ربما ترون انه من الخطأ أن نقارن واجهاتنا المائية بغيرنا, وانه يتعين علينا أن نقارن أنفسنا بأنفسنا, على ماذا كنا ؟, وكيف أصبحنا ؟, سواء كان نجاحا أو فشلا, على اعتبار أن المقارنة بالغير تفقدنا الثقة بأنفسنا, وتولد لدينا الإحباط. . .
وربما ترون انه من المعيب أن نقارن واجهاتنا الحدودية بالواجهات الحدودية الإيرانية أو الكويتية أو السعودية أو التركية, وانه يتعين علينا أن نصبر على ما آلت إليه حدودنا في الألفية الثالثة. .
قد يكون رأيكم صائبا إلى حد ما, ولكن ليس دائما, والدليل على ذلك إنكم لو نظرتم الآن إلى الضفة الغربية لشط العرب, وهي الضفة العراقية الخالصة, لوجدتموها عبارة عن لوحة سريالية بائسة, تجردت تماما من ملامحها الأساسية, وتخلت عن روعة معالمها القديمة, ستشاهدون لوحة لا علاقة لها بشط العرب, لا من بعيد ولا من قريب, ولا علاقة لها بكل الشواطئ البحرية والنهرية في كل القارات. .
من فيكم يصدق إن بساتين النخيل أُنتزعت من جذورها, وأُزيلت من مواقعها, وكأنها قشطت من فوق سطح الأرض, واختفت القرى العريقة, ولم يعد لها وجود على طول المسافة الممتدة من جزيرة البلجانية (البليانية) حتى رأس البيشة. .
عندما نتنقل اليوم في شط العرب لا نكاد نرى بيتا ولا معملا ولا حقلا ولا ملعبا ولا معلما حضاريا باستثناء بعض الأكواخ الفقيرة المبعثرة في (سيحان), و(السيبة), وكذا الحال بالنسبة للفاو, التي فقدت هويتها البحرية, وفقدت نكهتها الملاحية, وخسرت مزارع (الحناء) و(السدر), وتراجعت زوارقها لتنزوي في منعطفات الجداول العارية, في حين استعادت البساتين الإيرانية حيويتها شرق شط العرب, وازدهرت الحدائق في (بواردة), و(القصبة), و(كبدة) أو (ﮀـويبدة), وعادت المدن المدمرة إلى الظهور من جديد بحلة قشيبة, وبواجهات مائية مزدانة بالأرصفة الحديثة, وتكاثرت التشكيلات المعمارية المعاصرة بين (البريم) و(فرح آباد), وتوسعت مدينة عبادان شرقا وغربا بمبانيها الشاهقة, ومصافيها التي استطالت أبراجها وتعملقت مداخنها, وتمددت مجمعاتها الإنتاجية عموديا وأفقيا, حتى وصلت إلى (دور خوّين), وتزينت مدينة (المحمرة) بأبهى زينتها, حتى صار من المألوف مشاهدة جسرها المعلق وأنت تقف مرسى (الخورة), وأصبحت صورة (الشلامجة) من المناظر المألوفة في كورنيش العشّار بعد أن فقدت جزيرة (العجيراوية) نخيلها كله, وكأنها أصيبت بالصلع المبكر, وطغى الصلع على جزر (الطويلة), و(الشمشومية), و(أم الرصاص), التي قتلها الرصاص, وتعرت جزر (الرميلي), و(الكطعة), و(البلجانية), فخلعت أكاليل السعف السومري, وتراكمت فوق رأسها المخلفات الحربية الثقيلة, وتساقطت أشجار (سيحان), حتى تصحرت تماما, وتراجعت خطوطها نحو الطريق العام, وخيم الظلام الدامس على (الواصلية) و(الدويب) و(كوت بندر) في الليل المخيف الغارق في العتمة, حتى طغت بصمات الخراب على ما تبقى من السواحل العراقية المطلة على المياه الداخلية والمسطحات الإقليمية. .
في الليل ترى شرق شط العرب مضاءً بالمصابيح الملونة, وترى الملاعب المغلقة بالسقوف الزجاجية متوهجة بالأنوار البهيجة. .
اما جزيرة (حجي صلبوخ) الإيرانية, والتي يطلق عليها الآن جزيرة (مينو) فقد تحولت إلى منطقة تجارية حرة, وتحول النهر الفاصل بينها وبين (الفيصلية) إلى منتجع سياحي تحف به المدرجات الترفيهية, وشيدت إيران منظومة عملاقة لري مزارع الضفة الشرقية بمياه ترعة (بهمن شير), فانتعشت الزراعة, وتوسعت غابات النخيل بالطول والعرض, لكنها رمت مياه البزل المالحة في شط العرب في انتهاك صارخ للأعراف السائدة بين البلدان المتشاطئة. .
استغلت إيران كل شبر من شرق شط العرب, ولم تترك فيه فجوة واحدة إلا وأقامت عليها مشروعا سياحيا أو تجاريا أو زراعيا أو ملاحيا أو خدميا, اما نحن فتركنا عشرات الكيلومترات من ضفاف هذا النهر الخالد (139 كيلومتر طولا), وتنازلنا عنها لقطعان الجاموس البري والخنازير الوحشية, ولم نكترث لاختفاء مدن شط العرب وقراه الأصيلة, فاختفت ناحية (البِحار) وسكانها, وطُمست آثار قرى (أم الرصاص), وانطوت سجلات قرى (الصالحية), و(الخرنوبية), و(البوارين), و(كوت السيد), و(الدعيجي), و(الفداغية), و(المخراق), و(المعامر), و(الدورة) ولم يعد لها أي أثر, لا على الخرائط, ولا على أرض الواقع. .
كانت هذه لقطات حقيقية مؤلمة من مأساة ضفافنا في شط العرب, وسأحدثكم في المرة القادمة عن كارثة (خور عبد الله), بمقالة موازية لهذه المقالة, تحمل عنوان (غرب خور عبد الله). .
وبين شرق شط العرب, وغرب خور عبد الله غرقت سفننا, وتحطمت طموحاتنا, وضاعت آمالنا. .
والله يستر من الجايات. . .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat