صفحة الكاتب : حيدر الحد راوي

الكاظم "ع" في سطور
حيدر الحد راوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

اعتاد العرب على خسارة الكفاءات ، العلمية والأدبية ، وفي جميع المجالات ، حتى إذا ما غادر الدنيا ذكره بعض الذاكرين بخير ، وتحسر عليه الأخرين ، هذه الظاهرة لا تخص العرب وحدهم بل تشمل جميع الامم والشعوب ، لكن العرب ربما لهم قصب السبق في هذا المضمار ، بدءاً من بدايات انتشار الاسلام وحتى هذه اللحظة .

كثيراً من ذوي العلم والكلام وأرباب الأقلام زجوا في السجون والمعتقلات والمطامير ، عانوا من التعذيب والتهميش ، لا لشيء إلا لانهم يحملون قيماً انسانية ، عبروا عنها بطريقة أو بأخرى ، لكن هذا لم ينل استحسان وقبول الحاكم ، فبنى أبشع السجون ليملئها بهم واستأجر أو وظّف أبشع السجانين لتعذيبهم فيها ، تنكيلاً بهم وأملاً أن يكفوا عن طريقهم الذي خطوه بفكرهم وثقافتهم أو لعلهم يسكتوا ويصمتوا ، أو لعلهم يحولوا مهاراتهم الفكرية في مصلحة الحاكم ، فينالوا منه الحظوة والقبول ، لكن هيهات أن تلتقي القيم الانسانية الرفيعة مع حاكم ظالم ومتجبر.

تمسكوا بعقائدهم وفكرهم وما آمنوا به ، واستمر الحاكم بغطرسته والتنكيل بهم ، كلما ازدادوا تمسكاً بعقيدتهم ازدادوا ألماً الى ألمهم ، واستمر تنكيل الانسان بأخيه الانسان ، لمخالفته الرأي والمعتقد ، وأحياناً البصيرة ، يخفت الانسان في قلب الحاكم ويطفح الوحش بدواخله ، جامحاً ، هائجاً ، لا يردعه رادع ، وهو يرى عقدة النقص تملأ ذاته ، عقدة لا يراها الا في من خفت الوحش بدواخلهم وطفحت انسانيتهم ، فشعر بالتهديد والرعب منهم ، بعد أن رأى منهم الصلابة والقوة والعزيمة التي لا تلين ، رغم كل ذلك القهر والتعذيب .

الانسان بإنسانيته الدافقة يمكنه تحمل المزيد من الألم والوجع ، بل كلما ازداد ألماً ازداد تمسكاً بجانبه الانساني ، لا يعبأ للثمن أو الضريبة التي سيدفعها ، أقصاها حياته ، وأقلها الإقامة في السجون ، لكن اسمه ، فكره ، إيمانه ، عقيدته ، كل ذاك سيبقى ، لا يموت بموته ، ولا يحد بسجنه ، فالفكرة كالبذرة ، تنمو عندما تجد التربة الخصبة وماء السقي والسماد الذي يكون دم صاحبها في كثير من الأحيان.

موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام لم يعش لنفسه قط ، كانت حياته لله ، وفي سبيل الله ، لم يركن للدنيا قط ولم يفكر فيها إلا في حدود بناء الجسد وحاجته التي تقومه ، عظم الله في قلبه فهانت عليه الدنيا بكل ما فيها ، وصغر في عينه الحاكم المستبد الذي يرى لنفسه ما يرى من العظمة والغرور بالسلطة والسطوة والتباهي بالملك والمنعة والتفاخر بالجيش والحرس الشديد ، لم يجامله ولم يظهر له ما كان يطمع ان يراه في جميع افراد مملكته ، كان عزيز النفس منيعاً بإيمانه مستغرقاً في ذات الله في كل أفعاله واقواله ، تجري الحكمة في منطقه ويتدفق العلم من جوانبه ، علم غزير كالبحر ، فما كان من الحاكم (هارون الرشيد) الا ان يستميله في بوادئ الأمور ، لكن الرد كان حازماً ، لا للظلم ، لا للإجحاف ، الاسلام دين رحمة وعدالة ، بينما انت يا حاكم تحكم بالنار والحديد ، لا لفضيلة منك سبقت ولا لحق منك على المسلمين ، استأثرت بالحكم على الرقاب ، التي قطعت منها الكثير ممن خالفوك الرأي وسلكوا طريق الحق والحقيقة .

ثاني أسلوب من الحاكم المتجبر هو اللجوء الى ما عرف به واشتهر ، السجن في طامورة الظلام ، المعدة للخصوم الاشداء ، لا تنفذ لها أشعة الشمس ولا ترى النور ، إلا نور روادها ونازليها ، مستعيناً بأبشع السجانين للتنكيل بهم .

عندما يظهر الانسان الوحوش التي بدواخله سيكون أبشع من سائر الوحوش التي عرفناها ، وحش الأنانية ، وحش الملك ، وحش الثروة ، وحش السلطة ، وغيرها الكثير جميعها في انسان واحد ، إن اطلقت افترست لحوم البشر وشربت دماءهم ، لا تفرق بين طفل وامرأة ، مريض أو عجوز ، بريء أو مذنب ، شريف أم ذليل ، فباللحم والدم  تحيا الوحوش وتتكاثر .

أربعة عشر سنة في سجن الطامورة التي لا ترى الشمس ، ضيق المكان ، قلة أو إنعدام الماء والغذاء ، صراخ وضجيج النزلاء الأخرين ، سطوة الجلادين ، الظلام ، بالإضافة الى ثقل الحديد ، مكبلاً الأيدي والأرجل ، لا يمكن تخيل ذلك إلا لمن عايش تلك السنين الطويلة ، غير إن المكوث في ظروف كهذه مضافاً إليها الرطوبة وأمراضها تقصر عمر الإنسان ، حتى وإن تمتع هذا الإنسان بصحة عالية فلا مجال له الصمود تحت هذه الظروف لمدة طويلة .

كان يتوقع موت الامام الكاظم "ع" في أي لحظة ، لكن المدة طالت ولم يمت ، فما كان امام الحاكم المتجبر هارون اللارشيد الا ان يستعجل بموته ويلجأ الى وسيلة خفية ، كالسم ، الذي تم تمريره بواسطة السجان ، وهكذا تم الأمر .

غادر الدنيا بكل بساطة ، لكن بشجاعة فائقة وعزيمة لم تلن ، لم يجامل ، ولم يحابي ، ولم يقلق حتى ، وما كان خائفاً يوماً من الموت الذي كان يتوقعه في كل لحظة ، بالسجن أو خارجه ، فهذا هو المصير المحتوم الذي سيلقاه كل من عارض السلطة ووقف بوجه الحاكم ، لم يفكر في نفسه ولم يحمل همها ، بل كان يفكر بالأمة حاملاً همومها  ، يحارب سياسة تجهيل السلطة للشعوب ، ويواجه أقلامها المأجورة ، ويكم أفواه المزورين بأمرها ، ويخرص ألسنتها ، يدافع عن الاسلام ضد كل بدعة يبتدعها وعاظ السلاطين ، كان عليه السلام مقاوماً في عدة جبهات في وقت واحد ، صامداً صموداً اسطورياً حتى فاضت روحه الطاهرة.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر الحد راوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/02/28



كتابة تعليق لموضوع : الكاظم "ع" في سطور
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net