صفحة الكاتب : السيد عبد الستار الجابري

قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 9) تداعيات تفسير يوسف (عليه السلام) لرؤيا الملك
السيد عبد الستار الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بعد ان عبر يوسف (عليه السلام) تلك الرؤيا، عاد الساقي مستبشراً فهو يحمل الى ملك مصر ما عجز عنه البلاط الملكي، وفي هذا عبرة للجميع في ان المستويات العلمية والكفاءات لا يشترط وجودها بين الطبقات الاجتماعية المرفهة، وليس بالضرورة ان من بيده الحل خصوص المتربع على عرش السلطة او المقربين منه او الاجهزة المختلفة التي تدير شؤون البلاد.
كان تعبير يوسف (عليه السلام) لرؤيا الملك باعث على انبهار هرم السلطة فأصدر امره بإحضار يوسف (عليه السلام) عنده، فجاء الرسول الى يوسف (عليه السلام) ليخبره ان الملك يريد رؤيته، المتوقع ممن هو في ظرف يوسف (عليه السلام) ان يسارع للاستجابة الى ان موقفه (عليه السلام) كان مختلفاً، وفي موقف يوسف (عليه السلام) درس علينا ان نعيه بدقة بعد ان نستعرض مقدماته، المقدمة الاولى ان يوسف (عليه السلام) القي في السجن بتهمة التعدي على حرمة عزيز مصر، المقدمة الثانية ان الاحداث التي دارت في القصر سواء مراودة زليخة ليوسف (عليه السلام) وقضية ارسال زليخة الى نسوة علية القوم ومراودة تلك النسوة ليوسف (عليه السلام) عن نفسه، كل هذه القضايا كان عزيز مصر مطلع عليها، المقدمة الثالثة ان رغبة ملك مصر بلقاء يوسف (عليه السلام) ناتجة عن تفسيره لرؤياه، المقدمة الرابعة ان انقاذ مصر مما يتوعدها في مستقبل الايام رهين بإدارة يوسف لملف الاقتصاد المصري، الخامسة ان تصدي يوسف (عليه السلام) لهذا الملف سوف يثير ضده حسد بلاط الملك والمتنفذين فيه وعندئذ ستثار ضده قضية زليخة ونسوة مصر للاستفادة منها للطعن فيه وازاحته عن الموقع الذي سيحتله في البلاط المصري، ولهذه المقدمات مجتمعة طلب يوسف (عليه السلام) محاكمة عادلة.
ابعاد المحاكمة
لهذه المحاكمة جانبان الاول ان لو جرت وحكم الملك فيها بالعدل فإنها ستنتهي بفضيحة زليخة ونسوة علية القوم، والثاني ان جريان المحاكمة العادلة سينتهي بتبرئة ساحة يوسف (عليه السلام) من التهمة التي الصقت به، فهل كان يوسف (عليه السلام) ساع لفضيحة تلك النسوة مع ان فيها فضيحة لسيدة القصر الذي ترعرع فيه يوسف (عليه السلام) ولعزيز مصر الذي كان يكن ليوسف (عليه السلام) محبة خاصة وشمله بعناية ورعاية فائقة، هل كان يوسف (عليه السلام) يسعى لتبرئة نفسه وان لزم من ذلك توجيه مثل هذه الضربة القاصمة لهذه العائلة؟
للجواب على هذا السؤال نقول ان يوسف (عليه السلام) لم يهدف ابداً الى توجيه الاهانة الى عزيز مصر والى زليخة على الرغم من كل ما ارتكباه بحقه من ظلم، وكذلك لم يهدف الى فضيحة نسوة علية القوم، ولكن كانت الاوضاع على الساحة المصرية تدور بين ان يغض يوسف (عليه السلام) الطرف عن كل تلك التجاوزات التي سوف تستغل مستقبلا ضده وتضر بإدائه لحماية المجتمع المصري من اثار المجاعة، وبين ان يطالب بمحاكمة عادلة ليثبت بذلك خصاله الكريمة وبراءته ومن ثم يتمكن من ان يؤدي واجبه الانساني تجاه الشعب المصري بصورة خاصة والمجتمع الانساني بصورة عامة في ايام القحط الذي سيعم المعمورة بعد سبع سنين من الرخاء، ومن هنا نستكشف ان القضية كانت تدور مدار التزاحم بين رعاية طبقة خاصة ظالمة وبين رعاية الصالح الانساني العام، ومن الطبيعي انه في مثل هذه المواطن تقدم المصلحة الانسانية العامة على مصالح الطبقات الخاصة مع مجريات العدالة وعدم وقوع الظلم على اي احد، وبذلك يتضح ان هدف يوسف (عليه السلام) من طلب المحاكمة لم يكن ناشئاً من محض الرغبة في اثبات المظلومية ورد الاعتبار بل كانت هذه القضية ستتحقق بالتبع، وانما كانت الغاية الاصل منع الحاسدين من التأثير السلبي في مجريات الاحداث المستقبلية التي تتعلق بحياة شعب مصر والشعوب المرتبطة به.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ 
رعاية الحال في الخطاب
وفي هذا المقطع ايضاً يعلمنا يوسف (عليه السلام) رعاية ادب الخطاب، اذ لما جاءه الرسول من قبل الملك ليبلغه ان الملك يرغب بلقائه رفض يوسف (عليه السلام) ان يلبي طلب الملك الا بعد اقامة المحكمة العادلة، وجعل شاهده على ظلم الذي حاق به عزيز مصر نفسه، ولم يتوجه الى الملك بطلب انصافه عن سنوات السجن الظالمه، بل احتفظ بخطابه بكل معان الاحترام والود لعزيز مصر مع حفظ سمة العلاقة الرسمية بينه وبين العزيز فقال ﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾  فيوسف (عليه السلام) لم يقلل من شأن عزيز مصر ولم يطلب شيء منه سوى شهادته على محاولات النسوة اغرائه وهذه الشهادة كانت تكفي يوسف (عليه السلام) لتحقيق الغاية المهمة وهي انقاذ الانسانية من خطر المجاعة وتبرئة ساحته ستكون متحققة بالتبع بعد شهادة العزيز ومحاكمة النسوة.
محاكمة النسوة وانتصار القيم
لم يجد الملك بداً من استدعاء النسوة ومحاكمتهن، لان مصير بلاده مهدد بالخطر ولا يوجد شخص او مجموعة اشخاص قادرة على النهوض بالمسؤولية تجاه الاحداث القادمة سوى يوسف (عليه السلام)، ويوسف (عليه السلام) رفض ان يستجيب لطلب الملك الا في حال اجراء محاكمة عادلة يرد بها له الاعتبار، لانه قد سجن بتهمة اخلاقية هو منها بريء، فارسل الملك الى نسوة علية القوم وسألهن عن سبب دعوتهن يوسف (عليه السلام) لارتكاب المعصية، فلم يبق امامهن سوى الاقرار ببرائة يوسف (عليه السلام) وانه كان انساناً طاهراً نقياً عفيفاً شريفاً اميناً
﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ 
 ولم تجد زليخة امامها الا الاعتراف بذنبها، وانها هي التي راودت يوسف (عليه السلام) عن نفسه وانه صادق في كل ما قاله، اذ ان انكارها سوف يعود بالوبال عليها لان النسوة اللائي حضرن مجلس المحاكمة كن شريكات لها، بعد ان دعتهن وقطعن ايديهن بعد اشراق نور يوسف (عليه السلام) على محل اجتماعهن، وان اي انكار منها سيدفع نحو فضيحة اكبر واوسع، فاقرت زليخة انها هي صاحبة الجرم وانها ارتكبت بحق يوسف (عليه السلام) عدة اخطاء الاول منها انها راودته عن نفسه فاستعصم، الثاني انها لم تكف عنه بل استدعت النسوة اللائي لمنها ليشاركنها في الضغط على يوسف (عليه السلام) عله يستجيب لهوسها ولم تكتف بذلك بل زادت الى الضغط عليه وتهديده بالسجن ان لم يستجب لرغباتها التي انستها موقعها وموقع زوجها وما يقتضيه عرفها الاجتماعي والاخلاق العامة، ولما لم يستجب يوسف (عليه السلام) لكل تلك الضغوط اغرت زوجها بإيداعه السجن، وقد وقفت بعد تلك السنين الطوال من  الظلم الذي اوقعته على يوسف (عليه السلام) لتعترف انها هي من ارتكب تلك الخطايا ولتقر بعد تلك المدة الطويلة بانتصار قيم يوسف الصديق (عليه السلام) 
﴿ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ 
زليخة بعد سنين طويلة رددت كلمات يوسف (عليه السلام) في قاعة المحاكمة، تلك الكلمات التي قالها لها عندما راودته عن نفسه ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾  وبعد تلك السنين الطويلة تعود زليخة للإقرار بأن الله لا يهدي كيد الخائنين، لقد خانت زليخة زوجها وقيمها ويوسف (عليه السلام) حتى اودعته السجن، وعاد بعدها يوسف (عليه السلام) شامخاً شموخاً تستمد منه الجبال الشم شموخها وثباتها امام عوادي الزمن، وكما تتحطم عند الجبال الشم كل عواصف الدنيا، كذلك تتحطم كل عواصف الانحراف عند صمود يوسف (عليه السلام) ومن سار على نهجه في العفة والامانة والاخلاص والشرف والانقياد الى الله.
السنة الالهية في انتصار الحق
وهكذا كتب الله النصر ليوسف (عليه السلام)، الغلام الذي حسده اخوته حتى سعوا الى قتله والتخلص منه بكل سبيل، الصبي الذي اشتراه عزيز مصر لتسعى بعد ذلك امرأة العزيز وصويحباتها الى محاولة اغرائه للوقوع في الرذيلة فردهن، ليدفع الثمن ان يقبع بين جدران السجن سنوات طوال، وبعدها يأتيه الفرج من حيث لا يحتسب احد، رؤيا ملك مصر التي يعجز عن تعبيرها غيره، ثم محاكمة عادلة يتم فيها تبرءة يوسف (عليه السلام) من كل ما الصق به من تهم ظالمة، فيتحقق وعد الله تعالى للمتقين من عباده:
﴿... ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ 
لمتابعة المقالات السياسية والاجتماعية على التلكرام انضم على الرابط                                                                                                                                                                           
                                                                                                                                                                                          لمتابعة مقالاتنا على التلكرام انضم عبر الرابط                                                                                                                                                                                                                        https://t.me/joinchat/gbIRhmKwQXhhMWUy


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد عبد الستار الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/23



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 9) تداعيات تفسير يوسف (عليه السلام) لرؤيا الملك
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net