغة التي يجب ان يترجم لها الكتاب المقدس فهو اعتراف بحيازة القرآن الكريم قمة البلاغة العربية، وهو اعتراف بمحاولتهم محاكاة بلاغة القرآن الكريم للنهوض بقيمة النص الديني الذي يترجمونه. فقيمة النص الديني للكتاب المقدس ترتفع عندهم باستخدام التعابير الاسلامية والمصطلحات والأسماء التي وردت في القرآن الكريم. فما اعظم الاسلام الذي خضع له الجميع من حيث لا يشعرون.

إذن هناك عدّة اسماء حسنى وردت في القرآن الكريم وهي من الأسماء "الجميلة"ولكن لم يرد مثلها في الكتاب المقدس، منها: (الجميل)، (الكريم)، (التوّاب)، (الرحمن)، (المهيمن)، (المجيد)، (القدير)، وغيرها.

*****

وهناك ملاحظة تتعلق بموضوع آخر وهو قوله: (تمتثل لأوامره الكواكب التي تدور في فلك القمر)! فالظاهر في زمن كاتب الرسالة كانوا يعتقدون ان الكواكب تدور حول القمر! وهذا يبين الضعف العلمي الذي كانوا عليه في ذلك الوقت، وأنَّ المسيحية التي تلقوها من بولس لم ترفع وعيهم العلمي أكثر مما كانوا عليه! وهذا لكون مسيحية بولس بشرية لا إلهية.

ومن المؤسف ان ترجمة "السيدة بولين تُدري أسعد"لم تكن امينة حيث كتبت العبارة السابقة التي تحتوي على الخطأ العلمي بصورة تطمس ظهور معالم هذا الخطأ فكتبتها: (وتطيعه النجوم ايضا فى مداراتها)! وهذا مثال بسيط على التحريف الذي يحدث في ترجمات مخطوطات الكتاب المقدس عبر العصور وبمختلف اللغات! فإذا كان هذا النص "غير المقدس"تتم ترجمته وطمس خطأ علمي فيه بهذه الطريقة، فكيف إذن قد ترجموا مخطوطات الكتاب المقدس التي تحتوي على اختلافات فيما بينها بآلاف المواضع!! كيف سنثق ان نص الكتاب المقدس الذي بأيدينا اليوم هو ترجمة امينة للمخطوطات التي ينقل عنها! بل كيف نثق اصلاً ان تلك المخطوطات قد نُسِخَتْ بأمانة عن أصول سبقتها وتلك الأصول مفقودة الآن! والنُسّاخ ايضا مجهولوا الحال ولا نعلم عن مدى وثاقتهم شيئاً!!

*****

وقوله في الرسالة: (هذا (الكلمة) ارسله اليهم ليس لكى يتسلط عليهم ولا لكى يرعبهم، بل ليظهر رحمته ووداعته)! لقد كان الإله يرسل الأنبياء الى البشر ليظهر لهم رحمته ووداعته ولطفه ويرشدهم في حياتهم الى ما يصلحها ويقيم فيها اسس السعادة والهناء. فما الذي طرأ حتى غيّر الإله خطته وأرسل "أبنه" - بحسب عقيدة المسيحيين – الى البشر بدلاً من الأنبياء؟! مع ان المسيح كان معاصراً لنبي عظيم آخر هو يوحنا المعمدان الذي نادى في البرية بالتوبة ومغفرة الخطايا ونجح في تعميد جميع سكان اليهودية واورشليم معترفين بخطاياهم[30] بدون أن يجري اي معجزة!

فلماذا إذن فجأة يغيّر الإله خُطَّته!!

الهوامش:

[1] مقال بعنوان (الشهادة في الكتاب المقدّس)، منشور في موقع زينات، عبر الرابط: http://bit.ly/3rhcggY

[2] التفسير التطبيقي للكتاب المقدس – ص189.

[3] وفي انجيل مرقس (1: 4-8): (كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه في نهر الأردن، معترفين بخطاياهم. وكان يوحنا يلبس وبر الإبل، ومنطقة من جلد على حقويه، ويأكل جرادا وعسلا بريا. وكان يكرز قائلا: «يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه. أنا عمدتكم بالماء، وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس»). فالمسيح لم يأتِ بعد يوحنا بل جاء معه.

[4] مقال بعنوان (الاستشهاد في المسيحية)، منشور في موقع الانبا تكلا هيمانوت القبطي الآرثوذكسي، عبر الرابط:

https://bit.ly/3bj2rte

[5] أعمال الرسل (26:1).

[6] رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس (6:15).

[7] إنجيل لوقا (1:10).

[8] أعمال الرسل (5:6).

[9] راجع مقالنا (مقاطعة الأقنوم الثالث للمسيحية)، منشور في موقع كتابات في الميزان، عبر الرابط:

[10] مقال بعنوان (المجامع المسكونية والهرطقات - الأنبا بيشوي / 5- مجمع نيقية: 2- آريوس وهرطقته)، منشور في موقع الأنبا تكلا هيمانوت الارثوذكسي القبطي، عبر الرابط: https://bit.ly/3rj5B62

[11] المذهب الماروني يتميز عن الكاثوليك بقولهم بالمشيئتين في المسيح، وهو نفس القول الذي أوجده الامبراطور البيزنطي هرقل.

[12] مقال بعنوان (الكنيسة والاضطهادات والتحدي حفاظا علي الايمان والهوية)، بقلم سليمان شفيق، منشور في موقع الاقباط متحدون، عبر الرابط: http://bit.ly/3bezBKL

[13] موقع الموسوعة البريطانية، تحت مفردة (Soul)، عبر الرابط: http://bit.ly/38b6Ht6

[14] الكتاب المقدس (اغناطيوس زيادة) ـ ص 501.

[15].المصدر السابق ـ ص 469.

[16] المصدر السابق ـ ص 477.

[17] انظر طبعة الكتاب المقدس (اغناطيوس زيادة) وطبعة العهد الجديد (بولس باسيم).

[18] الآباء الرسوليين، رسائل إغناطيوس الانطاكي / ترجمة د. جرجس كامل يوسف / مراجعة وإضافة هوامش: مينا فؤاد توفيق / دار النشر الاسقفية في القاهرة / الطبعة الأولى، 2012م – ص32.

[19] المواضع هي: رسالة يوحنا الاولى (18:2) و (3:4) ورسالة يوحنا الثانية (7).

[20] مقال بعنوان (ما هو مفهوم القداسة في الكنيسة، ومن هم القديسون؟)، ضمن "سلسلة تعرف على الكنيسة الأرثوذكسية (١١)"، عبر الرابط: http://bit.ly/2PAgXVj

[21] في طبعة الكتاب المقدس (اغناطيوس زيادة) كتبوها: (محب الانصاف).

[22] الصادرة عن دار المشرق، الطبعة الثالثة 1994م. صادق على طبعها النائب الرسولي للاتين في لبنان بولس باسيم.

[23] الصادرة عن جمعيات الكتاب المقدس في المشرق 1992م، صادق مطران بيروت اغناطيوس زيادة على اعادة طبعه.

[24] الكتاب المقدس / طبعة باللغة العربية، صادرة عن دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط/ العهد القديم: الاصدار الثاني 1995 الطبعة الرابعة، العهد الجديد: الاصدار الرابع 1993م الطبعة الثلاثون / سنة الطبع 1996م – تقديم الترجمة ص1و2.

[25] توراة موسى، ترجمة عربية للسبعينية / ترجمة د. خالد جورج اليازجي / تقديم الأب بولس الفغالي / الناشر مدرسة الاسكندرية في القاهرة / الطبعة الأولى، 2018م – ص14م.

[26] الكتاب المقدس / طبع في مطبعة المرسلين اليسوعيين 1897م.

[27] الأسفار القانونية التي حذفها البروتستانت / اصدار: كتيسة السيدة العذراء، محرم بك - الاسكندرية / الطبعة الثانية، 1975م.

[28] الأسفار القانونية الثانية / دار الكتاب المقدس في الشرق الوسط / الطبعة الثالثة، 2013.

[29] بعض الطبعات التي نقلنا عنها تجعلها العبارة برقم (82: 19) لاختلاف ترقم المزامير بين المخطوطات!

[30] انجيل مرقس (1: 5).


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل محمد حسن الكرخي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/07



كتابة تعليق لموضوع : تعليقات على "الرسالة إلى ديوجينيتُس" - 2 / 3
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net