ثانية .. يعدم حسين ارخيص!!!
لطيف عبد سالم

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

تسعى إدارات بعض القطاعات في اغلب بلدان العالم عبر إقامة النصب والتماثيل وإصدار الطوابع البريدية واستثمار المناهج التعليمية، إلى جانب أطلاق أسماء مختارة لبعض الرموز والشخصيات الوطنية على الشوارع الرئيسة والأحياء السكنية ، إلى استذكار مبدعو البلاد ورموزها الوطنية تعبيرا عن احترام وتثمين الأمة لجهود أبنائها وتضحياتهم، فضلا عما ترشح من عطاء يرقى إلى مستوى الإسهام بتثبيت عنوانات الهوية الوطنية، بوصفه جزء من ارث الأمة الحضاري وإبداعها الثقافي. وتستهدف بلديات المدن من بعض أشكال هذا النشاط المتمثل بإقامة النصب والتماثيل في الساحات العامة، وفي مداخل المدن وأمام واجهات المباني العامة وإصدار النشرات والملصقات الإعلامية والسياحية التي تحكي تأريخها، تعريف الأجيال المتعاقبة بقيمة عطاء أبنائها وعظمته، فضلا عما تحققه النصب والتماثيل من مسحة جمالية وعمرانية تضاف إلى فضاء المدينة، بوصفها احد مظاهر المعاصرة والتمدن ، الى جانب كونها معالم سياحية شكلت في بعض البلدان ابرز عوامل الجذب السياحي. ومثل غيرها من مدن العالم تزخر مدينة الناصرية  مركز محافظة ذي قار (350 كم جنوبي بغداد) بعدد من النصب التي تتجاوز بقيمتها الفنية والإبداعية والتاريخية منظورها الجمالي والتي نسجت مضامينها التعبيرية بإبداع أنامل فنانيها، لاسيما الرواد منهم وفاء لمدينتهم واعتزازهم بإرثها الوطني وتاريخها الثقافي والفني، وفي مقدمة هذه المعالم التاريخية ما جسد شخصية الفقيه والمجاهد والأديب السيد محمد سعيد الحبوبي، والالق السومري الذي عكسه الفنان عبد الرزاق الكايم بنصب القيثارة الذي أنجزه في منتصف سبعينيات القرن الماضي والذي تجسده فتاة سومرية تعزف على القيثارة وهي تجلس على قارورة كان يستخدمها السومريون لحفظ الطعام مستنده على قاعدة دائرية تحتوي على أختام اسطوانية ، وهذه القاعدة تستند على قاعدة أخرى تشبه النجمه السومرية . ونتيجة المباشرة بعمل مجسر القيثارة رفع هذا التمثال الذي يصل ارتفاعه الى ستة أمتار من مكانه ونتمنى ان يظهر بحلته الجديدة بعد اخضاعه لعملية الصيانة والتأهيل ليحتل احد الأماكن البارزة في المدينة التي تستمد عمقها التاريخي والثقافي من حضارتي سومر وأكد . ومن التماثيل الاخرى نصب قائد معركة ذي قار المثنى بن حارث الشيباني ، والرمز الوطني حسين ارخيص، فضلا عن رمز الطيبة والمودة والحنان تمثال (الأم). ومن المناسب الإشارة إلى بعض النصب الحديثة والجميلة التي احتلت بعض المواقع من فضاء المدينة مثل نصب نافورة الله من تصميم الفنان طالب كاظم عام 2008 ونصب الأماني الذي يقع على كورنيش الناصرية وهو من تصميم الفنان عبد الرضا خشان عام 2008 . وبعد أن شهدت المدينة تراجع الاهتمام بهذه النصب على خلفية التداعيات التي افرزتها عملية التغيير السياسي عام 2003، أصبح الاهما ل صفة سائدة في مسألة التعامل المفترض للجهات المعنية مع نصب وتماثيل المدينة، مثلما جرى في اغلب محافظات البلاد وفي مقدمة ذلك مدينة بغداد العاصمة التي تعرضت معالمها الفنية الى الخراب والتآكل بفعل الظروف المناخية وتقلص حلقات التأهيل والصيانة واضمحلالها تجاه بعض هذه المعالم، مما افقد كثير من نصب البلاد، ومن جملتها معالم مدينة الناصرية جماليتها وقيمتها الفنية. وفي زيارتي الاخيرة الى مدينة الناصرية بداية العام الحالي سعد نظري بما لحظه من اهتمام جدي بنصب الحبوبي الذي انجزه مطلع العقد السابع من القرن المنصرم الفنان الرائد عبد الرضا كشيش ، واستقر به المقام وسط المدينة التي  يحمل ابرز شوارع المدينة وعصبها التجاري اسمه . وقد كانت صيانته وتأهيله من الروعة بحيث إنها أعادة إلى النصب بريقه ورونقه الذي يشكل جزء من وفاء أبناء المدينة لهذه الشخصية الوطنية المجاهدة التي استنهضت همم الغيارى وتجاوزت بفعلها على الأرض عامل تقدم العمر من اجل الدفاع عن حرية البلاد وكرامتها. غير أن ما ادخل الحزن نفسي تجسد بما لحظته من إهمال كبير يرقى إلى مستوى مفهوم التلوث البصري على مسافة ليست ببعيدة عن تمثال الحبوبي، وتحديدا على كورنيش الناصرية الذي بذلت جهودا كبيرة من اجل تطويره، حيث كان للحال الذي أصبح عليه نصب الرمز الوطني حسين أرخيص الذي أنجزه الفنان المبدع عبد الرضا كشيش ما يصعب وصفه  . والى جانب التشوهات التي تعرض لها هذا النصب، كان لبقايا الدعاية الانتخابية وبعض إعلانات منظمات المجتمع المدني نصيبا وافرا على جوانب النصب الذي ضاعت بعض معالمه. لقد أزعجني منظر نصب حسين ارخيص الذي يعكس عجزه عن مواجهة مسببات الاندثار التي أكلت أجزاء من معالمه وجعلته لا يقوى على الصمود أمام النشاطات التي أساءت إلى تاريخ صاحبه. وهو الأمر الذي أفضى الى طول وقوفي متأملا صور من كان طموحا بالوصول إلى عضوية مجلس النواب او المحافظة الذي كان ينبغي ان يستمد ثقله الانتخابي من رمزية حسين ارخيص عوضا عن الإساءة لها. ويضاف إلى ذلك إساءة بعض من نعتقد أنهم يشكلون جزء مهما من البيت الثقافي العراقي والمتمثلة باستقرار قطعة قماش بيضاء على الواجهة الأمامية لقاعدة النصب كتب عليها بوساطة أصباغ البنتلايت الملونة عبارات تدعو إلى مساهمة المحامين بالتظاهر امام مجلس المحافظة يوم 21 شباط 2011. إن مازاد في ألمي هو الاساءات التي مصدرها جهات وطنية تستلزم ثقافتها وتوجهاتها المفترضة التعامل باعتزاز واهتمام مع نصب رجل دفعته غيرته الوطنية الى التضحية بأثمن وأعز مايملك طمعا في صيانة كرامة شعبه وبلاده. ومن اجل تعميق موضوع هذا البحث، أجد من المناسب الإشارة إلى أن ما توافر من كتابات وآراء حول شخصية حسين ارخيص تؤكد بمجملها خلوها من أية مثلبة تسيء إلى تاريخه الجهادي. وكل ما استقر في ذهني من تراكمات تشير إلى عدوانية المشاعر التي كان يضمرها الشعب العراقي ومن جملتهم نائب العريف حسين ارخيص إلى قوات الاحتلال البريطاني التي تسببت في موت وجرح أبنائهم بمعارك سن الذبان التي خاضها الجيش العراقي ضد الانجليز عام 1941م. وفي أعقاب فشل حركة مايس حضر الى متصرفية المنتفج (محافظة ذي قار فيما بعد )، الجنرال البريطاني جيفرز لمعاينة الأوضاع المحلية في لواء المنتفج من اجل تقويمها. وعند خروجه من مبنى المتصرفية برفقة احد مفوضيها لشراء مادة التنباك لغليونه متحديا مشاعر اهالي المدينة ، وغير آبها بتحذيرات متصرفها من مغبة الخروج ومواجهة الجمهور، تبعه نائب العريف حسين ارخيص وأصاب منه مقتلا بوساطة الرصاصات التي أطلقها من سلاحه الذي تؤول عائديته إلى الجيش العراقي على الرغم من فرار الجنرال الانجليزي في أزقة المدينة الضيقة. وقد القي القبض على البطل حسين ارخيص وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه. لقد تسبب الإهمال باندثار بعض معالم نصب الرمز الوطني نائب العريف حسين ارخيص، وبخاصة رأس الجنرال الانجليزي الذي لم يتبقى منه سوى حشوته، في حين اضمحل الشيء الكثير من يده وساعده الذي استند عليه لحظة سقوطه على ارض الناصرية إلى المستوى الذي تسبب بظهور الأنبوب المعدني الذي استخدم في تشكيل أجزاء النصب . ولعل ما يحز في النفس ان يطال الخراب الذي تعرض له هذا النصب بعض أجزاء اليد العراقية وهي قابضة على السلاح الذي استخدم في اغتيال جيفرز والتي ينبغي إلا تكون إلا سالمة تعكس للأجيال نضالات العراقيين وقصصهم الجهادية. ولا نبعد عن الواقع إذا قلنا أن فعل حسين ارخيص البطولي الذي ولد في رحم مخاضات عسيرة يعكس رفض شعبنا الاحتلال وكل أشكال الاستبداد والامتهان. وبصورة عامة يعد حسين ارخيص رمزا وطنيا كبيرا أسهم بتحفيز مستلزمات الوعي الوطني لكثير من أبناء البلاد يوم كان شعبنا يئن تحت سياط المستعمرين بعد ان أضحت صورته الجهادية احد محركات الوعي الوطني على طريق تحقيق استقلال العراق والحفاظ على كرامة شعبه، مما يستلزم من حكومة ذي قار المحلية ممثلة بالسيد طالب الحسن محافظ ذي قار بوصفه احد الأقلام الفاعلة في البيت الثقافي العراقي إعادة الاعتبار إلى نصب البطل حسين ارخيص وتغيير واقعه البائس الذي يتجاسر اليوم ضد رمز من رموزنا الوطنية عبر توجيه مديرية بلدية الناصرية للتنسيق مع الفنانين التشكيليين في المدينة وبخاصة الفنان المبدع عبد الرضا كشيش لصيانة النصب وتأهيله، فضلا عن شمول المساحة الصغيرة المحيطة بالنصب بعملية التطوير التي طالت كورنيش الناصرية بعد أن أصبحت مجمعا للنفايات والقناني الفارغة بدلا من الزهور والشجيرات، إلى جانب بعض الأفعال الخادشة للكرامة الوطنية والثقافية التي تمارس من قبل بعض الذين يجهلون القيمة الحقيقية لشخصية حسين ارخيص ولما ينبغي ان تكون عليه نصب وتماثيل بلادنا.

haylatif@yahoo.com

الموضوع السابق الدكتور علاء الاسواني ومعركة الحرية والعدالة ومكافحة الفساد

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat