صفحة الكاتب : حوا بطواش

لو كنت أمّا ليوم واحد!
حوا بطواش

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قبل أيام، وأنا أمرّ على صفحات الإنترنت، اصطدمت بخبر عن رجل آخر ينفصل عن أم أولاده بكل هدوء واحترام وبطريقة حضارية، وهو يعيش الآن حالة حب جديد حوّلته الى عاشق مجنون لا مثالي! تولاني شعور بالسخط الشديد، وأزعجني التساؤل: لماذا اذا عاش الرجل قصة حب مجنون تكون دائما بعيدا عن "أم الأولاد"؟ ألا يستطيع أن يعيشها مع أم أولاده؟ أولاده الذين يحبّهم، وأمهم التي اختارها بين النساء لتشاركه الحياة وتصبح أم أولاده، ألا يستحقون منه أن يعيش معهم قصة حبه المجنون؟؟
"قررنا الإنفصال،" قال الرجل مبرّرا ما حصل، "بعد أن شعرنا أننا لم نعُد كيانا واحدا. كلٌ له عالمه الخاص." 
وأنا أتساءل أيها الرجل، ماذا تعرف عن عالم أم أولادك؟ هل جرّبت يوما أن تكون مكانها؟ ألا جرّبت يوما أن تكون "أما" لأولادك و"زوجة" لنفسك؟ إنه ليوم واحد فقط، دعنا نتخيّله الآن معا، لعلّك تفلح في أن تكون "معشوقة" بجنون لنفسك!
يبتدئ اليوم دون أن تدري حقا متى ابتدأ يومك على وجد التحديد. أكان ذلك بعد منتصف الليل بثلاث ساعات حين أفقت على صراخ طفلك الصغير الذي يطلب الرضاعة والدفء والحنان، فجلست وأنت تحمله بيديك، بينما بالكاد تستطيع حمل رأسك الثقيل كالصّخرة السوداء، ترضعه ثلاثين دقيقة دون انتقاص في حالة مثيرة للشفقة تتأرجح بين النوم واليقظة، وكل كيانك يصطرخ بك توقا الى النوم المسلوب من عينيك ليالي طويلة، منذ ولادة طفلك الصغير، ابنك الوحيد، حامل اسمك ووليّ عهدك! حتى غفيَ الصغير أخيرا، فأعدته الى سريره الذي بجانبك وعدت أنت لترتمي بسرعة الى فراشك الوثير محاولا افتراس النوم من عصيانه الطويل؟؟ أم كان ذلك عند رنين الساعة الخامسة فجرا حين قمت لتحضّر لنفسك فطورك وملابسك وقهوتك قبل أن توقظ نفسك بقبلة ناعمة على شفتيك من جسد ثقيل... متعب... مهدود... ورقة الكلمات التي تهمس في أذنك: "حبيبي، هيا قم لتفطر وتذهب الى العمل"، وترافق نفسك خلال الفطور وكل مراحل التحضير للخروج الى العمل. ثم أخيرا، بعد أن يُغلق الباب ترتمي من جديد الى فراشك لاقتناص بعض اللحظات الهاربة من النوم الذي يكاد لا يُلمس، الى حين موعد استيقاظ بناتك الثلاث، أميراتك الجميلات، للذهاب الى الرّوضة والمدرسة، وفي قلبك لا تكفّ عن التوسّل لطفلك الصغير أن لا يفيق من نومه قبل خروج أخواته من البيت!!
الساعة الآن لم تبلغ الثامنة صباحا بعدُ، وها هو الإرهاق ينهش جسدك وأعصابك، بعد أن هدأ البيت أخيرا من صخب معركة تحضير بناتك الى الروضة والمدرسة. ولكن اعترف أن حظك جميل اليوم، فقد أراحك ابنك حبيبك من بكائه وصراخه وأشغاله الى حين خروج البنات من البيت، حتى أنه أضاف لك بضع دقائق أخرى لتحضير نفسك الى عملك الذي يجب أن تعود اليه اليوم بعد إجازة ولادتك التي تمت وانتهت بكل خير وسلام وفرح، رغم أنك ما زلت تنبش في أعماقك عن ذلك الفرح الذي يتحدّثون عنه منذ تلك الولادة.
ها أنت جاهز الآن للخروج، والصغير جاهز هو الآخر، وحقيبته مجهّزة بكل مستلزماته الى حين عودتك من العمل. تأخذه الى المربّية وتسلمها اياه مودّعا في عجل، ثم تنطلق بسيارتك الى مكان عملك.
تصل الى عملك متأخّرا لا محالة بربع ساعة، وتنهال عليك مهماتك كالمطر العاصف، تجرفك من نفسك ومن بيتك، من أميراتك وطفلك... حتى يأتي موعد غدائك فتخرج الى استراحتك وتتصل بالمربّية لتسأل عن ابنك حبيبك، هل أكل جيدا؟ وهل نام هادئا؟ وهل أخذ فيتاميناته؟ وماذا يفعل الآن؟؟ 
تنتهي معركة دوام العمل وتعود الى البيت، الى حيث تجري معركتك الحقيقية. تأخذ ابنك من بيت المربّية، ثم تأخذ بناتك من بيت جدّتهن، وتعودون جميعا الى البيت. البنات فرحات بالعودة، وكل واحدة تطلب انتباهك لأمورها. واحدة تريد أن تبحث لها عن دميتها والثانية ترغب في شرب كولا وثالثة تحتاج انطباعك عن رسوماتها، أما طفلك فلا يطلب شيئا سوى جلوسك براحة وهدوء لإرضاعه بحبك وحنانك ودفئك، وأنت ما زلت تحتاج لدقائق طويلة في المطبخ لتحضير الطعام وغسل الصحون وتجهيز السفرة من أجل جنابك العائد من عملك بعد قليل. وكم كان بودّك أن تستقبل نفسك بابتسامة عذبة ومشعّة على وجه جميل وأنيق، ولكن ما العمل وأنت لم تلحق أصلا أن تحضّر الطعام؟! 
"عشر دقائق ويجهز الطعام، يا حبيبي." تقول بنبرة رقيقة، متردّدة، وكأنك تخشى أن تفرط نفسك من الغيظ والجوع بعد يوم عملك الشاق، فتتهجّم عليك بالصراخ بسبب عدم جاهزية الطعام!
أخيرا، تجلسان معا الى المائدة بعد أن يجهز الطعام، وتنضمّ اليكما بناتك الثلاث، وطفلك في سريره ينام قيلولته مشكورا بهدوء حذر، وأنت ما زلت تفكّر بينك وبين نفسك: هل تخدم أسرتك على هامش طعامك أم تأكل طعامك على هامش خدمة أسرتك؟! لم يعُد الأمر يهمّك بعد سنوات من العمر، أو لم تعُد تكرّس له وقتا ولا جهدا لمعرفة الإجابة، فمنذ ولادة ابنتك البكر بتّ تفعل كل ما تفعل لسدّ حاجات ورغبات الآخرين، وتؤجّل حاجاتك ورغباتك الى يوم غير معلوم.
وما أن تفرغ من طعامك، وقبل أن تدرك متى بدأتَ بالضبط، حتى يستيقظ ابنك الصغير من نومه وينطلق بالبكاء، ولا أحد غيرك يستطيع تهدئته، ولا أحد غيرك سيجلي الصحون، ولا أحد غيرك سينشر الغسيل، ولا أحد غيرك سيساعد ابنتك في حل دروسها، ولا أحد غيرك سيحمّم بناتك وابنك... يااااااااااااه من أين نبدأ؟؟؟
لم يبدأ اليوم بعد حتى ينتهي، ولكن، لا بد أنك تحسّ بأنك انتهيت ولم تعُد قواك تسعفك على فعل شيء، وستنسحب من المعركة قبل أن تبتدئ بالأصل، أو تنتحر قبل أن تولد أيام أخرى مماثلة ليومك الغريب هذا. ولكن... لا بأس أيها الرجل. سأسامحك، كعادتي، وأعفيك هذه المرة ككل مرة، ذلك أني ما زلت أحتفظ لك بحبي في بقعة ما في داخل قلبي تحت ثقل أحمالي ووسط زوبعة أحاسيسي. أحتاج فقط لشعاع من نورك حتى يسطع حبي لك من جديد.
وبعد، أيها الرجل، بعد أن انتهى يومك كأم وزوجة ليوم واحد فقط، وعدت الى نفسك ودورك وأيامك العادية، بالله عليك، أخبرني، هل نجحت أن تكون "معشوقة" لنفسك؟؟
 
كفر كما/فلسطين
1.3.12

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حوا بطواش
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/03/23



كتابة تعليق لموضوع : لو كنت أمّا ليوم واحد!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 2)


• (1) - كتب : صادق مهدي حسن ، في 2012/07/26 .

رااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااائع

• (2) - كتب : عراقي ، في 2012/03/23 .

نادرا ما نرى الرجال تتفكر بحال النساء
وهل ان اعمال النساء في المنزل فقط لا تساوي اعمال الرجال خارجه
تحياتي لكم




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net