صفحة الكاتب : ا . د . ضياء الثامري

كربلاء في السرد الحديث
ا . د . ضياء الثامري

أسست واقعة كربلاء بعداً إنسانياً إمتد على كامل مساحة الفضاء ألإنساني ، فهي واقعة خرجت عن كونها مرتبطة بزمان ومكان معينين ومحددين ، الى كل زمان ومكان لتصبح إطاراً يحوي بداخلة كل ما هو إنساني  بابعادة كافة ، إن هذه الواقعة جاءت لتؤسس لمعان سامية ، لأرض صلبة وخصبة تمكن القيم النبيلة من النمو ، وألإرادات الخيرة من الإستمرار، بإعتبار أن الواقعة دالة النبل والتحرر ، وألإنعتاق من ربقة الخوف من قول الكلمة .
     إن واقعة كربلاء ضمن هذا الفهم كانت تأسيساً لقول الكلمة الفاعلة ، إذ أنها كلمة لم يكن من ورائها إلا أن يكون ألإنسان إنساناً ، أي أن يمتلك إنسانيته ، وشرط ألإنسانية هنا هو الحرية ، التحررمن أي شيء يقلل من إنسانية ألإنسان ، ولهذا جاءت صيحة ألإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء مخاطباً أعداءه :( إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لاتخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ) ، إن هذا القول يضعنا إزاء حقيقة أن يكون ألإنسان إنساناً ، يمتلك خياراته إن أراد ذلك ، إن الحرية هنا تأتي مرادفاً للإنسانية ،وأعلى درجات الحرية هو التمكن من إطلاق الكلمة في فضاءات النبل والسمو والرفعة التي ترتقي بالإنسان .
     إن مغزى واقعة كربلاء ضمن هذا الفهم يتسع كثيراً خارج مساحة العقيدة ليشمل كامل الفضاء ألإنساني،وإذا كانت هذه الواقعة  قد أسست لهذا المعنى الكبير والعميق ، فإن عملية إستلهامها تحتاج الى كلمة تقترب من ذلك التأسيس ، كلمة تستطيع أن ترتقي بنفسها أولاً ، ومن خلال الواقعة ثانياً ، والكلمة المعنية هنا هي الكلمة ألأدبية ، الكلمة التي تنتخب ما يمكنها من ألإستمرار بحرية الوعي ، وإستيعاب ما تعبر عنه.والكلمة هنا – بالنسبة لواقعة كربلاء- تحتاج الى سبر المعاني السامية للواقعة ، بما ينسجم مع طبيعتها ، تحتاج الى أن تنهض بماهيتها قبل أن تحاول النهوض بمحتوى الواقعة ، لأن الكلمة إذا ما فقدت هذا الشرط فأنها لن تكون بموازاة ما تتجه إليه من فعل ومعنى ، وبدءاً يجب أن تخرج الكلمة الأدبية ضمن هذا ألإطار من تقرير الواقعة إلى إستلهامها  إستلهاماً  يفتح الباب أمام القارىء على كل المعاني الواقعة ، والمعاني التي يمكنه أن يأخذها عنها .
        إن وقوع الكلمة في مأزق تقرير الواقعة سوف لن يقدم شيئاً مدهشاً ، وسوف يكون إستعادة لما هو كائن ، أو في أحسن الأحوال إستعادة لدلالات راكزة ، وجلية ، ولا تحتاج إلى تقرير أو إعادة  .
    على صعيد ألأدب كانت واقعة كربلاء منهلاً شربت منه مخيلة الكتاب على الدوام ، فهو منهل عذب وعميق ولن ينفد في يوم من ألأيام ، لأنه ليس إلا ألإنسان .فلقد تعاملت النصوص الأدبية مع هذه الواقعة تعاملاً سار بإتجاهين إثنين:
ألإتجاه ألأول : تعامل مع الواقعة تعاملاً مباشراً ، والمباشرة هنا تعني الوقوف عند سطح الواقعة وألإكتفاء بما هو ظاهر ، أوما هو أخلاقي وقيمي بالدرجة ألأولى، وبالتالي كانت التقريرية السمة الغالبة على هذا ألإتجاه ، حيث حاولت النصوص إستعادة الشكل التاريخي للواقعة ، دون النظر الى ما يمكن أن يبنى على ذلك الشكل من تعبير فني ، ولعل الجامع الرئيس الذي يوحد معظم تلك النصوص هو رهانها ، على الحدث والمسمى بصيغتهما التاريخية الفعلية وليس الرمزية ،أي أنها استندت الى ما هو جلي الدلالة من مسميات وأفعال ، بل وراهنت على النجاح بواسطتها ، فعلى سبيل المثال ذهبت معظم النصوص في هذا ألإتجاه الى إسم الحسين (ع) مباشرة لغرض تأكيد نجاحها ، حيث لا يختلف إثنان في مقدرة هذاألإسم على إنجاح كل ما يرتبط به ، فهو إسم مكتنز بالدلالات والإيحاءات  ،وذو مساحة قيمية وأخلاقية واسعة جداً ، تمكن ألأديب  من العمل بحرية ، ولعلني لاأبالغ إذا ما قلت أن معظم ما كتب في ألأدب العربي إنما كان ضمن هذا ألإتجاه ، ولكن مع إختلاف المعالجات ، والشكل ألأدبي ، وكذلك مقدرة الكاتب على المعالجة ، وليس من الصعب ألإشارة إلى العديد من ألأعمال التي تقع ضمن هذا التوصيف ، في مجال الشعر خاصة.

ألإتجاه الثاني : راهن على لإستلهام الفني للواقعة التاريخية ومعطياتها الدلالية والرمزية وتحويلها الى وقائع نصية ، لقد نظرت نصوص هذا الإتجاه الى الواقعة كلاً واحداً ، بوقائعيتها ، وإمتداداتها ، ولهذا كانت عملية  هنا الخلق تتأسس على أرض رحبة مكنتها من الإرتقاء بنفسها وبمرجعيتها على حد السواء ، لكل ذلك نجد في هذه النصوص ما لانجده في نصوص الإتجاه ألأول ، أعني تلك الدلالات المنتشرة في معاني الواقعة ، وبخاصة تلك الدلالات التي أزاحتها دلالات أكبر منها ، أو ألأفعال التي غيبتها أفعال أعظم منها ، ومن هنا فإن قراءة مثل هذه النصوص تتطلب وعياً شاملاً بأدواتها ومرجعيتها ، وقصة( الشفيع ) للقاص العراقي محمد خضير أحدى أكثر النصوص تمثيلاً لهذا ألإتجاه .
 الشفيع/ واقعة نصية
      قصة الشفيع واحدة من قصص مجموعة المملكة السوداء ، وواحدة من القصص القليلة في الادب العراقي التي استلهمت واقعة الطف إستلهاماً فنياً يوازي قصص الكاتب الاخرى ذات المرجعيات المعقدة  ، بل وتنسجم معها ، تنسجم مع مرحلتها أعني مرحلة المملكة السوداء التي يرى فيها الناقد شجاع العاني احالة الى الجحيم، حيث يرى انها تمثل الاحباط في درجاته القصوى كما انه يضع هذه القصة ضمن ما أسماه مرحلة (الخلاص الديني ) وهي مرحلة تقع بين المرحلة الجحيمية ومرحلة الحداثة عند الكاتب محمد خضير، والخلاص في رأي الكاتب هنا يكون عبر ممارسة الطقوس الدينية ، ويعني بها الشعائر التي تقام بمناسبة استشهاد الامام الحسين ( ع ) فهذه الشعائر تمثل نوعاً من التطهير الجماعي .
       يقول محمد خضير: (( ترددت كثيراً في كتابة قصة (الشفيع ) في زحمة تأثيرات صوفية لازمتني قبيل وبعد زيارتي لمدينة كربلاء في 20 صفر 1967 وبعد مضي اسبوعين من الهواجس السوداوية كانت قد داهمتني في شوراع سوداء باللافتات ، عاصفة بقصائد الرثاء و بمواكب الرجال انصاف العراة، كنت قد انتهيت من تجليات هوسي الديني بعد أن انتزعتها من جوف شبح إمرأة حبلى كانت تتبع مواكب العزاء محلقة فوق القباب و المنائر المقدسة ، في غرف ضيقة منزوية بين سلالم ضيقة ملتوية حكت لي الاشباح المرتعشة بالبسملات وبتراتيل العذاب عن مصائر محتشدة عند بوابات وأسوار العالم الاخر ، لم تكن  قصة عن عصرنا ،ولا عن ايامنا ، انها صوت اوحي الي به في سرداب تحت ضريح مضمخ بعطور مخدرة حيث يتناهى الى سمعي صليل السلاسل وهي تصفح الظهور العجفاء الملفوحة بشموس كربلاء ))
    عند قراءة القصة نفهم قول الكاتب فهماً واضحاً  ،فالشعائر المرتبطة بواقعة كربلاء وبالحسين (ع) فتحت أمامه باباً رحباً لأكتشاف عوالم ثرية وزاخرة بالدلالات التي ترتقي بعملية الخلق الفني الى مديات رحبة  ، فالشعائر الحسينية هنا هي الدلالة المتميزة التي يعيد الكاتب اكتشافها أو يمتزج بها ليؤسس لقصة عراقية ،أعني قصة محلية تعنى بالدلالات الطازجة على الدوام ، ولذلك فهو يعلن (وجدت اني استطيع أخيراً ان ازيح هواجسي واحرر ضميري المكبل من الرعب الدنيوي ، اني لن انسى اني وجدت عالماً جديداً ، عالماً مرهقاً وكاملاً قد خلق في كربلاء محققاً كيانه المتماسك والقوي)
العنوان نصاً / النص عنواناً
    يمكن قراءة عنوان القصة من أكثر من زاوية وأكثر من مستوى ، ففي المستوى الاول يحقق العنوان (الشفيع) نصيته ليشكل نصاً بموازاة المتن الذي تتحقق فيه عملية تطهير فردي لبطلة القصة ( الإمرأة الحبلى )عبر الامتراج بعملية تطهير جماعي ، وفي كلتا الحالتين فأن عملية الشفاعة تحقق التطهير، في مستوى آخر يمثل عنوان (الشفيع ) استلهاماً أقصى لرمزية فاعل الشفاعة وهو ما لم تفعله الاعمال الاخرى التي استلهمت قصة الامام الحسين (ع) ، فالتحول بالرمز من بطل الواقعة الى شفيع يحتاج الى فهم كيفية تحقق الفعل ،وتحقق الفعل في القصة يكون عبر الاندماج في الطقوس والشعائر التي يعلن عنها بالشكل الذي تطرحه القصة ، والذي يبدو مطابقاً لما يجري في الواقع الفعلي، وفضيلة القصة هنا هي ادخال هذا المألوف في عالم ينتج دلالته الخاصة به ، أن ممارسة الشعائر هنا هي عملية بحث متعدد الاشكال عن الشفاعة ، إنها الانصهار في اجواء الواقعة من الداخل أعني الدخول الى الواقعة دخولاً نفسياً حقيقياً ومنتجاً .دخول الكاتب الذي يستلهم الحدث ويصنع منه عالمه القصصي ، وهذا الدخول الذي هذه صورته وهذا وصفه طبع العالم القصصي بالصدق الفني عبد مرسلات نصية كثيرة ليس من الصعب على القاري أن يكتشفها (( بركة الائمة هي التي جعلت كربلاء تتسع لكل هذا الخلق )) أن قول بطلة القصة هذا يوشي بالاندماح بالعالم الذي وجدت فيه ،كذلك نجد مثل هذه المرسلات في قول الراوي واصفاً غرف المنزل الذي استقرت فيه مع مجموعة أخرى من الاشخاص (لم تجد احداً امام باب الغرفة الاخيرة كانت الغرف الاخرى بدون مصاريع كاقنان الحمام او كغرفة في سجن من سجون المختار الذي حبس فيه قتلة الحسين ) أن العالم القصصي هنا ينفتح على مساحات ما بعد الواقعة التاريخية ، على وقائع تشير دلالاتها الى دلالة الواقعة الرئيسة ، أن مفردة (الشفيع ) العنوان تتغلل داخل المتن ، وتتماهى معه بحيث يصعب الفصل بينهما ، (وأخذت بصمات وأنامل الظلمة اللينة تمسد لها بطنها المنتفخ ، وتتحسس مكان سرتها حيث زادت الحياة الداخلية المرتبطة بسرتها من ضغطها للهبوط أسفلاً وأسفلاً يا شفيعي ليس الآن ، ليس الآن) أن طلب تدخل الشفيع وتأخير عملية الولادة هنا يعني طلب الاندماج في الواقعة وتحقق الولادة بعد فعل الاندماج لتكون الولادة هنا بدءاً جديداً يعلن أستمرارية تلك الواقعة ، وهذا ما سوف يتحقق على مستوى الفعل القصصي  وهو كائن في المتن السردي عبر صوت الراوي ( الشخصية الرئيسة في القصة) (إذن سيكون مسقط رأسه على هذا البلاط ، وسيكون وفياً أيضاً ، أنظر الى كل هؤلاء الزوار كم هم أوفياء0000يا شفيعي سيكون وفياً مثلهم  وسأدعه يشترك في المواكب ، ويطبر رأسه في عاشوراء شعره وحليه سأنذرها لك ، وسأميه بأسمك يا شفيعي )) وخلاصة القول هنا أن العنوان والمتن يشكلان نص القصة .
     يفيد نص قصة الشفيع من القرأن الكريم والموروث الحسيني في تأسيس ثيمة التطهير التي تختصرها مفردة(الشفيع ) عنواناً ،وحدث القصة متناً سردياً ، وحتى على مستوى إسم البطلة وهو الاسم الوحيد المعلن ( نزيهة) وخروجها من النوم الى الحقيقة عندما تلامس روحها المرمر الابيض  الذي مثل لها خروجاً كلياً، وتطهيراً كاملاً ولكي تحقق القصة ذلك فأنها تتكيء الى النص القرآني اتكاءً كاملاً (جلست الحبلى على البلاط وأراحت رأسها لحافة الدكة يتجه ظهرها لفتحة الرواق كان كل ما يحيطها بياض ،لامع أملس يسيل كمياه شفافة من فواصل المرمر الدقيقة ...فحملها نهر المرمر في سريانه المنعش البطيئ الى ارض مسحورة من خلال وهج المياه تبرز الشمس الحارقة لإبل (الغاضرية )ذات المعارج المخدرة يحدوها الحادي بين كثبان الرمل وسماء الغيظ ، وخلف الابل وأمامها يمشي الانصار بأرجل حافية وأردية سوداء يحملون الرايات حتى اشرفت المواكب على الواحة المفروشة بالسندس والاستبرق ، الخضراء بأشجار النخيل والفاكهة العجيبة الانواع ، تجري فيها انهر النمير، ترسو فيها سفينة نوح وتورد منها ناقة صالح وتمرح في أعماقها حوت يونس ).
    أن حركة بطلة القصة هنا تشير بأتجاه عالم طاهر لا يمكن اكتشافه الا في مكان الحدث نفسه ، اذ ان الخروج من مكان الحدث يحيل هذا العالم الى شكل يوتوبي ، أما في هذا المكان فاًن تحقق ذلك العالم يبدو أمراً مألوفاً ، حيث تتطهر الشخصية من كل ما يمنع تحقق ذلك العالم .




 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ا . د . ضياء الثامري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/04/26



كتابة تعليق لموضوع : كربلاء في السرد الحديث
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 2)


• (1) - كتب : د. ضياء الثامري ، في 2012/04/29 .

شكري لك يا أخي الفاضل ، والحقيقة أن هذا الموضوع بحاجة الى متابعات اخرى وأخرى


تقبل تحياتي

• (2) - كتب : علي حسين الخباز ، في 2012/04/28 .

رائع انت يا سيدي الدكتور بهذه القراءة الاختصاصية الواعية لاهم مرتكز ثقافي من مرتكزات الرواية العراقية سلمت وتقبل مودتي ودعائي




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net