صفحة الكاتب : امجد نجم الزيدي

اللغة الشعرية باعتبارها كشفاً المهيمنات الذكورية والكينونة الأنثوية المستلبة
امجد نجم الزيدي
      إن تجربة كتابة الشعر هي تجربة غاية في التعقيد، وذلك لأنها تجربة العيش خارج الزمان والمكان، في فضاء تصطرع فيه البنى الفكرية والفلسفية، وتتجاذب فيه العواطف والأفكار، وتتلون مساحات القرب والابتعاد بينهما بالحساسية العالية للغة، باستخداماتها وتنوع فضاءاتها التي تحرك مناطق الاطمئنان والحس المتقشف الذي تعيش فيه مفردات اللغة اليومية، تتلبس لغة تتفاعل مع محيطها بحيوية الواثق، وروحية الكشف، حيث تتزاحم الدلالات في مدارها، وتصطرع المرجعيات في أفق التوحد، والانعتاق، انعتاق اللغة من سلطة المسلمات والبديهيات وسنن المتعارف عليه.
      الشعر مرقاب يفحص الأجرام البعيدة، ويجذبها لتدور في فضاءه، ساحقة كل اشتراطات البعد والنأي، إلى مقتربات بنائية يوجدها الشعر، وانصياع مزيف للمواضعات البلاغية والنحوية التي تحكم اللغة وتطوعها وفق الرؤية النسقية الخطية، التي تعودت عليها الكتابات الأدبية منذ أزمان سحيقة، كقوانين واشتراطات تتحكم في طبيعة النوع والجنس الأدبي.
      أصبح الشعر مساحة للكشف، مساحة للرؤى لتبني لها خطابا يعبر عن المسكوت عنه والمقصي من ذاكرة المشاع و الآني، والخطابات الرسمية التي تطوع الوعي الذاتي وتتحكم في طبيعته.
     للشعر قدرة غامضة على تحريك الدلالات والعلاقات البنائية للنص، ربما لقدرة اللغة الشعرية على تحريك مفرداته، لتبني علاقات افتراضية وتهدم أخرى، وتنشأ لها صلات متغيرة مع المتلقي من خلال النص، من خلال ما تستطيعه من شحن التوتر الدلالي، وفتح النص على الاحتمال، حيث تقوم بتنشيط عملية الدمج بين عدة فضاءات، تستند على البنية اللسانية والفضاء السيميائي الذي تطوف فيه.
      ربما يتفرد الشعر كبنية لسانية عن باقي الأجناس الكتابية، في انه يحمل روح التمرد والعصيان للعلاقات الاصطلاحية التي تمتاز بها اللغة العادية، حيث إن تلك اللعبة التي تمارسها على مستوى الخطاب، تجعل الشعر بنية استكشافية متفردة، تنفذ إلى ما وراء الصيغة الاصطلاحية والتقنين المعرفي الذي تمتاز به اللغة العادية، فربما تبدو لغة الشعر إنها تبنى وفق المواضعات النسقية للقوالب النحوية واشتراطاتها، بيد إنها ومن خلال العلاقات الدلالية التي تبنيها المعاني، يستطيع الشعر من أن يحورها ويتلاعب بمرجعياتها.
        في مجموعة الشاعرة آمنة محمود (فراشات آمنة)* يمكن للقارئ ملاحظة عدة أساليب حاولت الشاعرة بها تطويع اللغة وضخ حيوية الشعر فيها، فقد استندت في كتابتها على مستويين للغة، وهما اللغة باعتبارها أداة للجمع، أي أداة تتوحد في داخلها دلالات معينة، مبنية وفق ترتيب خاص وخاضعة إلى رؤية محددة، أريد بها تحقيق الأثر، مستندة إلى محددات نسقية خطية، متماهية ربما بالتصور الافتراضي للقارئ أو المتلقي، الذي سوف يخضع إلى تلك المحددات ويبني عليها افتراضاته القرائية، أما المستوى الثاني فهي اللغة باعتبارها أداة كشف، أداة خرق للنسقية البنائية الخطية التي يبنى عليها ظاهر اللغة، كأداة توصيل، وتأثير، وذلك من خلال تغليب قدرة اللغة على بناء أفق احتمالي للدلالات التي ينتجها النص، من خلال المقابلة أو حتى ربما من خلال النقض، ويظهر ذلك الأفق الاحتمالي من خلال الكشف عن التناصات المضمرة، ومدى قدرة النص على التجاوب معها، والتي تعيد تشكيل دلالات النص، وتمد اللغة بأسباب لخرق بنيتها التوصيلية، ومدها بقدرة على ممارسة دورها الحقيقي داخل النص الشعري، وهو دور الكاشف ودور المحرض، على فضح ما تمارسه اللغة من هيمنة بلاغية خاضعة لمحددات نسقية تهيمن على النص.
   ففي المقطع التالي من نص (أنت محبة):
 
تعيسة وغافلة
مثل غابة عذراء أصيبت للتو بحريق كبير: أنا
:حزن شق طريقه في بحر غريب.. وحين التفت
كان قد اختفى.. طريق العودة
: يائسة ومستسلمة لذلك
وذلك: نبتة مدت أذرعها في راسي
لكنها ستموت حتما.. معي
 
ينبني هذا المقطع باعتباره نصاً – وسنتعامل معه منذ الآن باعتباره نصأً مستقلاً عن باقي النص المجتزء منه هذا المقطع - على علاقة توصيفية، تتمفصل بها مجمل دلالاته  وعلاماته، وهي العلاقة البنائية القائمة بين ضمير المتكلم (أنا) و (تعيسة وغافلة مثل غابة عذراء أصيبت للتو بحريق كبير) من جهة وأيضا (حزن شق طريقه في بحر غريب.. وحين التفت كان قد اختفى .. طريق العودة) من جهة أخرى، وهذه العلاقة التوصيفية التي كان ضمير (أنا) هو مركز بناء تلك العلاقة إلى أخره من ارتباطات، حيث كانت (لذلك) هي الدلالة الموازية الجامعة للأفق الذي يصطنعه النص من خلال (يائسة ومستسلمة) وأيضا اعتبار كل هذه العلاقات مختزلة بـ (نبتة مدت أذرعها في راسي)، لتأتي النهاية الحتمية بأنها (ستموت حتماً.. معي)، ولكن عملية توليد الدلالات وبناءاتها داخل المقطع، متولدة من العلاقة ما بين هذه البناءات و التناص الذي ولد افقاً احتمالياً تماهى مع الفراغات، بيد إن خاتمة المقطع إعادة توجيهه وتخليصه من السلطة المرجعية التي ربما أضفاها ذلك التناص على مجمل حركاته، واستفاد من تغير مسارات المرجعيات النصوصية المتناص معها في أفق جديد، أعطى لدلالاته القدرة على بناء مرجعياتها الخاصة، خارج أي مهيمنات ممكنة تقسر النص على تبني توجهاتها أو طروحاتها.
                         
نلاحظ بأن هذا القسم من النص (أنا: حزن شق طريقه في بحر غريب.. وحين التفت / كان قد اختفى.. طريق العودة ) قد بني على التناص مع قصة (أورفيوس) الذي ذهب إلى العالم السفلي ليستعيد زوجته (يوريكيدي)، ولكن آله العالم السفلي (هاديس) اشترط عليه أن لا يتلفت إلى الوراء لرؤيتها، لكنه لم يستطع لشدة شوقه، فتبدد طيفها وعاد إلى مكانه في العالم السفلي، حيث يعيد هذا التناص تشكيل العلاقات والدلالات التي ممكن للنص أن يبنيها وفق التراتبية اللغوية السطحية، وكذلك التناص مع عودة يوليسيس إلى إيثاكا والى زوجته المنتظرة بينلوب بعد حربه الطويلة، إن التناص مع الأسطورتين بين التفات أورفيوس وضياع زوجته وبين عودة يوليسيس – مع التركيز على إن أسطورة يوليسيس كانت مرتبطة دوما بالسفر والانتظار، ودور البحر في ذلك السفر-  يظهران بأن هناك ارتباطا قويا بين الشخصية الذكورية الممثلة بأورفيوس و يوليسيس، والشخصيات الأنثوية يوريكيدي و بينلوب، إلا إن النص يرتبط أكثر بأورفيوس، الذي يمثل له (طريق العودة ) عودة حبه الذي فقده، وكذلك بالتعارض مع أسطورة يوليسيس الذي كانت بينلوب هي طريق العودة الذي أعاده إلى إيثاكا، مما يعطينا ربما استنتاجا بأن هذه التقابلات السيميائية بين علامات النص، توحي بأن الأنوية النصية ذائبة بسيطرة النظرة الذكورية على مقاليد العلامات وتأثيرها داخل النص، وبإننا لا يمكن أن نضع هذا النص ضمن الكتابة النسوية، لأن الكاتبة قد وقعت تحت هيمنة النسقية الذكورية واصطلاحاتها، بيد إن أنوية النص (أنا) الذات الأنثوية، البؤرة التي ربطت طرفي المعادلة، بين تعيسة وغافلة (أنا الأنثى) وحزن (أنا الأنثى المتنكرة بصفة الرجل)، وأيضا ارتباط الطرف الأول بغابة عذراء (الأنثى الخضراء اليانعة العذراء)، لتغتصب وتنتهك عذريتها من خلال (حريق / ذكر) كبير، عكست تلك الهيمنة الذكورية إلى تفعيل دور الأنثى لكشف صورتها المستلبة الساكنة وراء دلالات النص حيث تعادل في الجهة الأخرى بين فعلي الحرق الذي يمثل استسلام مع فعل شق وهو فعل أرادي، تكمن وراءه إرادة حرة، وتماهى مع الفرق الجوهري بين الأنثى (الغابة العذراء) التي أصيبت بحريق هو اغتصاب، انتهاك للعذرية، مع حزن (ذكر) شق (بإرادته) طريقه في بحر غريب، يلتف بغموض المصير الذي يتصدى له، وكذلك تظهر البنية الزمنية قوة الفعل واحتدامه على الأنثى، بينما في الطرف الأخر من المعادلة، الانفتاح الزمني وهدوءه الذي تظهره الفراغات الزمنية بين فعلي (شق طريقه) و (التفت).
       ومن خلال العلاقة بين هذه الدلالات الثلاثة التي هي (أنا الأنثى)، (أنا الذكر) والعلاقة الناتجة من طرفي المعادلة (كما مبين في الشكل أعلاه) وهي (أنا الأنثى الذكر) يائسة ومستسلمة، تظهر بأنها (نبتة مدت أذرعها في رأسي)، وهذه النبتة التي تتغذى على (أنا) أنوية النص، كنبتة هجينة متوزعة بين (الأنثى/الذكر)، والتي تعزز بقائها الحتمية التي تظهرها دلالة (ستموت حتماً.. معي)، أي إن هذه النبتة التي هي الذات الأنثوية تتغذى بقيم معينة إن كانت اجتماعية أو ثقافية، أي الازدواجية التي تعيشها الأنثى في مجتمعاتنا بين أن تكون (أنثى) ضعيفة هشة (غابة عذراء) منتهكة من قبل الأخر (حريق كبير)، أو تتنكر بزي ذكر (حزن) يعاني فقدان طريق العودة إلى إناه الحقيقية وهي (الأنثى) لذلك فقد يأس واستسلم لهذا القدر الذي سيستمر إلى لحظة الممات (ستموت (أنا/ الأنثى/ الذكر) حتماً.. معي)، حيث تبقى الأنثى لا تستطيع التصريح بكينونتها إلا من خلال التنكر بزي الذكر، أي الخضوع للمحددات النسقية التي تفرضها الرؤية الذكورية، والتي ستنمو كقناعة داخل رأس (أنا) النص وتبقى وبصورة حتمية إلى لحظة الممات.
 
 
* فراشات آمنة – آمنة محمود – دار الينابيع – سوريا – ط1 2010

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


امجد نجم الزيدي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/04/23



كتابة تعليق لموضوع : اللغة الشعرية باعتبارها كشفاً المهيمنات الذكورية والكينونة الأنثوية المستلبة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net