صفحة الكاتب : طالب عباس الظاهر

نظرات في القصة القصيرة ... 3
طالب عباس الظاهر

القصة القصيرة ليست سوى معايشة وجدانية لحدث أو العديد من الأحداث أو مجموعة من الانفعالات الحسّية عايشها القاص كتجربة حياتية، واستطاع أن يعكسها عبر ممارسة نصية/إبداعية، ترسم وجه الحياة من وجهة نظر إنسانية عميقة .. تشف عن عمق دواخل القاص الموغلة في المجهول، وتنبئ عن توجهه الفلسفي في الحياة، متلمسة سبيلها للمعقول، لاستنادها بالأساس على تجربة حياتية معاشة، عاناها صاحبها مرة بعد أخرى، حتى رشح عنها ذلك المفرز المقروء، من خلال نجاح الإحالة لما هو محسوس، وبمدى الإخلاص وقدرة الاستلهام في رسم الصورة الحسية في الآخر، لتحريك الساكن فيه، والإثارة لمضمرات عواطفه اتجاه أشيائها، وعلى عكس الكثير من الحالات، فكلما اقتربت الصورة في الصيرورة من ذات كاتبها؛ تجلت نظارتها، وبانت عافيتها، مشيرة نحو حيوية نسغ الحياة في عروقها.. باتجاهات الشاعرية الصاعدة نحو ذرى إنسانية الإنسان، عاكسة عمق انسجامها العضوي المشكل بتوائمه في نفسه.
إذ إن تلك المعطيات المخلقة، وسواها الكثير، ستمنح عملية سردها القصة، قوة التأثير، وسرعة سحب متلقيها إليها، وديمومة الاحتفاظ بوعيه في إطاراته المخلقة، حتى توهمه في نهاية المطاف بأنه صاحب المخاض، أو مشاركاً فيه، أو متعاطفاً معه في أقل التقادير.. فيبكي ويضحك ويتوتر ويغضب، حسب قوة الإقناع وموضوعية الطرح في متنها الحكائي.
ومن بديهي القول بأن ذلك لا يتأتى بشكل مجاني، بقدر امتلاك القاص المبدع للمعرفة والصدق – جناحا الإبداع – لتكون التجربة مخلصة في نقلها لما يعتمل في شعوره الباطن من عوامل داخلية، ليغمر القارئ بها، فكلما ازدادت إحاطته بالقواعد الأساسية للقصة وأسرارها الفنية؛ كلما ازداد تمكناً من توظيف أدق تطبيقاتها الجزئية، وبالتالي خلق لحظة الإدهاش والصدم الهادئ، والخروج بالقصة سردياً، من خط سير الأفكار التقليدي في الطرق السالكة، وتجنب انحدارها وسقوطها في مستنقع برودة المألوف، والعادي من القصص والحكايات والأحداث، سبيلاً لتركها من قبل متلقيها وتحوله عنها، نتيجة عدم التوفيق بكسر حواجز السأم والملل فيه، ووقوعها أسيرة لما هو معروف ومألوف وتقليدي في الصورة الساكنة في ذائقته.
أذن، فإن الصدق مع النفس وحده، قد لا يستطيع تشكيل قصة قصيرة، نعم يستطيع أن يمنحنا نصاً إبداعياً جميلاً، لكنه لن يكون قصة، فليس كل سرد جميل للمشاعر أو تتبع تجربة حياتية، أو حكاية تفاصيل شخصية، هو بالضرورة قصة، فقد يكون خاطرة أو مجرد تدويناً للمذكرات واليوميات العابرة، أو تسجيلاً لحدث من الأحداث، وكذلك الحال بالنسبة للمعرفة وحدها، فهي أيضاً  غير كافية، وإن أسست التجربة خلفية لها، إلا إنهما معاً؛ وأعني بهما الصدق والمعرفة، سيظلان يعانيان على انفراد من فجوة تصدم المتلقي، وتصده عن الاستمرار في المتابعة، وتوقف فضول المتابعة لديه.
إن القصة القصيرة قد تتحدث عن أشخاص وصراع عصري، غير إنها تعتمد فيما تعتده - كما نعتقد - على الخبرة، المختزلة لحقب زمانية متعاقبة، لطرح معيارية لحدود السمو، أو الانحدار بالفرز لأشدّ خصوصيات الرؤية الفلسفية لكاتبها، من خلال انتخابه لزاوية الالتقاط، وصورة الانعكاس للإيقاعات الكونية في ذاته، المستلمة والمرسلة في آن معاً، باعتباره مستلماً كإنسان ومنتجاً كقاص، فصفة الاستلام عامة، أما الإنتاج فهي خاصة بالمبدعين فقط، فليس مهما ما قد انعكس في مرآته الشفافة من حركة وتفاصيل الحياة المباحة؛ بقدر أهمية كيفية الانعكاس، بموجب تلك الرؤية، وبوحي من ذلك المنظور ذي التفرد المدهش.
فإن لم يكن من الاستحالة تطابق التقاط المؤثرات الخارجة بين إنسانين من هذا الوجود؛ فمن الطبيعي سيكون من الاستحالة عكسها بنفس الطريقة..أجل قد يكون هنالك تشابهاً بعدة نقاط، والتقاء بأخرى، لكنهما على كل حال لن يتطابقا أبداً.
وكذلك الحال بالنسبة للمقاساة الذاتية للنصوص الإبداعية بالمنظور الفني للشكل والمضمون، سواء كانت لنفس الكاتب أو بمقارنتها بنصوص سواه، على إن القصة تكتب لمرة واحدة والى الأبد، لتأشير مكانتها، وتحديد موقعها الحقيقي على سلم الإبداع.
فالقيم الجمالية يتم تحسسها على نحو غامض وعجيب، حتى دون وعي كامل من متلقيها، فالكثير منها تستعذبه الذائقة الجمالية في الإنسان دون معرفة الأسباب الكامنة خلف مثل ذلك الشعور المترف، والانتشاء الطروب، وهذه من غرائب الفن ومعجزاته، وقد تقترب القصة بهذه المسافة أو تلك من الفنون الإبداعية الأخرى، كالتشكيل والنحت والموسيقى، وخاصة الشعر من فنون الأدب، لقرب منابع جذورهما العاطفية، فيما يسمى بالقصة الشعرية أو القص الشاعري وما شاكلهما، وفيما تنحو القصيدة باقتفاء الأثر نحو القمم، وتنتهي إليها في اللحظات العالية المتبلورة، بينما سيكون العكس في القصة، إذ يسمح لها أن تماشي إيقاع الحياة المفترضة في داخلها، ولعل اشد ما يجب أن تحافظ القصة والأقصوصة عليه، عدم التماهي مع قصيدة الشعر.. بخلق محوريتها، من خلال حركية بنائها، وتعددية أصواتها، وزمكانية طرحها، ولكن ليست أية حركة وأي بناء، كما في بعض الهلوسات القصصية، والهذيانات المنفلتة، التي يلجأ إليها بعض القصاصين في سردياتهم، فلا تؤدي إلاّ إلى متاهات فكرية وشعورية، فتضل أكثر ما تدل، وتشتت أكثر من كونها تلم وتجمع رؤوس خيوط السرد في الحبكة، لتضيء - كما هو مفترض لها- جوانب معتمة من الحياة، كفن يسعى جاهداً من أجل تحقيق ذاته السامية.
taleb1900t@yahoo.com
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


طالب عباس الظاهر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/04/22



كتابة تعليق لموضوع : نظرات في القصة القصيرة ... 3
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net